بشرى تاكفراست - نظرية الشعر عند حازم القرطاجني

عرف القرن السابع ومطلع القرن الذي يليه مدرسة بلاغية عربية تسحق أن يتناولها المهتمون بالدراسة النقدية والبلاغية المقارنة وأن يعتنوا بها، وهي مدرسة يبدو واضحا – من خلال الآثار التي وصلتنا- أن أعلامها كانوا جميعا أحسن اطلاعا وأعمق فهما للمنطق الأرسطي ومضمون كتابيه: “الشعر” و”الخطابة من النقاد والبلاغيين الذين عرفتهم القرون السابقة في مشرق الوطن العربي ومغربه بعد أن نقلت كتب أرسطو في القرن الثالث الهجري إلى اللغة العربية… وبفضل عربية أعلام هذه المدرسة العميقة والمتفتحة على الثقافة الهيلينية، وبالضبط التفكير الأرسطي استطاعوا أن يخدموا ويفيدوا الدرس البلاغي العربي، وأشهر أعلام هذه المدرسة : حازم القرطاجني ابن البناء المراكشي العددي وأبو القاسم السجلماسي.

يعد حازم القرطاجني المتوفى 684هـ أسبقهم زمنا[1] فقد كان ” كان أوحد زمانه في النظم والنثر والنحو واللغة والعروض وعلم البيان. روى عن جماعة يقاربون الألف وروى عنه أبو حيان وابن رشد وذكره في رحلته فقال: ” حبر البلغاء وبحر الأدباء ذو اختيارات فائقة واختراقات رائقة لا نعلم أحد ممن لقيناه جمع من علم اللسان ما جمع ولا أحكم من معاقد علم البيان ما أحكم من منقول ومبتدع، وأما البلاغة فهو بحرها العذب والمتفرد بحمل راياتها أميرا في الشرق والغرب، وأما حفظ لغات العرب وأشعارها وأخبارها فهو حماد روايتها. يجمع إلى ذلك جودة التصنيف وبراعة الخط ويضرب بسهم في العقليات والدراية أغلب عليه من الرواية.”[2] استقى من كل المرجعيات الثقافية ذات البعد الاسلامي النقلي والبعد العقلي المنطقي الفلسفي التي أثرت في مساره العلمي وأثمرت كتابه ” منهاج البلغاء وسراج الأدباء”[3] الذي مثل مشروعا بلاغيا متكاملا وأسس لنظرية “علم الشعر المطلق” بعد قراءة إنتاجية للتراث الأرسطي من متون شروح الفلاسفة المسلمين.

حين طرحت قضية التأصيل النظري للشعر بحدة في القرن الرابع الهجري اكتسبت كلمة “صناعة” معناها الاصطلاحي في ميدان فن الشعر بعدما أصبح الشعر صناعة كباقي الصناعات… وخلفت هذه القضية إنتاجا غزيرا وصلنا منه كتاب “عيار الشعر” لابن طباطبا العلوي وكتاب” نقد الشعر لقدامة بن جعفر ، والملفت للانتباه أن محاولات التأصيل النظري للشعر ظلت مقترنة – في الأغلب- بنقاد على صلة بالثقافة الفلسفية، فبقدر اقتراب الناقد من حقل الفلسفة كانت كتاباته تزداد توهجا وعمقا وأصالة…

يقع ” علم الشعر” عند حازم القرطاجني في إطار دائرة أوسع هي “صناعة البلاغة” أو “علم البلاغة” الذي يحتوي “صناعتي الشعر والخطابة”[4].، وموضوع علم البلاغة أو صناعتها هو الأدب وخاصة الشعر والخطابة ، ويؤمن حازم القرطاجني أن الطبع أمر لازم للشعر ، ولكن الشعر ليس مجرد طبع فحسب ، وإنما هو معرفة بمجموعة من القوانين الأساسية تشكل ما يسمى” العلم بالشعر”، وكأن للعلم بالشعر جانين متداخلين: جانب فطري مرتبط بالتلقائية التي يتميز بها الشاعر والتي تمكنه من إدراك ما لا يدركه الآخرون، وجانب آخر مرتبط بالتعلم واتباع الأصول والقواعد المتعارف عليها، وبدون الجمع بينهما يغدو العلم بالشعر مستحيلا… وهذا ما دفع حازم القرطاجني إلى أن تأكيد جانب القيمة في الشعر لن يتأتى إلا بوضع “منهاج ” يهدي عملية التذوق والتخييل والتفسير وبالتالي التقييم على مستوى المتلقي، ووضع “سراج” يضيء عملية التعلم على مستوى الإبداع فيكشف عن مغزى الشعر . فكانت خطوته الأولى أن وضع حدا للشعر قائلا:” الشعر كلام موزون مخيل مختص في لسان العرب بزيادة التقفية إلى ذلك.”[5]…

لقد خالف حازم القرطاجني علماء العروض في عدة جوانب منها:

إلحاحه على مصطلحات متميزة بعضها خاص به وبعضها الآخر منقول عن الفلاسفة مثل مصطلح ” الأرجل” الذي يشير إلى المقاطع الصوتية، وقد ورد مجملا في كتاب ابن سينا ” فن الشعر” إلا أنه يرد عند حازم مفصلا فيحتوي ثلاثة أنواع من الأسباب : خفيفة / ثقيلة/متوالية، وثلاثة أنواع من الأوتاد: مجموعة / مفروقة / متضاعفة.
عدم تقبل حازم القرطاجني لفكرة الدوائر فيؤكد تمايز الدوائر العروضية واستقلالها رافضا أن يكون بحر السريع مثلا مرتبطا بدائرة المنسرح أو متفرعا عنها.
رفض حازم القرطاجني الاعتداد بكل ما قبلته العرب في زعم العروضيين ما لم ينقل عنها مثل وزن “الدوبيت” الذي يستحسنه حازم رغم أنه لم يثبت للعرب ويصفه بقوله :”لا بأس بالعمل به فإنه مستظرف ووضعه متناسب”.[6] وفي نفس الوقت يشكك حازم القرطاجني في وضع العرب لوزن “الخبب ” ويرفض وزن المضارع لأن طباع العرب كانت أفضل من أن يكون هذا الوزن من نتاجها.

وأساس الرفض والقبول عند حازم مرتبط بحرصه على تمييز الأساس الإيقاعي للأوزان في ضوء فكرة الانتظام في الزمن والتناسب في السمع، لذا يؤكد على التناسب الوزني قائلا:” قد صح بالاعتبارات البلاغية في تناسب المسموعات وتناسب انتظاماتها وترتيباتها وكون المناسبات الوزنية جزءا يدخل تلك الجملة أن الأوزان المستعملة الآن عند أهل النظم – مما ثبت استعمال العرب له وما شك في ثباته، وما لم يثبت أصلا بل وضعه المحدثون قياسا على ما وضعته العرب – متركبة من ثلاثة أصناف من الأجزاء خماسيات وسباعيات وتساعيات، وإن لم يسلم في هذا العروضيون.”[7]

وتناسب الوزن هو التعاقب الزمني للحركات والسواكن لصنع التشكيل العروضي للبحر، والتشكيل العام يتركب من وحدات أصغر، إذ تتألف الحركات والسواكن في مجموعات صغرى هي الأسباب والأوتاد أو ما يسميه حازم القرطاجني “بالأرجل” ، وتعاقب الأرجل يصنع وحدة أكبر هي البيت أو “التفعلة” وتعاقب التفاعيل / تعاقب الاجزاء يصنع صورة الشعر التي تصنع بتكرارها المساوي في الكم صورة البيت وبالتالي صورة الوزن والبحر… قد تكون التفعلة عند حازم القرطاجني خماسية أو سباعية أو تساعية وتصنع كل تفعلة البحر بأكثر من شكل في تعاقبها، وأبسط أشكال التعاقب هو تكرار تفعلة واحدة (هزج- كامل- متقارب) وهناك الشكل المركب للتعاقب عن طريق المزاوجة بين تفعلتين مختلفتين بحيث يشكل ازدواجهما وحدة متكررة على نحو ثنائي في الشطر( الطويل – البسيط)، وإما أن يتركب الشطر من تفعلتين متماثلتين تتوسطهما تفعلة مغايرة ( خفيف- مديد)، أو تعقبها تفعلة مغايرة (السريع).وهناك شكل آخر يتركب فيه الشطر من ثلاث تفعيلات وهو المنسرح الذي يتدرج فيه التعاقب، فتكون التفعلة فيه من الأثقل إلى الأخف ومن الجزء إلى ما يناسبه.

لقد رفض حازم القرطاجني تطرف الوتد المفروق في تفعلة “مفعولات” لبحر المنسرح ، فنقل الوتد المفروق الذي كان في نهاية الجزء عند الخليل: مستفعلن مفعولات متفعلن ،لتصبح مع حازم القرطاجني : مستفعلاتن مستفعلن فاعلن.

وبتتبع حازم القرطاجني للنتاج الشعري العربي استخلص أن لكل وزن صفة تلازمه ، فالطويل يعبر به عن البهاء والقوة، والكامل للحسن والاطراد، والخفيف للرشاقة، والمتقارب للبساطة والسهولة، والمديد للرقة واللين، والرمل للين والسهولة، والبسيط للطلاوة، والمنسرح للاضطراب، والسريع للكزازة، والهزج للسذاجة، والمجتث والمقتضب للطيش ، والمضارع فيه كل قبيحة[8].

ويقرن حازم القرطاجني حديثه عن الوزن بالحديث عن القافية باعتبارها تختص بالشعر، فهي وثيقة الصلة باللذة التي يحدثها التكرار المنتظم للمقاطع ” ولو أجروا أواخر الكلم كيف أتفق ، لم يكن ذلك ملذوذا ، لأن ذلك أمر لا يرجع إلى نظام… ولو كان الأمر على غير نظام ، لما كان للنفوس في ذلك تعجيب ، ولكانت الفصاحة مرقاة غير مُعجزة أحدًا.”[9] لذا وجب إحسان وضع القوافي وتحري إحكامها من جهاتها الأربع :

جهة التمكن حتى تكون القافية التي استدعاها المعنى مؤتلفة مع ما قبلها.
جهة الوضع المرتبطة بوحدة الروي ووحدة حركة الروي ” والذي يجب اعتماده في مقاطع القوافي أن تكون حروف الروي في كل قافية من الشعر حرفًا واحدًا بعينه ، غير متسامح في إيراد ما يقاربه معه، ومما يوجبه الاختيار أيضًا أن تكون حركات حروف الروي من نوع واحد ، لا يجمع بين رفع وخفض ولا غير ذلك.”[10]
جهة كونها تامة أو غير تامة إذ ” لا يخلو الأمر في هذا من أن تكون الكلمة الواقعة في القافية غير مُفتقِرة إلى ما بعدها ، ولا مفتقر ما بعدها إليها ، أو يكون كلاهما مفتقر إلى الآخر، أو تكون هي مفتقرة إلى ما بعدها ولا يكون ما بعدها مفتقرًا إليها ، أو أن يكون ما بعدها مفتقرًا إليها ولا تكون هي مفتقرا إليه.”[11]
جهة اعتناء النفس بما وقع في النهاية ، ولأن النفس تعنى بما يقع في القافية من حسن أو قبح ” فإنه يجب ألا يوقع فيها إلا ما يكون له موقع في النفس بحسب الغرض ، وأن يتباعد بها عن المعاني المشنوءة والألفاظ الكريهة. “[12]

نخلص إلى أن حازم القرطاجني أسس نظرية للشعر العربي تتجاوب مع المنطق والفلسفة والإبداع سانا قانونا كليا لمعيار الجودة والرداءة. خاصة حين بحث عن مكامن الجمال مستنبطا قوانين كلية تتم في رعايتها اللغة الشعرية تشكيلا وبناء وإيقاعا وتلقيا، بهدف القضاء على الضعف و الانحلال الذي أصاب درس البلاغة والنقد في زمانه، مقدما بذلك أنضج تصور في النقد العربي قائم على عقل مدرك واع وذوق رفيع، و أنجح محاولة منهجية يتيمة في التراث العربي لإقامة تصور نقدي للوزن الشعري، حين انفرد عن باقي البلاغيين بفكرة التناسب في الأوزان فأكد على توخي التوازن في بناء أجزاء البحور الشعرية للحصول على ايقاع قادر على تقديم الدلالة في أكمل وجه، كما انفرد عن علماء العروض بإضافة الأجزاء التساعية إلى جانب الخماسية والسباعية وذلك حين استدل عليها ببحر الخبب المتكون متفاعلن متفاعلن مرتين.

ويبقى كتاب “منهاج البلغاء وسراج الأدباء ” قيمة علمية مكتسبة في الدرس البلاغي العربي شرقا وغربا، ويبقى حازم القرطاجني قامة فكرية نجحت في المزج بين الثقافة الهيلينية والثقافة العربية كما نجحت في التوفيق بين درس الفلسفة ودرس البلاغة دون تغييب أحدهما في الآخر.




[1] ولد أبو الحسن حازم بن محمد بن حسن القرطاجني عام 608هـ بمدينة قرطاجنة…عاش في طفولته وشبابه عيشا رغدا، حيث كان أبوه متوليا خطة القضاء في قرطاجنة حتى وفاته سنة 637هـ . بدأ حازم ككل الأطفال في عصره، بحفظ القرآن، وتخرج في قراءته على شيوخ أجلاء، ولما يفع حازم أقبل على دراسة العلوم الشرعية واللغوية، واكتملت عناصر ثقافته فكان فقيها مالكي المذهب كوالده، نحويا بصريا كعامة علماء الأندلس، حافظا للحديث، راوية للأخبار والأدب، شاعرا… ولعل شيخه الشلوبين لاحظ فيه استعداداً للأخذ بالعلوم العقلية، فوجهه إلى مطالعة كتب الفلسفة الهيلينية في المنطق والخطابة والشعر. هاجر إلى مراكش ومنها إلى تونس… وبقي حازم يعيش في ظل الحفصيين إلى أن توفي سنة 684 هـ.
[2] أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض، المقري، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي، القاهرة 1942، الجزء3 الصفحة 172.
[3] واحد من أهم كتب التراث العربي عامة، وكتب التراث الأندلسي خاصة، تفرد فيه حازم القرطاجني بتناوله لقضايا كتابه بأسلوب حكمي فلسفي دقيق؛ ويستعمل كثيراً من المصطلحات الفلسفية، وخاصة مصطلحات المناطقة، قدم له وقام بتحقيقه محمد الحبيب ابن الخوجة.
[4] منهاج البلغاء وسراج الأدباء، حازم القرطاجني، تقديم وتحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة، الطبعة الثالثة، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1986، الصفحة 19.
[5] المصدر نفسه، الصفحة 89.
[6] المصدر نفسه، الصفحة 243.
[7] المصدر نفسه، الصفحة 226.
[8] المصدر نفسه، الصفحة 268 – 269- 270.
[9] المصدر نفسه ، الصفحة 124.
[10] المصدر نفسه، الصفحة 272.
[11] المصدر نفسه، الصفحة 276.
[12] المصدر نفسه ، الصفحة 275- 276.



* دة. بشرى عبد المجيد تاكفراست
أستاذة النقد الأدبي ومناهج الدراسات الأدبية
كلية اللغة العربية/جامعة القاضي عياض
مراكش / المغرب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى