حاتم عبدالهادي السيد - ميثولوجيا الريف المصري والقصيدة الجديدة في ديوان "تحويشة العمر"

العامية أدب الشعب، صوت الطبقات الممتدة عبر ربوع الأقاليم، وجع الغلابة الطيبين، لغة الشارع اليومى، والتحليق بالحلم البرىء لدى الفقراء والمهمشين؛ وهى لغة المثقفين كذلك.
ولقد تنوعت ايقاعات العامية ما بين اليومى والحياتى، والواقعى والتخييلى، وبين المغرق في الرمز، والمباشر الإحالى الرامز ؛ ويعزى هذا التنوع إلى البيئة التى يعيشها الشاعر، والظروف السياسية والإقتصادية والإجتماعية المحيطة به،علاوة إلى الظرف التاريخى والأيديولوجى، ومدى الحرية التى يتمتع بها العصر؛ بعيداً عن مشرط الرقيب، أو غطرسة من بيدهم السلطة، ولربما جاء هذا التنوع ضمن ثقافة الشاعر، ومدى تعبيريته عن العصر كذلك؛ أو تطلعاته إلى التجريب، مع التمسك في ذات الوقت بالموروث الكبير للشعر العامى الذى جسد نبض الشارع المصرى في كافة العصور والحقب المتتابعة .
وشاعرنا الجميل / رمضان فؤاد السيد وفا في ديوانه : " تحويشة العمر" - هنا - يطوف بنا على – كل ما سبق – في اطار من الوعى بتاريخ شعر العامية؛ فنراه يستخدم الخطاب الشعرى كوسيلة يتغياها لتشاركية القارىء، أو الجمهور الأدبى، ولعل ذلك يتبدَّى جلياً في قصيدته الرائعة " مش كل شيء يتقال" والتي يستخدم فيها تيار الوعى، وحضور الشاعر عبر التماهي بصورة المحبوبة / الوطن / ويتغنى بالذات الموجوعة ؛ يقول :
م مش كل شئ يتقـال وال أي شئ يتحس
وال كل شئ يتشاف والعـين عـليه تبص
وال كل من قــــال آه يعـرف معـاني الحـس
وإللي كواني يا ناس كان له ف حياتي النص
شرب المحبــة حماس وسقاني هــــم ويأس
بأكتبله ف الكراس وأحفظله معـنى النص
وعـملت خدي مـداس يدهس ويمشـي وبـس
ورميتله زندي أساس يطلع يطــول الشمـس
عـارفين ده مين يا ناس وطني عـــزيـز النفـس
وتتجلى الحكمة عبر فلسفة الشاعر الذاتية؛ فهو يخاطب الناس والعالم كحكيم؛ ويدلل إلى كل ما يريد بهدوء؛ودون ضجيج؛ حيث يقدم فلسفته الحياتية؛عبر حكمة التدليل إلي المواقف والأحداث؛ ليتغيا قيمًا أخلاقية؛ تهذب الذات؛ وتعالج المجتمع؛ وكأنه يؤكد المعني القائل : " بأن الحكمة ضالة المؤمن" . وهو هنا يدعونا للأمانة؛ وعدم الجشع؛ ويستدعي الأمثال الشعبية الحكيمة : " مال الناس كناس " ؛ليؤكد كلامه الشعري؛ يقول :
مال الناس كناس م يسيب وال قشة
أرجوك تكون حساس لو تسكن العشة
إوعاك تخون األمانة لو كنت ف الشدة
ربك يزيدك قناعة في العيشة والفرشة
تدوم عليك صحتك لو لقمة بالمشة
وإطرح سؤال الغلط علي نفسك الأول
لو ترضي فيك يتغلط إبقي إبتدي الأول
وإوصل حبال األدب مع جارك الأول
إوعي حبال الغضب من إيدك تطول
وإن كان ف قلبك عتب إبقي إبتدي الأول.
إن الشاعر - هنا - يلجأ إلي الخطاب الشعري، عبر الإزاحة، والمفارقة، واستدعاء الموروث الجميل للشعر العربى المعاصر. لكننا نلمح الهم الذاتى والإجتماعى والوطنى ليكونوا القاسم بينه وبين همومه حول القضايا القومية الكبرى .
وشاعرنا ؛هو الشاعر الجوال في دنيا الحياة، يكتب الموال بحكمة شاعر؛ ويفلسف الوجود عبر الكتابة والبرهان واليقين ، للدلالة إلى مرارة الواقع المحيط، حيث عصر الرجولة انتهى - كما يقول - فنراه يفلسف المواقف ويبدأ في تأصيل ما يريد عبر الصورة البصرية التي تجعلنا في مشهدية الأحداث؛ وكأننا نراها؛ ونشاهدها معه؛ يقول :
عصر الرجولة إنتهى أصل الرجولة مقام
مش منظرة ومنجها وجاكتة ليها كمام.
ويظل شاعرنا حائرًا يتمني ؛ فهو يحلم بأن يكون كل شيء حوله مثاليًا؛ وكأنه مصلح يريد للعالم الخير والحب والسلام؛ يحلم لذاته وللآخرين؛ ولوطنه وللكون والعالم والحياة؛ أي أنه يحلم بتغيير الواقع إلى الأجمل؛ ويبحث عن الحب والسعادة والنور؛ يقول :
كان نفسي أكون كلمة بريئة
أو تنهيدة ف ساعة الضيقة
وقفة جريئة ف وش الظالم
همسة تغـير كلمة تدور..
وشاعرنا هنا يستدعي الواقع عبر هموم الفلاحين؛ وعبر تمنياته وايهاماته عن المحبوبة الغائبة المتخيلة؛ وعن آلام البسطاء والكادحين في الحقول والفيطان؛ وبين الزروع والثمار؛ وكأنه يرصد هموم الفلاحين من خلال بساطة وعمق صورة؛ ومعرفة شاعر باللغة المائزة التي تسيطر علي الديوان؛ دون تعقيدات؛ أو مرموزات تستغلق المفهوم؛ بل يتجلى الخطاب الشعري بسلاسة وصفاء؛ فهو يكتب بصدق القلب؛ عبر فطرة ممتدة؛ يقول :
كان نفسي أكون معرفتش أكون
معرفتش أبان وسط الغزالن
مع إني كمان عاشق ولهان
لكن للعشق أصول توهان
أما أنا فالح ومليش دكان
أرضي بتطرح عود التفاح
وإبن الزرعة تايه سواح
وعياله مساكين وبناته تايهين
طول عمره حزين تايه مسكين
من ألف صباح يحلم بآمون
كان نفسي أكون معرفتش أكون.
انه يحلم منذ عهد الفلاح الفصيح؛ يستدعيه عبر آمون الفرعون القديم؛ وينتقد الواقع عبر مثيولوجيا الرمز الذي يخفيه؛ لكننا - عبر التأويل نستدعي ذلك لنرى معه صورة الفلاح وعياله وهموم الأرض المصرية في الريف؛ وينهي كلامه بصورة بديعة لدموع الورد التي لم يستطع هدها ليدلل إلى مرار الواقع وينتقده بهدوؤ؛ وبحفوت؛ عبر تصاويرية الفلاح الحزين المسكين التائه - ابن الزرعة - وبناته البؤساء؛ ومع ذلك نراه يوثق لذلك عبر الصور الفنية الرائعة؛ يقول :
معرفتش أعـد دموع الود
مع إني زمان كان عندي الرد.
وشاعرنا رغم المحن والمآسي التي تمر بالقرية والوطن نراه لا يفقد الأمل؛ ويظل يغني لللمد الثوريِّ القادم؛ للنوروالحرية؛ فهو يحرر ذاته بالغناء؛ وكأنه يقول لنا : " لو بطلنا نحلم نموت "؛ ولو لم نغن لمتنا من الألم؛ يقول :
بأغني لأنك ف ضلك نميت
وشمسك تغني على كل حيط
ف سرحة وزرعة وقلعة ف غيط
ف لقمة صغيرة ف قلة ف بيـت
ف نومة حصيرة وتوتة ياريت
ورغم إني بأشحت يا غالية الكبر
بأغني برغم إنكسار الوتر
ولنلحظ أسلوبية الشاعر الشاهقة؛عبر صوره المشتقة من البيئة؛ فهو يصور واقع الريف الفقير؛ ويتدفأ بالوطن؛ وكأنه يرضع الصبر من حليب الخلود الوطني؛ فبرغم الفقر يغني؛ ويرفض الواقع المرير؛ لكنه يصبر من أجل أن تعيش الأوطان حرة؛ وشاعرنا هنا يتميز بأن صوره يشتقها من البيئة وهذا دليل الصدق والفطرة والعمق؛ فالوتر مكسور؛ وهو وحده يمسك بقيثارة الأمل ويعني ليحرر الوجود من الطبقية والظلم؛ والفقر والجوع والمرض؛ يغني ليعكس مقارنة بين الرأسماليين وطبقة البروليتاريين الفقراء؛ الذين لا يجدون ثمن رغيف الخبز الحاف؛ فهم لا حول لهم ولا قوة؛ ينامون علي الحصير؛ ويفترشون الفضاء؛ لكنهم لا زالوا يحلمون كذلك بالنور والأمل المنشود؛ وبالثورة القادمة التي تغير الواقع؛ ليتحرر الانسان من ظلم المجتمع؛ والسلطة والواقع المزرى لهؤلاء الفقراء الحالمين !! .
وفي قصيدته " هتفوت هتموت " نراه رغم الغناء والصبر- كما في القصائد السابقة - لا يستسلم؛ بل يحفز الجميع علي الرفض؛ ولكن عبر أسلوبية جميلة؛ يماهي فيها بالمعنى الظاهر ؛ لكنه يريد المعنى الآخر المغاير؛ ويحاول أن يضع الانسان أمام اختياراته؛ ليختبر كل واحد قدراته؛ لكنه لا يدعو إلي الركون والصمت والاستسلام؛ بل أراه يشحذ العزائم من أجل الحرية والخلاص؛ وتحقق الحلم المنشود ؛يقول :
هـ تفوت هـ تموت
إرضى بنصيبك عيش ف سكوت
وكفاية عليك أحلام الصبر في شجرة توت
إياك تسمع أو تتكلم
راح ياكلك حوت
عاوز تغرق
إغرق وحدك
إنت و ذنبك
إياك فاكر إن وجودك مربوط بحدود.
وشاعرنا في هذا الديوان مهموم طوال الوقت؛ يغني وتكسو مباني ديوانه موسيقا شجن ممتد؛ أو هي قصائد تراجيديا الوجع الزاعق؛ وموسيقا الصمت الحزين؛ يغزلها من روحهِ المُحِبَّةِ الحزينة؛ ويغني رغم الوجع والحزن؛ حتي في لحظات الحب نراها لديه لحظات تَمُرُّ مسرعةً : بين ابتسامة خاطفة؛ أو كلمة عابرة؛ لكنه يزعق في براري الحب رغم كل شيء؛ وعبر خطاب شعري مملوء يالوجع الشهي الدافق؛ يلاطفها ويصف مواقفها البريئة؛ ويسألها ويجيب عبر لفة طروب؛ وموسيقا شجن ممتدة؛ ومعانٍ رشيقة متجددة؛ مستخدمًا المونولوج الشعري عبر حوارية العاشقين التائقين لِسُقيَا ؛عبر الأيام الحزينة؛ يقول :
عارفة إمتى البحر يضحك ؟
إنتي عارفة ..
لما بتكوني يا عمري
جنب شجرالحب واقفة
هي لحظة ؛ نص لحظة
ألمح عـينيكي
وإللي مِدَّاري ف هواهم موج عنيف..
إنها صور الجمال الشعري الفطري تتموسق عبر جمال الريف؛ وأشجار الحب التي يقطف ثمارها العاشقون في ليل الصمت المرمريّ؛ الأثير الجميل .
ولنا في تفكيك شيفرات العنوان الصورة المثلى للشعر لديه، ولننظر إلي عنوان الديوان " تحويشة العمر " وكأنه يشرح لنا حياته؛ فالشعر ما تبقى له من تحويشة العمر وكنوزها؛ وأكرم به من كنز؛ فالشعر روح الله الذي نستمد منه الحياة؛ ولقد أبدع شاعرنا في اختيار العنوان السيمولوجي الرامز؛ حيث تتبدى فلسفة حكيم، ورؤيوية شاعر، وجمالية مصور، وحنكة لغوى، وفصاحة تعبير، وبلاغة معنى، وصوراً تماهى الواقع وتخاتله عبر تناوله لقضايا الواقع الحالى من هموم الغلابة الطيبين في مصر المحروسة، عبر الريف المصري الممتد .
ولنا أن نتأمل قصائد ديوانه الجميل لنوقن إلي حقيقة عودة تيار الوعى والخطاب الشعري المباشر العميق؛ ولكن بصورة جديدة، فهو ينتقد أوجاعنا وهمومنا من خلال سياق مرح عبر محاورة مع الذات والمجتمع والعالم؛ ويناقش كل همومنا المعاصرة من اخفاقات؛ وأفراح وأتراح، وهموم وسعادة، فهو يعرى الذات/ ذواتنا / ويرسم صورة للواقع بفرشاة تكشف عن ماهية المجتمعات،وعلاقة الأيديولوجيات،والرأسمالية؛ وطبقة البروليتاريا مقابل الطبقية،وهموم الغلابة الطيبين المقهورين عبر سرد شعرى لطيف، ودون صراخ أو ضجيج كذلك .
كما رأيناه يستدعى الرمز، وينادى بالإشتراكية والديمقراطية، وبالعدل والقيم الجميلة، ويماهى الذات المنكسرة؛ المهزومة؛ والمأزومة – طوال الوقت ، لكنه يشتجر مع الحروف والمعاني في معركة شعرية جميلة تنم عن عارف باللغة وشجوها، وزقوها،وزقزقاتها الهادرة، كما يحيلنا إلى الواقع عبر الرمز، والمخيال المثيولوجى ليقدم لنا فرائد شعرية، وقصائد أكثر جمالية واتقاناً، عبر لغة تموسق الروح، وعبر شجن آسن يعبر بنا وبه – عبر تيار الوعى الجديد – إلى مدارات أكثر اشراقاً ، وأكثر حزناً . فهى شعرية المفارقة، عبر الإحالة والتراكم، وسياقات التراث الشعرى العامى، واشراقاته السادرة؛ والساحرة .
وفي النهاية : يظل الشاعر الرائع / رمضان فؤاد السيد وفا ؛هو الشاعر الثائر، الرافض، المحب، العاشق، الصامت الحزين، والصارخ في برارى الذات والعالم، يَتلَمَّس كونية الشعر عبر حياة الريف، ويَتَرجَّل حصان الشعر ليتوسل السعادة، ويغنى للفقراء والكادحين، ويشارك القارىء الغناء، علَّ الغناء يعيد الروح، ويرتق الوجع، لتخرج شمس الحب من جديد .

حاتم عبدالهادي السيد

1654262722217.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى