كريمة صنباوي - مظاهر القراءة النقدية عند القدماء

لقد اهتمت الدراسات اللغوية المعاصرة ـ و لا سيما الأسلوبية مـــنها ـ بدور القارئ في إنتاج الخطاب اللغوي و أكدت أن له حضورا بينا يتمثل في أن المتكلم حين ينتج خطابه ، يضع في ذهنه كـل مــا يتــعلـق بـطبيعة المتلقي ، فيتصرف في توجيه مسلكه اللغوي بما يتلاءم مع تلك الطبيـعة[1]

و نحن إذ نشير في هذه البداية إلى الدراسات المعاصرة ، فما ذلـك إلا تماشيا و تلك الحماسة التي تصاحب كل جديد ، و التي تخرجــه عن الموضوعية ،فيتناسى أصحابه إنجازات من تقدمهم حتى كأن ما يأتـون به يفتح به عليهم أول مرة و لم يسبقهم أحد إليه .

إن هذه الحماسة المشار إليها تحاول أن تؤرخ لفعـل القــراءة و التلــقي بفترة الحداثة أو المعاصرة ، و تنسبه للنقــاد الــغربـــيين ، ذلك حينما أكد أغلب المتبنين لهذه الحماسة ، و على رأسهم غسان السيد الذي يقول:״ إن الاهتمام بالقارئ هو من فتوح النقد الغربي الحديــث . و إذا استــعـرضنا تاريخ النقد القديم نجد أن النقد ركز على النص ، و عــلــى مــبــدع النص متجاهلا تجاهلا تاما القارئ . كان هذا حال النــقـد الــعربــي الــقديـم الذي انصب اهتمامه على النص الأدبي و حسب״[2]

ذهب هؤلاء إلى القول ، بأن أمر القراءة و مسألة الاهــتمـام بالقارئ لم تكن من اهتمامات النقاد القدماء ، إذ إن هؤلاء لم يقفوا في عمــلـية الإبداع إلا على النص و نسيجه ، لقد تناسى أصحاب هذا الاتــجـاه أنــه فــي هــذا الوقت الذي أصبحت الدراسات الحديثة و المعاصرة تعمل على الــتنـظير لعملية التلقي وتطبيق مختلف المناهج عليها ، كان للعربي منذ الجاهليـة أن تخطى كل ذلك تاركا لذاته المتلقية كل الحرية في تتـبـع الـعمــل الأدبــي ذلك أن طابع الشفوية كان السمة الغالبة على التلقي فـي كـل أنــحاء البيئة العربية فالعرب قالت الشعر بالفطرة والسليقة ، و تلقتة كذلك بــالفــطرة و السليقة.

لقد أولى اليونان أهمية كبرى بالقارئ و القراءة و هو مــا ظــهر عـند أرسطو الأب الروحي للنقد اليوناني ، بل النقد الأدبــي بعـامة حيث إنــه تحدث عن فلسفة جمال التلقي في مؤلفاته المختلفة ، و فــي هــذا يقــــول محمود عباس:״ ربما كان أرسطو في تاريخ الحركة النقدية من أبرز رواد الفكر اليوناني اهتماما بفلسفة التلقي أو مفهوم الجمال في استــقبال النــص ففي رصيده الفكري و النقدي يتمثل لنا اهتمامه بهذه الــمسـألة ، و كــأنـها محور هام يستقطب تفكيره و يستجمع فلسفته في الحديث عن أجنـــاس الأدب״[3]

إذا كان ذلك فالعرب لم يختلفوا عن اليونان في هذا الاهتــمام ، بــل إن القارئ في المجتمع العربي القديم ، كان بمثابة الهاجس الذي يخشى من وقوعه كل فرد مبدع ، فهؤلاء الشعراء الجاهــلـيـون ينمقون


القصــائــد و يعيدون النظر فيها لمرات عدة ، و ما ذلك إلا اعــتـبارا للمتلقي و خوفا من وابل انتقاداته. يقول الحبيب منسي:״إن حضور المتلقي في النقد القديم أمر ملفت للنظر إذا ما قيس بالباث ذاته ، و كأن حضـوره يــؤرق الشاعر و يدفعه إلى إجادة صنيعه الذي تأرجح بين الارتجال العبقري و التــجـويد الذي يستعبد صاحبه فلا يـخرج عــلـى الـنـاس إلا و قــد اســتدار الحــول و تذهبت القصيدة....״[4]

إن هذا القول للباحث منـسي إنما يدل على أن العمل الأدبي لا يمكن أن تبرز قيمته أو حتى تكتب له الحياة إلا إذا أولاه القارئ بعنايته مهما كانت طبيعة هذا القارئ ، قارئ عاد أو قارئ محلل ناقد . فالقيمة الفنية للعمل لا تظهر إلا في اللحظة التي يستنطق فيها القارئ النص.

و إذا كانت هذه الدراسة تركز على إشكالية مظاهر القراءة النقدية عــند الــقدمـاء فإنه يجدر بي الإشارة إلى أن القدماء أدركوا ــ إلى أقصى حد ــ وظيفة القارئ المستقبل للنص ، بل و صلوا حتى إلى تحديد موقعه ، و ذلك فــي سـيـــاق تحديدهم لماهية الشعر و أركانه ، هذا و تـجــدر بـي الإشــارة كــذلك إلى أن القارئ الذي تم تحديد هويته عند القدماء هو شبكــة مــن الذوات ، ذات منصتة سامعة و ذات مشاهدة و ذات قارئــة و ذات رابــعــة هــي الـذات المبدعة المؤولة و قد كان القدماء ينظرون إلى هذه الذوات بعين الاعتبار.

إن الذات القارئة هي موضوع مداخلتنا في هذا اليوم و هي التي يمكنها أن تقودني إلى الكشف عن أشكال القراءة عند القدماء و كـذا مستويـاتــها و من ثمة الوصول إلى القراءة النقدية و تحــديـد المــنهج المعتـمد فيها ثم طرح السؤال هل أحدثت القراءة النقدية إشكالية لدى القدماء أو لم تحدث؟؟

أقول هذا علم أن النقد العربي القديم كان أكثر موضـوعـية مــن نــظرية التلقي الحديثة فهو لم يجعــل حــرية القــارئ مطلــقة بل قيدها ، باستعماله احتمالية النص المقروء ، فالقارئ ليس حرا حرية مطـلقة فــي فهم النص و تأويله كما يريد و يؤكد هذا الدارس عبد القادر عبو الـذي يــشير إلى أن النقاد القدامى شكلوا لأنفسهم هيئة قرائية تدل عــلى تشــكيلات قــرائية في المجتمع ، و ذلك لأن تلقي الشعر و استقباله لدى العرب القدامى لم يخضع لذوق واحد محدد سلفا ، و لأن كل ذوق كان مــزودا بــخــلفية مـعــرفـية و علمية و مذهبية فطغى على ساحة الـنقـد الأدبــي مــا يــسمى بــظاهرة الخصومات و الوساطات و المفاضلات[5] و قد أسهم كل هذا في البحـث عن جماليات النص الشعري ثم الحكم عليه بالجودة أو الرداءة . فالأحكام النقدية عند القدماء كانت تنبع من صميم النص و مــن قــناعـات النــقــاد و ثقافاتهم المتعددة .

لقد نبه أحد الباحثين في دراسة لــه حول المنهج التاريخي بأنه المنهج الذي يعول كثيرا على دور البيئة و التاريخ في الأدب و الشعر. أشار هذا الدرس إلى أن المنهج كان معتمدا علــيه كــثيرا مــن طــرف النقاد العرب القدماء حيث توصل هؤلاء بحسهم السليم إلى أثر بيئة البــادية فــي شــعـر العرب[6] ووقفوا على عدة معالم اجتماعية و بيئوية هي من صميم أعراف المجتمع العربي ثم أكد أن مثل هــذه المــلامح هــي مـا غلب على قراءات نقادنا القدماء. غير أن الدارس عبــد المــلك مرتــاض يــصل بقراءة النقاد القدماء إلى أبعد من هذا، وذلك حينما يحدها بثلاثة مستويــات ، المــستوى النحوي و اللغوي و الأسلوبي ، في الغالب كان الــقارئ يــعمد إلى شرح الألفاظ الغريبة و يفك غموضها ثم يأتي بعد ذلك و يــخــرج الــنص الذي شرحه تخريجا نحويا مقدرا و معربا ، و كان مثل هــذا التــخريــج يـكمل شرح الألفاظ و يكشف عن البنية الأسلوبية للكتابة المقروءة و هذا يساعد على الوصول إلى المستوى الثالث الذي يعمل على نثر البيت و تلخيــصه في صورة أسلوبية .

و الذي تجدر الإشارة إليه أن أغلب النقاد القدماء ، كالجاحظ و ابــــن سلام و الجرجاني و غيرهم إنما وقفوا في دراساتهم النقدية عــلى ظـواهر معينة و موضوعات و قضايا هي في عمومها جزئيات من النص كـكــل هذا النص الذي لم يكن يتعدى البيت الواحد أو البيتين ـ فقراءات هؤلاء لـم تتناول النصوص الشعرية تنـاولا شموليــا و لــم يــحدث هــذا إلا نــادرا .

إن هذا يؤكد أن القراءة الــنقدية أسست تــقــاليــدها على تشريح النص المقروء، و الذي يساعدها على ذلك هو التطور الحـاصل فـي علوم اللغة و البلاغة و منه فشرح النصوص كان الصفة الغالبة على الـقراءة النقدية هذه القراءة التي اجتمع فيها ‘إبراز جــمالــيات البــيان و البـديع و حسن التخلص و مبررات تعدد الأغراض و هو ما ساعد على تشعب توجهات القراءة النقدية بتوجه أصحابها ، فذهب النحويون إلى التراكيب النحوية في النص و بحثوا عن الشواهد فيها و موطن اللحن و الخطــأ ، و ذهب البلاغيون إلى استنباط جمالية النص الفنية و منــه البحــث عــن أســرار البلاغة و حسن البيان وغير ذلك مما يدخل في عـمـق الــبحث البــلاغي .

إن الذي لا بد من التأكيد عليه و الذي يتضح جليا من خلال ما سبق هو أن النقد حينما اربط بالقراءة عند القدماء فإنه ساهم و بــشكل مــميــز فــي الربط بين القارئ و النص و أصبح النص هو الذي يحدد نــوعية الــقارئ و بذلك فقد قسم النقد القراء إلى طبقات :

ــ الطبقة الأولى: هي طبقة القراء الممتلكيـن للمنحى التقبلي لتذوق النص و هم يمتلكون الأدوات الإجرائية لاختراقه فهؤلاء قد ارتقوا إلى مستـوى هذا النص.

ــ الطبقة الثانية: هم طبقة القراء الذين تتحدد علاقتهم مع نص مضطرب مفكك، مفتقر إلى الإحكام و التناغم الجمالي ، إنهم القراء الذين يقول عنهم القاضي الجرجاني :״.... أمـا المختـل المــعيـب و الفـاسد المـضطرب فله وجهان أحدهما ظاهر يشترك في معرفته و يقل التفاضل علمه............״[7]

و ما يدل هذا إلا على الوعي العميق للعلماء القدماء بجماليات النـص الفنية . فهذا القاضي الجرجاني قدم رأيه في النص و متلقيه و سبقه إلـى هذا نقاد آخرون أمثال ابن سلام الجمحي و ابن قتيبة ثم جاء بعده آخرون أمثال عبد القاهر الجرجاني و حازم القرطاجني و غيرهــم و ســأحــاول بسط بعض آرائهم حول النص و قراءته .

فابن سلام قد ساهم بقراءته الناقدة في الوقوف على ما أصاب الشعر مــن انتحال و تلفيق و أكد أن ذلك ما ذهب بالشعر و بريقه يــقــول : ״ و فــي الشعر مصنوع مفتعل ، موضوع كثير لا خير فيه و لا حجة في عربيــته و لا أدب يستفاد و لا معنى يستخرج ...״[8] . إن ابن سلام يدعوا من خلال هذه القراءة إلى إحاطة الشعر بسياج وقائي للحفاظ على جماله و روعته . أما ابن قــتيبة فيرى أنه لا يمكن الحكم على النص إلا بعد قراءته قراءة جادة و يدعو إلــى عــدم النــظر إلــى صاحب النص بل إلى النص ذاته .

و أما عبد القاهر الجرجاني فقد أصر على أن الــنقـد عملية تلق لا يجب أن تظهر آثاره على الناقد ، إنما تظهر في أحكامه علـــى النص . إنه يؤكد بهذا على حركة التفاعل بين النقد و النص و لذلك عــمل هـو عــلى انتهاج المسار الوصفي المؤيد بالشواهد المحللة تحليلا لغويا و بلاغيا على أساس منهجي متين يتمثل في نظرية النظم ، فركز على حركات النفــس أثــنــاء عملية القراءة و رصد الآثار النفسية و الجمالية التي يتركها الأثر الــفــني في وجدان القارئ[9]

و من هنا يمكن القول إن الــقــراءة النــقدية عــنــد الــعلماء الــقدمــاء و بمناهجها المحدودة جدا لم تضيق مطلقا على النص . عكس مــا نــجده اليوم مع المناهج القرائية الحديثة و بخاصة عــندما وجدنا النقاد القدمــاء و ببعد نظر و ذكاء لطيف قد توجهوا في قراءتهم توجهات متعددة نحوية و لغوية و أسلوبية . و هي توجهات ــ و إن رأى البعض قصور بحثها ــ إلا أنني أرٍى أنها كانت السبيل الأول للكشف عــن الكــثير مـن جماليات النصوص القديمة و عبقرية أصحابها.

الهوامش والإحالات:

[1]ينظر د ابتسام حمدان فاعلية التلقي عند عبد القاهر الجرجاني. مجلة التراث العربي . اتحاد الكتاب العرب عدد114 حزيران2009 ص190

[2]ينظر غسان السيد الاهتمام بالمتلقي ليس فتحا جديدا . المجلة الثقافية .

[3]د محمود عباس عبد الواحد قراءة النص و جمالية التلقي بين المذاهب الغربية الحديثة و تراثنا النقدي . دار الفكر العربي . القاهرة ط1(1996) ص45

[4]د الحبيب منسي . القراءة و الحداثة(مقاربة الكائن و الممكن في القراءة العربية). منشورات اتحاد الكتاب العرب 2000 ص 20

[5]ينظر د عبد القادر عبو . مجلة الفوانيس السينمائية. جامعة سعيدة 12-ـــ ـ02 ـــ 2008

[6]ينظر خالص مسور . مناهج النقد الأدبي السياقية

[7] الجرجاني . الوساطة بين المتنبي و خصومه . تح محمد أبو الفضل إبراهيم و علي محمد البجاوي . ط2 1951 ص 413

[8] ابن سلام الجمحي . طبقات فحول الشعراء . قرأه و شرحه علي محمد البجاوي . د ت . د ط

[9]د ابتسام حمدان . فاعلية التلقي عند القاهر الجرجاني . ص 198



- كريمة صنباوي
جامعة أدرار ( الجزائر )

* منقول عن مجلة جامعة ورقلة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى