جورج جحا يكتب عن هي قالت هذا لفهد العتيق: كآبة ووحدة وطرق لا توصل ...

المجموعة صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2007م وجاءت في 137 صفحة متوسطة القطع. عمل فهد العتيق الأخير كبعض اعماله السالفة تتداخل فيه انماط كتابية مختلفة في سمة أصبحت مألوفة هذه الأيام وسميت تداخلا في الأنواع او نصوصا مفتوحة واعتبر كل ذلك من تجليات العمل القصصي الحديث. في قصص المجموعة سمات خاصة دون شك واجواء موحية جميلة قوية الوقع الي حد انها أحيانا تبدو كأنها تطبق علي صدر القارئ وتكاد تخطف أنفاسه.

ومع كثير من الخصوصية فيها فان القارئ ربما وجد نفسه يستعيد أجواء متعددة منها لفرانس كافكا وليوسف الشاروني وزكريا تامر وحتى رشيد الضعيف كما في قصة العتيق اذعان صغير . استهل الكتاب بقصة عنوانها انفاس الليل . انها عمل ترد فيه السمات القصصية في اجواء شعرية وجدانية تصويرية تنقل العالم الخارجي بدقة حينا كما تنقل نبضات النفس الداخلية ـ وحتى هواجسها ـ متداخلة مع هذا العالم الخارجي حينا اخر.

وهي تشكل نصا ربما اختلف عن عدة نصوص اخري في الكتاب. تبدأ القصة كما يلي في هذا الليل البري البارد والهاديء والمخيف والممطر بهدؤ كنت اسمعه يأتي خفيفا من بعيد كأنه صوت طائر محبوس او صوت لكائن لا اعرفه.. لكنه صوت انيس يشبه الموسيقي احيانا ويشبه الرنين البعيد.

ويترك بطل القصة سيارته في وهد هبطت فيه ويسير وسط الليل مفتشا عن مكان غامض يشير اليه احيانا وكأنه لا يشير بل كأنه يزيده غموضا وايغالا في الرمز رغم كل الصفات الواقعية التي يغدقها عليه. ويضيف مشيت مسافة نصف ساعة تقريبا حتي اضعت انوار سيارتي ولازال الصوت الخفي يتبعني مع صوت المطر علي الارض الرطبة والهواء البارد يضرب صدري ضربات متتالية حتي بدأت اشعر ان حلقي صار اكثر جفافا وخشونة مع احساسي بالدوار وخطواتي اصبحت اقل اتزانا وبدأت اتحدث مع نفسي وأنا اضرب الارض الممطورة بقدمي الرخوتين حتي عاد صوت الطائر المحبوس قادما ربما من البعد يضيء ظلام الوقت والمكان والروح والاسئلة والخوف..

ومع ما في نهاية القصة من خطرات فكرية تبقي اهميتها في الصياغة الفنية الشعرية الموحية التي اتي بها العتيق. العنوان التالي كان في مديح الرقص الجميل . اننا هنا مع قصيدة وكل ما فيها من حركة قصصية بمعني وصف احداث مضت او محاولات حوارية غير مكتملة.. لا يغير في طبيعتها. يقول ازوركم الان.. في بيتكم الجديد/ بعد تغير الوقت والاحوال/ وبعد هبوب رياح صغيرة اقتلعتنا جميعا/ ورمتنا في متعة جديدة بلا روح/ امك ليست امك/ وأنت لست أنت/ اراك سارحا وحزينا/ لكنك لازلت طويلا ونحيلا وجميلا.../ ولازلت تحكي لي بنبرة هادئة وعميقة/ عن الذين رحلوا ولم يعودوا/ وعن حلمك الذي احببت ومات/ وعن وجوه النساء التي احببناها .. .

وقد يكون عنوان القصة التي تلتها وهو ابواب وطرقات حائرة اختصارا موفقا لكثير مما طبع نتاج المجموعة ككل. ان قصصه تفيص بالابواب المغلقة وتلك التي تؤدي الي ابواب مغلقة اخري والي مجاهيل تنفتح علي مزيد من المجاهيل.. وبشوارع الحارات الضيقة المكتظة بالناس وبهمومهم المادية والنفسية. يقول خرج في صباح هذا اليوم البارد ووضع في جيبه ضحكته المحايدة وقاد سيارته بهدؤ... يتأمل ناس الصباح ويتأمل شمسا قوية علي عينيه المخدرتين ليظل اقل انتباها وأقل حذرا وأقل رغبة في ان يصل الي ما يريد ... يتأمل عيونا مجاورة مليئة بالنعاس.. يحدق في الفراغات.. يتأمل اشارات المرور وعمال النظافة وتلاميذ وتلميذات المدارس.. .

ويزيد الباب الكبير الذي امامه يفضي الي باب اخر والباب الثاني من بعده سوف يقوده الي ابواب مفتوحة وممرات كثيرة مغلقة.. يقف مترددا وخائفا ومتلصصا.. والناس تدخل وتخرج من ابواب كثيرة لكي تفضي بها الي طرقات مغلقة.. كل الابواب تفضي الي ابواب اخري.. كل الابواب تفضي الي طرقات مغلقة.. .

وفي قصة اماكن يبدو لنا العالم اشبه بحالة كلوستروفوبيا او رهاب الأماكن المغلقة بينما الانسان يسعي الي التفلت والانطلاق فكأنه يهرب من قبره وهو هنا ممثل بشقة حديثة لكن هذا القبر حتمي وهو دائما البيت الاخير . يقول عندما دخلت الشقة الصغيرة التي سوف تكون بيتي الجديد شعرت بغربة عميقة ثم حزن ثم رغبة في البكاء او الهرب. عمارة زجاجية اغلب شققها مكتب تجارية تفوح منها رائحة الارقام والحسابات. الناس هنا وجوههم رسمية ولا يحدث بعضهم بعضا.. .

في قصة اذعان صغير غرابة وسخرية وما يستحضر بعض اجواء محاكمة كافكا كما اعاد اخراج وجه منها رشيد الضعيف في ناحية البراءة وكذلك ما يستحضر اجواء من زكريا تامر. تبدأ القصة كما يلي نهضت في التاسعة صباحا.. ذهبت الي دورة المياه.. اغتسلت وعدت الي فراشي.. كنت على وشك الدخول في اللحاف الدافيء حين رأيت يدا بجانبي تمتد نحوي وهي تحمل ورقة بيضاء.. .

وقرأ الورقة فاذا فيها دعوة للحضور امام مدير مكتب الحقوق المدنية للرد علي تهمة اقتناء حمام ولاتلبث التهمة ان تتحول الي وضع ساخر شبه كابوسي. يقول دخلت المبني بنشوة غريبة رسمية وجادة فبقدر ما اكره مثل تلك الاماكن تجدني مذعنا ومنتشيا بشكل مضحك... ربما لاحساسي بان علي ان لا اذعن لهم بشكل جاد..
رويترز / بيروت

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى