عبد الواحد السويح - مقدمة ديوان "يدان تمسكان السماء عن السقوط في الوحل" للشاعرة سوسن محمود نوري

المقدمة :

نصوص تحطّم سكينةَ الرّؤيا


"يدان تمسكان السّماء عن السّقوط في الوحل" عنوانٌ بؤرةٌ لانتشارٍ نصّي يعيدُ النّظرَ في مسائل الغيب، يهتك أسرارَها ويسخر من هشاشةِ الاعتقاد في قداستها، فاسحاً المجالَ للإنسان، باعتباره السّيّد الوحيد لهذا الكون، وباعتباره -وهذا الأخطر- خالقَ الإله.
إن قراءةَ هذه النّصوص تقتضي من القارئ أن يتسلّح قدر المستطاع بمعرفة خصائص "قصيدة النّثر" الجماليّة وأن يتسلّح أيضاً بزادٍ معرفيّ وفلسفيّ لا حدّ له. فمعظم نصوص هذا الكتاب تشكّلت ضمن خطٍّ عموديٍّ تخضع الحركةُ فيه إلى منطق الشّدّ والجذبِ بين نقطتين مركزيتين هما السّماء من جهة والأرض من جهة أخرى، عالَمان يتجوّل فيهما النّصّ ليعيدَ النّظّرَ في مختلف العلاقات الّتي كانت تسود بينهما وليؤسّس لعلاقة جديدة لا عهد للإنسان البسيط بها. ولذلك تأتي ثنائية الهدم والبناء دون مقدّمات لتفاجئ المتقبّل بمجرد قراءته لهذا العنوان الّذي هو بحدّ ذاته رسالة مكتملة من شأنها أن تفجّر الاطمئنان الفطريّ للبشر وتحطّم سكينة الرّؤيا لديهم لتعيدهم إلى الذّات باعتبارها مركزاً للكون.
كنْ إلهكَ
اتّخذْ السّماءَ كوخكَ
يميّز كانط في كتابه "نقد العقل الخالص" بين حالتين: حالة البحث عن قنص المطلق وحالة قنص المطلق لكنّه ينتهي إلى اعتبار ذلك من قبيل الوهم لأنّ المطلق بمجرّد قنصه يصبح نسبيّا. ويبدو أنّ سوسن محمود نوري -عن قصد أو عن غير قصد- قد نثرت هذا التصوّر الكانطيّ في نصوصها، فالإله لا نملك القدرة على إثبات وجوده كما لا نملك القدرة على إثبات عدم وجوده. إنّه فكرة داخل العقل وليست خارجه وعلى هذا الأساس تدعو الشّاعرة إلى تقمّص هذه الفكرة و"الحلول" فيها في نفس صوفيّ مؤثّر:
اِخلعْ السّقفَ واسحبْ رجليكَ من فخّ الرّمالِ
حلّقْ في ملكوتكَ
وكنْ أنتَ إلهكَ
لقد ضمّت هذه النّصوص أيضا مواقف من الحياة والموت تقيم الدّليل على تمثّل الشّاعرة للنّصوص الشّعريّة القديمة، فلا نملك ونحن نقرأ نصّ "كن إلهك" على سبيل المثال إلاّ أن نستحضر أصداءً من أشعار أبي نواس وأبي العتاهية ومواقفهما من الحياة والموت. فأبو العتاهية يحذّر من الاغترار بالدّنيا ويدعو إلى جعلها عبّارةً لحياة أبديّة، بينما يحذّر أبو نواس من خطر الموت الّذي يتهدّدنا ويدعونا إلى الإقبال على الحياة، وهي نفس الدّعوة الّتي نجدها في نصوص الشّاعرة رغم أنّها لم تكن صريحة، فقد كانت أقرب إلى الدّعوة "بالخُلف"، لأنّ سوسن محمود نوري عمّقت من تصوير هول الوجود المأساويّ للإنسان ممثّلا في الذّات:
الحبلُ حول رقبتي لم يغيّر مهنته بعد
إلى حبل غسيل يحملُ
إعلانات العزاء
كما نثرت سوسن أوجاع الإنسان المكبّل بسلاسل أولياء الإله ووكلاء الأعراف والتّقاليد لتطلقَ صرخةً شهيرةً تداول على إطلاقها عظماء الإنسانية ممثّلة في "لا".
لا تبتئسْ فقد خلقتَ من طينٍ
إنّه الرّفض المطلق للموروث مقابل الإيمان المطلق بالإنسان باعتباره كائنا مُريدا قادرا على التّعامل جماليًّا مع تلك السّنن بإضفاء معانٍ جديدة لها تحقّقُ ما يرنو إليه من بلوغّ لمراتب الحقّ والسّعادة والخير والجمال.
تقرأ نصوص هذا الكتاب فيشدّك إتقان رهيب لطبيعة الجنس الأدبي الّذي انخرطت فيه ممثّلاً في ما يسمّى بقصيدة النّثر. فللشّاعرة قدرةٌ رهيبة على التّشظية وخلق صور غير معهودة يساعدها في ذلك امتلاك اللّغة وانفتاح طريف على معجم غربيّ يؤطّر التّجربة في سياقها الحَداثيّ.
لا أريد في تقديمي المتواضع هذا أن أسقط القراءة الصّوفيّة على هذه النّصوص رغم الحضور المكثّف لهذا النّفس ولكنّي أميل إلى القول بأنّ سوسن محمود نوري جمعت في نصوصها بين الفلسفة والتّصوف والتّراث الشعريّ القديم، وفي الآن نفسه انفتحت بنا على عالم شعريّ خالص ينتصر للإنسان ويؤمن بالحداثة وبتبدّل الزّمن وبضرورة القطع ابستمولوجيًّا مع السّائد...

عبد الواحد السويح



1648552571181.png


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى