غاستون باشلار وشعرية: ألفونس توسنيل/ ويليام بليك/ جول ميشليه/ طائر القُبَّرة.. ترجمة: سعيد بوخليط

"ستتمكن أجنحة غير قابلة للإدراك من التَّحليق نحو أبعد مسافة ممكنة. لكنها عذراء تماما ربما أضحت مجرد رسول'' (غابرييل دانونزيو، المدينة الميتة، المشهد الأول، الفصل الثالث).
لا يشتغل مسار التأمل الشارد، على منوال الصياغة المفهومية، بحيث يشكِّل مع الصور موضوعات عدة مشابهة، لوحة ذات عناصر مركَّبة تبعا لمنهجية فرانسيس غالتون التي تمزج ضمن نفس اللوحة الفوتوغرافية الصور الشخصية لعائلة بأكملها. لذلكَ، لن نختبر هذا الانجذاب المفاجئ نحو الطائر سواء الذي يحلق أو يسبح، بمجرد التطلع نحو مشاهدة الطيور الأكثر تنوعا في السماء وعلى الماء.
تظهِر فورا، حركة التحليق، وفق تجريد صاعق، صورة ديناميكية رائعة، مكتملة، متكاملة. مبرِّر هذه السرعة والكمال، لأنّها صورة ديناميكيا جميلة. يتخلص تجريد الجميل، من كل سجالات الفلاسفة.
بكيفية عامة، سجالات من هذا القبيل، جوفاء بكيفية غريبة تبعا لجميع الحالات التي يكون خلالها النشاط الروحي مبدعا، سواء ما تعلق بنشاط التجريد العقلاني في الرياضيات وكذا النشاط الجمالي الذي ينحو سريعا جدا وجهة تجريد مرتكزات الجمال الأساسي. سنرى حقا، عندما نضفي أهمية أكثر على الخيال، تجليا لقضايا نفسية خاطئة.
يتيح لنا التجريد،الحيوي جدا، الذي ينجزه الخيال المادي والديناميكي، إمكانية أن نعيش، رغم تعدد الأشكال والحركات، في حضن مادة منتقاة وباقتفاء حماسي لحركة مختارة، تخلص أيضا من تلك الأبحاث الاستدلالية. يبدو أن الانخراط في فكرة الجميل تحدِّد اتجاها لصور لا تشبه قط اتجاها آخر يتحسس صياغة المفاهيم.
مع ذلك، اهتدينا حقا نتيجة التجريد نحو تحليق لم تتم الاستفاضة بخصوصه سوى قليلا، نستوحيه بين طيات تجربة ليلية رتيبة؛ تحليق، دون صور شكلية، تركَّز كليا ضمن إطار إحساس سعيد بالرشاقة. ما دام هذا التحليق في ذاته، المجرد يقدم محورا قصد تجميع صور وَضَح النَّهار الملوَّنة والمتعددة، فإنه بذلك يطرح قضية أساسية: كيف تتجمَّل صورة، بحيث تحظى بجمال أولي مع إشارة مباشرة، وكذا تجريد مدهش؟
لاينبغي لهذه الزينَة، من خلال أهميتها الحاسمة، أن تكون حِمْلا زائدا لجماليات متعددة: قد يصير الاندهاش، بعد ذلك، إطنابا. لكن إبان اللحظة التي يعيش الكائن المندهش ذهوله، يعمل على تجريد عالم بأكمله لصالح شعاع ناري، وكذا حركة تغرِّد.
لكن لنتجاوز العموميات ونطرح القضية ضمن نطاق محدَّد جدا بخصوص شعرية التحليق. نضع كأطروحة، بأنه إذا شَكَّلت الطيور مناسبة انطلاقة كبيرة لخيالنا، فليس نتيجة ألوانها المتلألئة. تكمن أصالة جمال الطائر، في تحليقه. بالنسبة للخيال الديناميكي، التحليق جمال أولي. فلا نرى جمال ريش الطائر سوى عندما يحط فوق الأرض، حينما يتوقف على أن يبقى طائرا بالنسبة للتأمل الشارد. بوسعنا تأكيد وجود جدلية متخيَّلة تفصل بين التحليق واللون، الحركة والزينة. لا يمكننا الحصول على كل شيء: أن تكون خلال الآن نفسه، قُبَّرة وطاووسا.
الطاووس أرضي للغاية. إنّه متحف معدني. نحتاج قصد الذهاب غاية منتهى مفارقتنا، إلى إظهار، ضرورة أن يخلق التحليق لونه الخاص، لحظة سيادة الخيال. سندرك، حينئذ بأن الطائر المتخيَّل، المحلِّق عبر أحلامنا ومع القصائد الصادقة، لن يكون ألوانا مُبَرْقَشة(1). في أغلب الأحيان، أزرق أو أسود: يصعد أو ينحدر.
ترتعش الألوان المتعددة، هي تلوُّنات لحركات ترفرف. لن نجدها في التأملات الشاردة القوية التي تواصل أحلاما أساسية. بل تتجلى الفراشة مع التأملات الشاردة المرِحة، بين طيات قصائد، تبحث في الطبيعة عن مناسبات جديرة بالتصوير. الفراشة حادث عَرَضِي سخيف، بالنسبة لعالم الأحلام الحقيقي، حيث التحليق حركة موحَّدة ومنتظمة، إنها لا تحلق، بل ترفرف. أجنحتها الجميلة جدا، والكبيرة للغاية، تمنعها من التحليق.
حين التركيز، بالتالي، حول التقييم الحُلُمي التي أبرزناها في الفصل السابق، سنلاحظ بأن الطائر وحده، قياسا لباقي الكائنات المحلِّقة، يواصل تحقيق الصورة، والتي من وجهة نظر إنسانية، تُنعت ربما بالصورة الأولى، تلك التي نعيشها أثناء النوم العميق لشبابنا السعيد. لقد تجلى العالم المرئي بغية الكشف عن جماليات النوم.
سنقدم فورا حالة، بدت معها المبالغة في تقييم صورة الطائر، فارتبط بفظاظة ورعونة، المثالي والواقعي، الحلم والحقيقة. بعد ذلك، نتذوق بشكل أفضل الصور الشعرية التي تضم بشكل صحيح صور الحركة والشكل. سنطبق إذن مرة أخرى، مبدءا نقديا شرحناه باستمرار: سيبدو الأمر مضحكا، حين السعي إلى توضيح صورة شعرية، أكثر مما ينبغي. في المقابل، انتزاع فقط شيء من التوضيح عن صورة مبتذلة ومثيرة للسخرية ، يبعث لديكَ انفعالا شعريا. هكذا، حين قراءة توسنيل ينتابنا غالبا انطباع مفاده أننا عن حدود التحمس وكذا المثير للسخرية: ننتقل، عبر الصفحات، من حلم شاعر إلى سرد قنَّاص. خليط مدهش جدا، لم يمنع توسنيل كي يكشف عن معرفته الكبيرة بالطيور. بهذا الخصوص، أعاد له الأخوان تارو تقديره الحقيقي، في تقديمهما لكتاب جاك دولامان حول شدو الطيور.
منذ الصفحات الأولى لكتاب ألفونس توسنيل المعنون ب: عالم الطيور. نقتنع بأن التاريخ الطبيعي للطيور، قد حظي باهتمام مركزي بالنسبة لتاريخ طبيعي للتأمل الشارد الإنساني. بالفعل، استدعى توسنيل فورا التجربة الليلية: ''حينما كنتم في سن العشرين، فقد انتابكم أحيانا إحساس لحظات النوم بأن أجسادكم أضحت خفيفة تغادر الأرض محلِّقة نحو الفضاء، تقاوم قانون الجاذبية بواسطة قوى غير مرئية''. بسرعة، وبمقتضى لانهائية عذوبة التحليق الحُلُمي، يعمل توسنيل على تثمين ذكرى الليل: "لقد شَكَّل الأمر وحيا إلهيا، وتذوقا لملذات حياة عَبِقة''.
حياة العَبَق، حياة مستقبلية تنتظرنا عندما نستعيد حالتنا الهوائية الخالصة، تبعا لإيقاعات حقيقية حول المابعدي على منوال أفق شارل فورييه. لذلك، يمثل التحليق في الوقت نفسه، ذكرى لأحلامنا ثم تشوفا لجزاء إلهي. أيضا ''نغبط مصير الطائر فنمنح أجنحة إلى الذي نحبه، ما دمنا نحس غريزيا، استمتاع أجسادنا في خضم سياق تلك السعادة، بالقدرة على عبور الفضاء مثلما يفعل الطائر". كما يتضح، صاغ التحليل النفسي للتحليق، مثالا أعلى، سموا تحقق سلفا خلال تجربة للحلم.
يصبح الإنسان، باقتفائه هذا المثال، مافوق/ طائر، يقتحم بعيدا عن المحيط الهوائي، فضاءات أخرى لانهائية بين العوالم، مأخوذا وجهة موطنه الفعلي، داخل موطنه الحقيقي، وطن هوائي، بفضل قوى ''معَطَّرة الرائحة''. ''الجناح، خاصية جوهرية لقابلية التبخر، صبغة مثالية للكمال لدى مختلف الكائنات تقريبا. تتخلص روحنا، من الغطاء الجسدي الماسِكِ بها في الحياة السفلى، تتبدَّى من خلال جسد بهيّ أكثر خفة، وسرعة من الذي يملكه الطائر؟''.
هل بوسعنا دون وقاحة، التقريب بين أفلاطون وتوسنيل؟ في خطاب فيدرا (ترجمة ماريو مونيي، ص 89)، جراء حضور نفس رمز تعالي الأجنحة: "تكمن طبيعيا قوة الجناح، في القدرة على الارتقاء ثم السعي بما يثقل الكاهل نحو الأعالي حيث يسكن أصل الآلهة. تعتبر الأجنحة، من بين مختلف الأشياء المتاخمة للجسد، الأكثر مشاركة للروحي''. تمنح هذه المادية الهوائية بمشاركتها تلك، معنى ملموسا جدا إلى النظرية المجردة للمشاركة الأفلاطونية. ما إن يرتقي إحساس داخل القلب الإنساني، حتى يستدعي الخيال السماء والطائر. لذلك، دبَّج توسنيل، عبارة جميلة: "كلما عشقتُ إلا ووهبتُ أجنحة''(ص 3)(2).
يمكننا تبيُّن بسهولة الصفات التي يحصل عليها الطائر جراء مقاربة توسنيل النفسية للتحليق، لم يتم الوقوف عليها من خلال نشاط بَصَري. يقول: ''يعكس بالأحرى، الطائر اليقظ، الرشيق، الخفيف، صورا عزيزة، فتيَّة، عذبة وخالصة". بالفعل، تعكس هذه الصور الأخيرة أولى الحقائق النفسية. لأننا نعيش بالخيال تحليقا سعيدا، يمنحنا انطباعا بالفتوة، ثم لأنَّ التحليق الحُلُمي غالبا – على غير هدى دروس التحليل النفسي الكلاسيكي- شهوة حسية خالصة، لذلك نمنح العديد من الصفات المعنوية للطائر الذي يعبر السماء خلال يومياتنا. بوسعنا هنا، تأمل نموذج واضح للغاية تتعلق برمز، أو تحديدا قوة رمزية، موجودة قبل الصور.
داخل اللاوعي، تبادلت سلفا قيمتها الرمزية، مختلف انطباعات الخفة، الحيوية، الشباب، النقاء، الليونة. لم يعمل الجناح، بعد ذلك، سوى إعطاء اسم للرمز، ثم يأتي الطائر في نهاية الأمر كي يمنح الرمز وجودا.
تظهر جيدا، الطريقة التي يعتقد بواسطتها توسنيل إمكانية أن يعيش ثانية الفعل المبدع، بأنّ المادة الهوائية وكذا الحركة الحرة بمثابة عناوين منتجة لصورة الطائر. يمكننا القول، يتحقق لحظة سيادة خيال مبدع هوائي، جسد الطائر من خلال الجمال الذي يحيط به، وتتبلور حياته جراء الحركة التي تنتشله.
الخيال مادي وديناميكي في الوقت ذاته، لذلك وبالمطلق لن يتشيَّأ. لايرسم قط، يبخِّس القيم المجردة.
يوحِّد خيال توسنيل مباشرة طُهر الهواء بالحركة المجنَّحَة (ص 51): ''لقد خُلِق الطائر، كي يحيا داخل العنصر الأكثر حِذقا ونقاء، لذلك يعتبر حتما من بين مختلف قوالب الإبداع الأخيرة، الأكثر استقالة وروعة''.
أيضا، بين صفحات رواية ''فيوليت''، كتبت مارسلين فالمور Valmore (1839، ص 203): "أيّها الطائر! وقد غدوتَ هناك بتحليقكَ بعيدا جدا، فماذا كنتَ قبل تحولكَ إلى هذه الأغنيات الحرة المتناثرة فوق رؤوسنا؟ ربما، تشظى أخيرا، فكر مُسْتَعْبد؛ خطاب إلهي يحتويه العنف داخل روح، فامتلكتَ أجنحة مثلما استعدتُ أجنحتي".
حتما ستوجَّه إلينا اعتراضات، توضح بأن تأكيدات من هذا القبيل لا تلائم سوى تأملات شاردة عبثية. لكننا نجيب دائما، بأن هذه التأملات الشاردة طبيعية؛ تنتعش طبعا لدى روح حالمة، بمعنى روح تتواصل عندها على امتداد اليوم تجارب الليل.
ليس توسنيل شاعرا، لسوء الحظ: يعيش حقا استمرارية الحلم الليلي غاية التأمل الشارد اليقظ، لكنه لم يختبر الاستمرارية التي توحِّد التأمل الشارد بالقصيدة. لم تشكِّل بالنسبة إليه، فتوة الطائر الدائمة، غير انطباع مضطرب بينما يجسِّد تقييما مذهلا؛ لأنه لم يتعقب هذا الطائر الجميل بحكايات. طائر، يجعلنا ننسى الزمان، ينتزعنا من رحلات الأرض الخَطِّية كي يقودنا، مثلما يقول جون لوسكور، عبر سفر ثابت لا ترنّ خلاله الساعات قط، ولا يؤثر السن أبدا. مع ذلك، ينبغي الانتباه إلى إدراك توسنيل القنّاص ومحنِّط الحيوانات، عدم قابلية طيور الحلم للموت. بحيث لم يضعنا أيّ حلم طبيعي حيال موت طائر محلِّق.
تعكس الطيور المدلَّلَة، قصة أخرى؛ تموت سريعا نتيجة حتمية يعرفها جيدا أهل الاختصاص النفسي. لا يسقط قط مع حلم ديناميكي، من السماء عموديا، طائر صعقته الموت، فلم ينته أبدا تحليق حُلُمي بسقوط عمودي. التحليق الحُلُمي ظاهرة غبطة نائمة، متجردا عن أيّ تراجيدية. بحيث، لا نحلِّق في الحلم سوى إذا كنا سعداء. أيضا، كم هي صادقة الإشارة الواردة عند بيير إيمانويل في ''الميت الشاب، رسائل، 1942'' :
لاتوجد مشقة أمام الطائر
ولا تحليقات قاتمة.
الطائر قوة مثيرة توقظ مجمل الطبيعة.بوسعنا أن نقرأ في كتاب نويلز''هيمنة الكونتيسة''،هذه الصفحة التي يمكننا عنونتها :''عمودية الربيع بفضل الطائر''(ص 267) :''عاد الربيع.غمر الأرض كلها،صغيرا، خفيفا، أخضر،منتصبا.سنسمع وسط الغابات صرخة طائر متواصلة،صرخة ربيع لاذع،ساطع.يبدو هذا الطائر،كأن حنجرته الحانقة، احتوت ورقة صغيرة جديدة لذيذة من شجرة التربنتين. يبعث صرخته دون توقف،كما لو يتوخى تحفيز،تلك الورود الضعيفة،المحبوسة في الأرض.تخاطب صرخته أزهار الزنبق،النرجس،والخزامى،قائلة :"هيَّا،اصطدام مرة أخرى،مجهود أكثر،اخترقوا بشكل أفضل الأرض الصلبة،وانقضوا،فأجواء الهواء قريبا:"أيتها السماء،تعالي،فأنا طائركِ''.أيضا، وعلى نحو أكثر عذوبة،نصادف هذه الملاحظة(ص 265) :''بمجرد رؤيتكَ تحيا،يهدأ الفكر؛ أرواح صاعدة،قوم ينجذب صوب القمة،حيث الأجنحة!الطيور !ثم نبل الهواء".
لقد قدم عمل فيكتور هيغو العديد من الصور جعلت الطائر روحا :
أعشق.آه يارياح،طاردي الشتاء.
السهول متعطِّرة.
يبدو أنَّ الطائر،وسط غابات أشير،
بمثابة روح بين الأغصان.
كما لو أنِّي أسبح في هواء يستدعيني.
وكما لو أنِّي صاحب روح.
نسجها ريش طائر.
(نهاية الشيطان. سِفر نشيد الأنشاد).
ربما،المقاطع الشعرية التالية لجون تاريدو (3)،توضح بكيفية أكثر كمالا التماثل الحُلُمي بين صورة الطائر وكذا قوة التحليق الباطنية :
يحيطني حلم مدهش
أسير وأنا أبعثُ طيورا،
كل ماألمسه يكمن داخلي
ثم خسرتُ مختلف الحدود.
حينما نستعيد بعناية،مثلما يقترحه علينا الأفق الحُلُمي للتأملات الشاردة لدى ألفونس توسينيل،فلن نتفاجأ بأن أعماله تطوي مبحثا في علم الطيور متخيَّل بكيفية صرفة لكنه يشكل امتدادا لعلم الطيور الواقعي.لم يكتفِ الله بالنسبة لتوسنيل،على خلق طيور نابضة بالحياة وساخنة تحلِّق وسط زرقة السماء والسحاب.أيضا،خلق:"بالنسبة للمؤمنين به،أنماطا هوائية ل الفناء،المَلاَك ثم السِّلْف(الكائن الخرافي)".وبما أنه وحده الأعلى بوسعه شرح الأدنى،فقد استخلص توسنيل تقريبا بكيفية واعية الطائر من السِّلْف.
يمكننا الإقرار- سمو الخيال !- بوجود طيور في الطبيعة نتيجة وجود فعلي بين طيات الهواء المتخيَّل،للكائن الخرافي المسمى بالسِّلْف وكذا أنثاه.في الواقع،بما أن الإبداع الحق يتأتى من نقاء الهواء،فيلزم الأخير خَلْق السِّلْف قبل الحمامة،الخالص جدا قبل الأكثر مادية.
يعكس هذا التسلسل المنحدر من أرواح غاية كائنات مُجَسَّدة،حقيقة كبيرة فيما يتعلق بالتحليل النفسي للخيال.لم يلاحظ علماء النفس ذلك،ماداموا يخلطون في أغلب الأحيان عمليات الخيال مع المتعلقة بصياغة المفهوم،كما لو أنّ الصورة مجرد مفهوم بسيط فضفاض ومبهم.هكذا،يلوثون الصورة الأساسية للتحليق بالمفهوم العائد للطائر.لايدركون،أنه بالنسبة لحالم،في خضم سيادة الخيال،يمحو التحليق الطائر،كما عملت واقعية التحليق على التحول بحقيقة الطائر إلى المرتبة الثانية.يتناولون إذن أطيافا هوائية،باعتبارها مجرد هذيانات خيالية،دون التساؤل قط لماذا يتوخى الخيال تأمل أطياف من خلال عنصر غير مرئي.من جهة أخرى،يبدو أن كل شيء يمنحها مبرِّرا بما فيها الحكايات !
حقا،تعتبر حكايات السِّلْف أقل عددا من روح العناصر المبدئية الأخرى.غير أنه عوز،يمثل بالنسبة إلينا،أبسط دليل على الندرة الواضحة للخيال الهوائي قياسا لخيال الماء،النار والأرض.لايشكل هذا الاستنتاج مسوغا كي نحكم عليه بكونه أقل بناء.يلزم الخيال الهوائي،من خلال حتمية حميمة،أن يخلق ثانية أرواح الهواء.
يمكننا من جهة أخرى،تقديم أمثلة محددة جدا تظهر لنا اشتغال خيال الهواء وفق معنى تدرّج السِّلْف إلى طائر.نستحضر بهذا الخصوص،واقعة بدت لنا مفيدة جدا،لأنها ارتبطت بمناخ عقلاني رغم مرحها.فقد طرح الراهب الشارتيري فينول مارفيل Marville، خلال أمسية عند الفيزيائي الديكارتي جاك روهولت، فكرة فريدة مفادها بأن الأرواح الأولية التي تطوف في الكون، وتعيش بين ثنايا العناصر التأسيسية،أمكنها أن تأوي إلى جسد الطيور، الأسماك، الثدييات،حسب استعداد جوهرها.إنها تؤثر على أرواح الحيوانات وتبعث الحركة في الحيوانات/الآلات :"يختبئ السِّلْف الحالم وسط آلة البومة،وكذا طائر الخبل أو بومة صمعاء؛ ثم على العكس من ذلك،فإن السِّلْف المتمتِّع بمزاج مرح ويعشق تغريد الأغنية الصغيرة، سينطوي داخل عندليب، أو طائر الهَازِجة وكذا عصفور الكناري"(4).يلتئم هنا فكر مختلق،مرح،حالم.نفرط كثيرا بخصوص تبخيس أهمية انعكاسها وكذا رهاناتها،التي تميز تحديدا تأثير الخيال على الذكاء،وكذا السخرية على الحياة الذهنية.
نتحسَّس عبر هذا التصميم الخفيف النظرية الصلبة للحيوانات/الآلات؛ويتجسَّد الاعتقاد المبهم بأرواح العناصر الأولية.يتسلى في الاتجاهين،بثنائية الأخوين العدوَّين :الحلم والنظرية. بعيدا عن تُرَّهات الصالون العلمي،تحلم في عزلة نفوس عاقلة بنفس الكيفية.
يذكرنا جول دوهيم، بأنّ بيير جاسندي أقر بخصوص تحليق الطيور بمفعول أساسي لسائل ثاقب.إذا حلق الطائر،فلأنه يتقاسم هواءً خفيفا.أتخيَّل طائرا،اسمه ستيلينو :''يجتذبه كوكب عطارد صاعدا بالتالي نحو أعلى منطقة في الهواء متَوَلِّعا بذلك''(أشار إليه جول دوهم، مبحث''الكهرباء").ينبغي أن نضفي على الانجذاب،كي نفهم جيدا هذا النص،ازدواجية المادي والروحي.يمثل''ستيلينو ''تساميا حقيقيا للطائر. طائر خالص جدا حتى يفتتن بالثقافات الأكثر صفاء لمحيطنا الجوي ثم أن يصعد بتوجيه من قوة جوهره الخفيف.
لكن حلم نقاء الهواء،مؤثر جدا بالنسبة للخيالات الهوائية،بحيث يمكننا مباغتة هذا الحلم في خضم انعكاسات صور مادية عجيبة.طبعا،أذهل الدفء الداخلي للطائر ملاحظين كثيرين،بالتالي طرحوا قوة تحليق الطيور كقيمة لصالح النار الأصلية والخالصة،مؤكدين على أنّ الطائر يغادر الأرض كي يحيا عند نقاء الهواء المشمس.ثم هاهو الانعكاس الذي لم يتردد خيال كاتب إبان القرن الثامن عشر في سبيل تحقيقه :''قوة مفعول النار التي تحرض تلك الطيور،يضفي نقاء على المكان الذي تعيش فيه،لأنه يبتلع الهواء الرديء.لذلك،يُنظر في الشرق إلى طائر ميلانو الأسود،بهلوان هوائي استثنائي،باعتباره مُطَهِّرا للمحيط الجوي". كيف يمكننا البرهنة أفضل بأنَّ المفهوم الخلاّق للصور يكمن في مفهوم النقاء؟تجعلنا انعكاسات من هذا القبيل على مستوى القيم،نستوعب بشكل جيد قضايا التسامي. نلاحظ هنا مباشرة فعل الخيال المادي للنقاء.
كيف بوسع علماء النفس وهم لايحلمون تحديد حقائق نفسية لحياة مُتَخَيَّلة؟يخشون دراسة تجليات الخَبَل،ثم يتوخون في نفس الوقت معرفة كيفية تشكُّل الصور !يريدون دراسة الصور الواقعية، بينما لايهتمون بتلك الصور الحية التي تفرض نفسها ليلا أمام عيوننا المغمضة !
فيما يخصني،لست بعيدا عن الاعتقاد بأن التحليق ريح ساخنة قبل كونه جناحا.لاأستبعد دروس حالم يعتقد بأن طائر السِّلْف قد أرشده نحو معنى الطائر.بالنسبة للخيال الديناميكي،يتمثل الكائن الأول الذي يحلق من خلال الحلم في الحالم نفسه.إذا صاحبه أحد خلال تحليقه،فالأمر يتعلق أولا بجنسيْ السِّلْف، سحابة، ظِلال؛إنه غشاوة، هيئة هوائية مغطاة، مُحْدِقة ،سعيدة بأن تكون مبهمة،وتعيش عند تخوم المرئي واللامرئي.
لكي ترى تحليق الطيور جسدا وريشا،فيلزم استعادة سياق واضحة النهار،ومعه ثانية الأفكار الأساسية الجلية والمنطقية.لكن في خضم درجة أكبر من الوضوح،تُطمس أفكار النوم ويلزم القصيدة العثور عليها من جديد مثل ذكريات تحققت بعد ذلك.روح لاتنسى قط،ولاتغفل أبدا :يخلق الحلم،على منوال إله ألفونس توسينيل،الفكر المحلِّق قبل أن يخلق الطائر.
إذا استدعى النقاء، والضوء، وكذا إشراق السماء،كائنات شفافة ذات أجنحة،فجراء انعكاس لايتحقق سوى في إطار سيادة القيم،سيضفي نقاء الكائن نقاءً على العالم حيث يعيش،حينها سنفهم بأنَّ الجناح المتخيَّل يتلون بألوان السماء وبأن الأخيرة بمثابة عالم أجنحة.سنهمس مثل بوعز النائم (قصيدة فيكتور هيغو)،مع صوت الروح :
حتما، تحلق الملائكة هناك بغموض،
لأننا نرى أحيانا خلال الليل،أحيانا،
عبور شيء أزرق بَدَا جناحا.
كلّ لاَزَوَرْد ديناميكي،كلّ لاَزَوَرْد غير جلي،بمثابة جناح.الطائر الأزرق،إنتاج لحركة هوائية.مثلما قال موريس ماترلينك (الطائر الأزرق،ص 241 )،''يغير لونه حينما نضعه داخل القفص''.
إذا أنتج فعلا الضوء الناعم والحركة السعيدة،من خلال تأملات شاردة،حركة زرقاء،جناحا أزرق، طائرا أزرق، ففي المقابل سيتراكم شيء ما داكن وثقيل،حول صور طيور الليل.كذلك، يجسد الوطواط بالنسبة لخيالات عديدة،تحليقا سيئا،أبكم،أسود،وفي مرتبة أدنى. ثلاثية مضادة لثلاثية شيليShelley حول الرنان/ الشفاف/ الخفيف. محكوم عليه، أن يقهر أجنحة، بحيث لايعرف الراحة الديناميكية للتحليق في الجو:"يقول عنه ميشلي(الطائر. ص 39)، نرى بأن الطبيعة تبحث عن جناح ولن تجد مرة أخرى سوى غِشاء مكسو بالشَّعَر، مقرف ،أدى رغم ذلك الوظيفة سلفا''.
أنا طائر؛انظروا إلى جناحيّ.
"بيد أن الجناح لايخلق طائرا''.يمثل الوطواط بالنسبة لعلم الكون المجنَّح عند فيكتور هيغو،كائنا ملعونا يشخِّص الإلحاد.يوجد عند أدنى السلم،أسفل من البوم،الغراب،العقاب، والنسر(فيكتور هيغو،الإله).لكننا لن نصادف سوى عَرَضا قضية موسوعة الطيور الرمزية، ولكي نعالج موضوعا من هذا النوع يلزمنا أن نقارب بتفصيل قضية الخيال المُحَيْوَن،بمعنى الخيال الديناميكي المُتَخصِّص في حركات الحيوانات،لسنا في حاجة هنا سوى أن نحدد بقوة الخط العمودي الذي يُثَمِّن على امتداده الخيال الديناميكي،الكائنات الحية.بهذا الخصوص،يصبح حدس توسنيل،مفيدا جدا.
كتب توسنيل في كتابه حول الدواب(ص 340 ) :''يعتبر الوطواط أكبر المساهمين بخصوص تطعيم خيال الاعتقادات الساذجة البائدة،بأساطير خرافية تقريبا عن البراق، العنقاء، التنين، وكذا الخَيْمَر''(5).لنلاحظ جيدا بأن تصور توسنيل الذي يستعيد حسّ منظور شارل فوريي،قد أتاح في نفس الوقت،التأكيد على خلق الإله للسِّلْف ويتهم بالسذاجة الأشخاص المضطربين الذين يتكلمون عن البراق وكذا الخَيْمَر.تناقض من هذا القبيل لايلمس خيالا مُسْتقطَبا بشكل جلي للغاية صوب الأعلى كما الشأن مع توسنيل.
بالنسبة للخيال الهوائي الديناميكي جدا،كل مايرتفع يستيقظ لدى الكائن ويشارك في الوجود.في المقابل،يتبدد كل ماينحدر إلى مجرد ظلال بلامعنى،ويساهم في العدم.
يتحدد الكائن من خلال التقييم:هنا تكمن إحدى مبادئ الخيال الكبرى.
غاية الآن،وقد أسهبنا في الحديث عن أولوية الخيال الدينامكي مقارنة مع خيال الأشكال،سندرك استحالة تكاد تكون شبه تامة بخصوص تكييف جناح الطائر مع الشكل الإنساني.ليست هذه الاستحالة نتيجة صراع بين الأشكال،بل تتأتى القضية من تباعد مطلق بين شروط التحليق البشري(التحليق الحُلُمي)وكذا التمثيل الواضح لصفات مرتبطة بكائنات فعلية تحلِّق في الهواء.يكمن طلاق،بالنسبة لخيال التحليق،بين الصورة الديناميكية وكذا الشكلية. بوسعنا إدراك صعوبة قضية تصوير التحليق الإنساني من خلال تجريب مختلف الوسائل التي يستعملها خيال الأشكال حتى يوحي بحركة التحليق.
لقد أصدرت فيليت جين كتابا رائعا غزيرا بالوثائق،حول المَلاَك في الفن الغربي:"سيمثل مراهنة بالنسبة إلى نحَّات- تؤكد فيليت (ص 26)- حينما يُلتمس منه إبداع توهّم اللامادي،بقدر تعارض شروط عمله مع ذلك''. سرعان ما نكتشف بأنَّ الأجنحة الإنسانية ورطة.تظل جامدة،سواء خلقناها كبيرة أو صغيرة،متثاقلة أو منتعشة، يكتسيها ريش أو ملساء: لا يتعقب الخيال؛صورة وتمثالا مُجَنَّحا، يفتقدان لحركة.
إنها ممارسات غير مباشرة،في نهاية المطاف،تسوِّي بشكل أفضل – في نطاق الممكن- قضية إبراز التحليق الإنساني.سيتم إذن الإبقاء على الأجنحة باعتبارها علامات مجازية للتحليق، قصد إرضاء التقليد والمنطق،وسنبحث في موضع آخر عن إيحاءات ديناميكية، مرارا أن توحي أكثر فعالية من الإبراز.
سنلاحظ،مثلا،نوعا من تفطُّن العبقرية بأن جذبت الانتباه صوب حركة تضفي فعالية على الكَعْبِ.في هذا السياق،أوضحت جين فيليت، تميُّز بعض ملائكة مايكل أنجيلو(ص 164)،بخاصية تجلت في كون :"مجرد حركة لساقهم المرفوعة،تبدو كافية قصد توجيه تحليقهم''.
أيضا،أوضحت جين فيليت استلهام العديد من الفنانين للسباحة في أفق حلِّ قضية التحليق من خلال تمثيل الملائكة(ص 162) :"الجسد مائل أو أفقي تقريبا،ملقى فوق غيوم،النصف الأعلى مستقيم،الساعدان مبسوطان أو الساقان مرفوعان،تعبر الملائكة قبة السماء الزرقاء على هيئة سباحين يشقُّون الأمواج،وكذا الخطوط الطويلة الموازية التي تحيط بها،مما يجعل التوهم أكثر قوة ''.يبدو خيال المياه طاغيا،من خلال هذا النموذج،لأنه استحضر بالنسبة للخيال الهوائي صورة مخور السفينة.
بهذا الخصوص،تعيد الآنسة فيليت (ص 80) إنتاج تصوير جداري دالٍّ جدا، لصاحبه بينوزو غوزولي.بحيث بدت لنا مفيدة جدا مقارنة مع باقي الأشياء الأخرى،براعة رسام وضع السباحة محل التحليق، فقد سبق أن رأينا، فيما يتعلق ببعض أنماط الخيال،تلك الاستمرارية من السباحة إلى التحليق، وفق دلالة هذا الترتيب من السباحة فالتحليق.في المقابل، تنعدم أيّ استمرارية من التحليق إلى السباحة.الجناح هوائي أساسا.نسبح في الهواء، لكننا لانحلق وسط الماء.بوسع الخيال مواصلة أحلامه المائية في الهواء.بينما لايمكنه بعد ذلك، أن يحيا التعالي المتخيّل المعكوس.
نوضح إذن،اقتفاء الفنانين بكيفية لاواعية،التسلسل المنتظم للخيال الديناميكي،وبأنهم يستخدمون حلم السباحة كي يلهموا المشاهد إيحاءات التحليق.
أحيانا،ينجز النحات ليس وهمية التحليق،بل دعوة معينة وجهة تحليق جذَّاب مرغما العين كي تجوب أشكالا.هكذا،أعطت جين فيليت (ص 20) :"إلى الشكل أبعادا منطلقة تفاقم المفعول من خلال رهان أقمشة فضفاضة بسيطة يسودها الخط المستقيم.تقتفي النظرة أثر هذه الخطوط المتعالية وتنشغل عن وزن المادة''.بمعنى ثان، ينعم الخيال الديناميكي في إطار شكل ساكن منطلق، اندفاع يوقظ حلمه الفطري متجها به نحو الارتفاع.
لن نتأمل طويلا العبارة التالية :إنَّ شكلا رشيقا بمثابة صورة يتقاطع عندها الخيال الشكلي والديناميكي.طمس استهلاك الكلمات، في هذه العبارة، تقريبا مختلف السمات الديناميكية.يلزم كي نعيد إلى الصورة قوتها الحُلُمية، ومن ثمة دلالتها المطلقة،تطعيمها بكيفية معكوسة.نعيد بالتأكيد تسليط الضوء على الشكل الرشيق، ونوجه الإدراك نحو كونه اندفاعا مُتَشَكِّلا.مما يتيح لنا إمكانية أن نعيد للخيال الديناميكي دوره كخالق للأشكال. تلزم الإشارة، بأن كل شكل منطلق ينزع نحو الأعلى، والضوء. إنه وثوب متشكِّل يمتد نحو الهواء النقي، والمضيء.لانتصور قط دلالة شكل منطلق ينزع الأسفل،موحيا بالسقوط.يعكس وضع من هذا القبيل –في خضم سمو الخيال- مظهرا عن ديناميكية هوائية عبثية.
لكي نحيا عند تقاطع خيال الأشكال وكذا خيال القوى،يوجد عمل فعال،بكيفية خاصة،عمل شاعر ونَحَّات ،أقصد تحديدا منجز ويليام بليك.ميزت هذا العمل حُلُمية قوية، كما تحرِّضه أيضا فصاحة شعرية كبيرة جدا، قدمت نموذجا استثنائيا بالنسبة لهذه الحياة المنطوقة والتي سنعود إليها بين فقرات خلاصاتنا.
يمكن تسمية بعض قصائد بليك بالقصائد المطلقة،بمعنى قصائد لاتترجم أفكارا،لكنها تربط داخل الكلمات نفسها المادة المتخيَّلة وكذا شكل الأطياف،حركة الكلام،وكذا حركة الجسد ''الفكر والحركة'' أو بشكل أفضل، المتكلِّم والمتحرِّك.مثلا،لايمثِّل تحليق الأفكار عند بلاك صورة مستهلكة، ومجازا دون تأثير.تغدو هنا، الكلمة الشائخة، فتية تماما، يحيطها هذا الحماس النفسي الذي أنعش نصوص ويليام بليك المعنونة ب"كتب النبوءة''.نعاين بين صفحاتها،تنبأ صور لفظية.فلايوجد فكر كامن متكهِّن .
مَثَّل بالتأكيد تحليق الأفكار عند بلزاك،حركة حقيقية،لكنها حركة بقيت عامة خضعت لخيال هوائي رتيب.بينما عند بليك،فيأخذ تحليق الأفكار تعددية مختلف تحليقات الطائر الفعلية.لذلك،يمثل التحليل النفسي بصيغته المتجلية عند ويليام بليك مقاربة نفسية حقيقية لمبحث علم الطيور.
عبر صفحات كتابه''رؤى فتيات ألبيون''،تمرّ صور النسر،العندليب، القبَّرة،الصقر، الحمامة، البجع، العاصفة، السهول، الريح…بحيث أمكننا خلال عشر صفحات إحصاء خمس وعشرين جسما محلِّقا.تحليقات ملموسة، بمثابة أصل الحركات الكونية التي تكتسح النص.صور مدهشة، تجعلنا نفهم أنه بالنسبة للخيال المحلِّق،يستميل التحليق الكون،يحفز الروح،يضفي على الهواء وجوده الديناميكي.هكذا يكتب ويليام بليك(كتاب النبوءة، الجزء1،ترجمة بيرجي، ص111) : "يأخذ طائر البحر عاصفة الشتاء،كساء لجسده''.فكيف لانشعر ديناميكيا،اتخاذ الطائر من أثر سيره معطفا؟أليس هذا المعطف الثائر من يحدث هذا التعميم للعاصفة الشتوية؟ تنفث كائنات أسطورية العاصفة،تسكن الأخيرة دواخل فمها.بالنسبة لويليام بليك، تصدر العاصفة كليا عن الجسد.يعكس طائر البحر بشكل عميق، كائنا عاصفا،وكذا النواة الديناميكية للعاصفة.
بالنسبة لويليام بليك،التحليق حرية العالم.لذلك،يهين مشهد الطائر السجين ديناميكية الهواء.نقرأ هذا المقطع الشعري الثنائي،ضمن مقاطع القصائد التي شكلت فيما بعد الجزء الثاني من ''كتب النبوءة''(ص 205):
طائر أبو الحناء وسط قفص
أثار سخط كلّ أرجاء السماء.
هكذا، يجسد الطائر هواء حرا مُشَخْصنا. لنتذكر بأن اللغة الألمانية أعادت الطائر إلى أقصى مستويات حريته.إنها لاتقول على نحو إضماريّ :حر مثل الهواء، ولكن حقا''حر مثل الطائر في الهواء".
أيضا،كيف لايمكننا تمثُّل ديناميكية الفكر الهائم عبر هذه المقطع :"آه أيها الفكر، إلى أين تسير؟ نحو أيّ بلد بعيد يأخذك تحليقك؟هل تحمل أجنحتك إن عدتَ صوب لحظة الشقاء الحالية ،السلوى والعسل، النَّدى والبلسم، أو سمّ الصحاري المهجورة،الذي يتأتى من عيون حاسدة؟''.كيف يمكننا التردد بخصوص التشديد على نبرة تصورات من هذا القبيل،حينما، نصادف قبل ذلك بين طيات سطور أخرى السؤال التالي :"ما الجوهر الذي يؤسس الفكر؟'' يلزم الإجابة على هذا السؤال،كي نفهم خيال ويليام بليك :يتشكل الفكر بالكائن الذي أبدعته حركته.فكر ويليام بليك مادة ريح شمالية.مثلا،ألا يبدو سلفا،وحشيا فكر التحليق القوي عند النسر؟إنه يخلق من تلقاء ذاته نسرا جشعا.بالنسبة لمن يفكر سريعا،ضربة قوية للجناح، تفترس الحَمَل.
أجنحة أخرى تجلب العسل :''انهضي أيتها الأجنحة المتلألئة،وانشدي سعادتك الطفولية !انهضي، ارتشفي سعادتك،لأن كل ما يعيش يعتبر مقدسا''هذه المرة،فالأجنحة تغني.
سندرك بسرعة،حين قراءتنا ويليام بليك ديناميكيا،بأنه بطل صراع بين الأرضي والهوائي.تحديدا،بطل الانتزاع،الكائن الذي يرفع رأسه خارج المادة،الكائن الغريب الذي يوحِّد بين ديناميكيتين :مغادرة الأرض والوثوب نحو السماء.
ورد في كتاب ويليام بليك ''تيرييل''مايلي:"حينما تلامس الحشرة جل امتدادها كحيوان زاحف''.يوقظ هذا التمدد كل الزاحف بين طيات خيالنا الديناميكي. وقد خلفت ديناميكية الزاحف لدى ويليام بليك سمات مرئية في صفحات عديدة تتجلى بوضوح حينما نقرأها ديناميكيا،ليس وفق طاقة رخوة جاهزة،بل تبعا لحركات منتظمة.بوسعنا من جهة ثانية، بهذا الخصوص،مقارنة القوة الزاحفة عند بليك وكذا الحركة المتموجة والرخوة لليرقة كما صورتها صفحات كتاب فاسيلي روزانوف المعنون ب"قيامة زماننا''(6).سيظهر لنا فعلا التباين بين حركة عجين حي وكذا الحركة الواعية بمفاصلها الصلبة.
ويليام بليك،شاعر الديناميكية الفِقَارِيَّة، بحيث تمثَّل كل صورها ويعيش مجمل تاريخها، كما يعرف جل ارتداداتها. بناء على سيادة الخيال، وكذا علم الحفريات،تنبثق الطيور من الزواحف؛ مثلما تواصل تحليقات الطيور المشي الزاحف للثعبان.
ينتصر الأشخاص من خلال تحليقهم الحُلُمي،على البدن الزاحف.مقابل ذلك،ونتيجة تشنجات أحلامنا، يتذكر أحيانا العمود الفقري بأنه كان ثعبانا(7).كتب بليك(ص 157) : "خلال نوم مرعب زاخر بالأحلام، يتلوى وجعا حول الرياح،عمود فقري ضخم،يشبه حلقات سلسلة، فتبعث ذاته ضلوعا مؤلمة، مثل مغارة مستديرة، وعظاما صلبة تتجمد على امتداد أعصاب مباهجه؛هكذا ينقضي عهد أول وكذا حالة كآبة محزنة''.
لنعاين قليلا عن قرب هذا الكابوس الأرضي كي نفهم بشكل أفضل الرؤيا المحلِّقة للهوائي.سنرى حينئذ بأن الصور الهوائية فتوحات متأخرة،والجهاز العضوي الهوائي حرية صعبة.
لنفهم أولا بأن وعي الزاحف متعلق بأسفل الظهر(ص 161 ) :"طيلة اليوم، تتمدد الدودة على صدرها.خلال الليل، تتمدد الدودة على جانبيها غاية أن تصبح ثعبانا يلتف بصفيره الموجع وسُمِّه،حول كليتي إينيتارمونEnitharmon "(8).يحتاج ألم الانثناء إلى فَقْرِيات، سيخلق التعذيب الالتواء، ثم يخلق الالتواء الفِقْرَات .الدودة رخوة بما يكفي كي تتألم، لذلك تغدو ثعبانا.الثعبان، كائن عنده كِلْيَتين في كل مكان : "تحت كنف جناحي إينيتارمون، ينمو الثعبان، ملقيا بقشور.ثم جراء أوجاع حادة، يبدأ الصفير في التغير إلى صرخة متنافرة؛ أحزان عدة، آلام مرعبة، أشكال متعددة للسمك، الطائر، الحيوان،تمنح ولادة إلى شكل للطفولة، تواجدت هنا حيث كانت قبل ذلك، دودة''(ص 161).
هكذا تنشأ الأشكال من بروتوبلازم (الجبلة الأولى) معذَّب، تحققات للآلام.ينبثق الأصل من نار جهنم بينما ينبعث الذي تمَّ تقويمه نتيجة الالتواء.يخضع كل ماهو أرضي عند ويليام بليك إلى ديناميكية الالتواء.فالأخير بالنسبة إليه، صورة أولية.هكذا، يستعيد بليك في هذا السياق صورة الدماغ (ص 165) :"أوتار ملتوية جدا، وحلقات مشدودة كفاية ببعضها البعض، ملتوية مثل الدماغ الإنساني''.
انطلاقا من هذا الفضاء المعقوف، وانثناء فكر لم نفهمه جراء هفوة في اكتشاف تعذيبه الأول، يتشكل هذا المبدأ الهوائي حيث انبثاق ويليام بليك :انبثاق يظل مؤلما.يصبح مع ذلك حرا ومستقيما، لكنه يحافظ على الألم الأصلي للتقويم.
يحوم طيفي حولي ليلا ونهارا
مثل حيوان شرس يحرس طريقي
انبعاثي، بعيدا حقا عن ذاتي
يبكي دون توقف حيال خطيئتي.
بئيس، شاحب، شكل يدعو للشفقة
أنا وسط العاصفة !
أزهار الحديد وكذا عويل الرصاص
تحيط برأسي الموجِع.
(رسائل، ترجمة ديزي وجان أودارد،1939،ص ص. 43- 41 .
لايستكين قط الهوائي لدى وليام بليك،بل يظل ''طاقة''.طاقة معبِّرة.تصور أشار إليه حقا جان لوسكور في مقالته الرائعة ضمن كتاب الرسائل(1939). لقد منح بليك :"حيزا إلى هذه الطاقة المبدعة التي تضغط عليه كي تنتزعه من غموضه غير المجدي والمؤلم،ثم تحمله بواسطة الصياغة نحو الوجود وكذا الحركة".
هيَّا أنت انهض ! انهض يا هذا ! أيها النائم في بلد الأوهام،انهض، وتمدَّد !
يهيئ هذا التوتّر نهوض الكائن، وضع يجسِّد في نهاية المطاف الدرس الأخير لشعرية ويليام بليك.
سنعود إلى قصيدة أقل توتّرا، وهوائية بكيفية خاصة.لم نتوخى إظهار سوى أوجاع كائن تمتلكه الأرض من كل جهة، لكنه يشتغل بقوى متخيَّلة تتوخى مغادرة الأرض.نلاحظ، عبر جلّ صفحات عمل بليك، سلاسل متوترة جراء مجهود أبان عنه بروميثيوس جديد. بروميثيوس طاقة حيوية، يتمثل شعارها في التالي:''تشكِّل الطاقة الحياة الوحيدة، مصدرها الجسد .الطاقة متعة أبدية''.تستدعي هذه الطاقة تخيّلها. ذلك أن حقيقتها في حد ذاتها متخيَّلة. طاقة متخيَّلة تنتقل من المحتمل إلى الفعلي.إنها تسعى نحو تشكيل صور على مستوى الشكل والمادة، تملأ الأشكال، وتنعش المواد.الخيال الديناميكي،عند ويليام بليك، إبلاغ عن الطاقة.
لكي يستوعب القارئ بليك، يلزمه التمرّن على استنفار مختلف عضلات جسده،ثم أن يضم أساسا المجهود إلى النَّفَس، نَفَس الغضب.وقد تأتى له أيضا،إعطاء الدلالة الحقيقة لما يمكننا تسميته كي نميز إلهام ويليام بليك، ب:إلهام أجشّ. يعكس حقا هذا النَّفَس الموجع،صوتا متكهِّنا يتكلم بين طيات صفحات مؤلفات ''أورزين''(9)، لوس(10)، أهانيا(11).ضمن"قائمة وصفية بلوحات، لإبداعات شعرية وتاريخية''، رسمها بليك بذاته (الرسائل 1939) ، كتب التالي :''ليس الفكر والرؤيا،كما تفترضهما الفلسفة الحديثة،مجرد بخار ضبابي أو لاشيء،بل هما مهيكَلان ومترابطان بكيفية دقيقة أبعد مما بوسع أن تنتجه الطبيعة الفانية وكذا القابلة للتلف. من لايتخيَّل بسمات أقوى وأفضل، ثم بوضوح أقوى وأفضل، مما أمكن عينه اليسرى رؤيته، فإنه لايتخيَّل قط'' (ترجمة جون لوسكور).
أن نتخيَّل، يعني التسامي بالواقع من خلال نبرة معينة.يبدو بأن أشباح بليك امتلكت بالضرورة صوتا عميقا، صوتا حَلْقيا، أكثر''تلفظا وبتأنٍّ دقيق"،مثل الأصوات المهموسة التي تتحدث بين طيات القصائد حيث ''لانتخيَّل قط''.يبدو بأن نصوص عمله "الكتب المتكهنة''، حين الإصغاء إليها كقصيدة للنَّفَس المعذَّب،ستغدو مثل ابتهالات للطاقة، وكذا صيغ تعجبية متأمِّلة.بكيفية أكثر عمقا،يلزمنا تبيُّن تحت الأقوال،خيالا يحيا أو حياة تتخيَّل.
ويليام بليك، نموذج نادر عن خيال مطلق يوجه المواد، القوى، الأشكال، الحياة، الفكر، والذي يمكنه الإقرار شرعيا بفلسفة تشرح الواقع بالمتخيَّل،مثلما نتوخى القيام بذلك.
سنحاول على امتداد هذا الفصل طرح ملخص للموضوعات الشعرية المتنوعة جدا كما تطرحها جمالية الأجنحة، أو تحديدا، الطاقة التي تمنح الخِفَّة والحبور. نقتفي هدفا عاما : نشتغل أيضا قدر مايكون التدقيق على الإشكالية الصعبة لعلاقات الشكل والقوة التي نعيشها الواحدة تلو الأخرى بفضل الخيال.لانعتقد بـأنه يجوز لنا المبادرة إلى دراسة بكيفية شاملة لمختلف الصور التي يمكنها التراكم لدى كائن منعزل.بالتالي، سيكون مفيدا دراسة مختلف الصور الشعرية التي يقدمها طائر معين.
تتيح مجموعة حيوانية حول صور أدبية، مذهبا عاما بخصوص نظرية جمالية معيارية، مثلما تحقق نفس الأمر مع تلك المتعلقة بالصور الأسطورية، كما اشتغل عليها أنجيليو ودي جوبيرناتيس، فقدم بذلك خدمة إلى الأسطورة.لكنها، مهمة تتجاوز قوانا،إضافة إلى كونها تربطنا بأمثلة اقتفيناها طويلا جدا، وبالتالي افتقاد وجهة الوظيفة الفلسفية التي تصورتها وتحيل باستمرار على قواعد المتخيَّل العامة، وكذا تأمل عناصره الأساسية.
مع ذلك نريد إنهاء هذا الفصل بعرض مثال خاص جدا، يؤكد حسب اعتقادي أطروحتي العامة بخصوص سيادة الخيال الديناميكي قياسا لخيال الأشكال.الصورة الماثلة أمام نظري، تلك المتعلقة بطائر القبَّرة.صورة مشتركة لدى مختلف الآداب الأوروبية.
لكي ننخرط بسرعة في السجال، نلفت الانتباه بأن القبَّرة مثال ساطع عن صورة أدبية بحتة.محض صورة أدبية؛ تجسد مبدأ مجازات عديدة، مجازات مباشرة جدا كما يظهر لنا، حينما نتحدث عن القبَّرة، من ثمة فهي تعكس حالة واقعية.بيد أن حقيقة القبَّرة في الأدب، ليست سوى محض حالة خاصة وخالصة عن واقعية المجاز.
هكذا،وقد تاهت القبَّرة بين الأعالي والشمس، ينعدم حينئذ كيانها بالنسبة لعين الرسام.إنها صغيرة جدا كي تشكل دلالة مشهد طبيعي.لون أخدود،لايمكنها إضفاء أي وردة على أرض الخريف.لذلك، فالقبَّرة – التي تلعب دورا كبيرا في لوحات الكاتب- لايمكنها أن تظهر في لوحات الرسام.
حينما يستدعيها الشاعر،ستبدو من بعض النواحي،ضدا على كل مقياس،مهمة بقدر أهمية الغابة أو الجدول.
لقد منح ''جوزيف فرايهرفون أيشندورف''، القبَّرة في عمله''مغامرات إنسان بلا كفاءة''، موقعا ضمن الكائنات الكبرى للمشهد الطبيعي :
أتركُ الرب يدبر أمور كل شيء،
هو الذي يضمن استمرارية الجداول، القبَّرات ، الغابات، الحقول،
الأرض والسماء(12).
لكن هل بوسع الكاتب نفسه أن يقدم لنا بهذا الخصوص وصفا حقيقيا؟هل يمكنه حقا أن يفيدنا على مستوى شكلها ولونها؟
فعلا التزم جول ميشليه بذلك عبر صفحات غذت توثيقا شعبيا.غير أن وصفا من هذا القبيل : ''طائر بكساء رثٍّ جدا، لكنه في غاية الثراء حين الإحالة على فؤاده وشدوه''،سرعان مايتخذ طابع لوحة أخلاقية.يلزمنا تسميتها ب'' قبَّرة ميشليه". الآن، أضحت القبَّرة ''شخصا وستظل كذلك إلى الأبد''، حسب تعبير ميشليه دائما، متحدثا عن طائر من هذا القبيل وصفه ألفونس توسينيل (ميشليه، الطائر).
يبالغ توسينيل، وقد عبَّر بالأحرى عن وصف سياسي بدل المقاربة الأخلاقية (توسينيل ص 250 ) :"ترتدي القبَّرة معطفا رماديا، الحزينة المستسلمة إلى العمل،عمل الحقول، الأكثر نبلا، وفعالية، والأقل تعويضا، ثم الأكثر كآبة مقارنة مع الباقي''.ستظل إلى الأبد ''رفيقة المُزَارع''.إنها ابنة المحراث، مثلما يقول بيتروس بوريل :نزرع من أجلها(13). غير أن الرمزيتين الأخلاقية والسياسية، تبعدنا عن الرمزيتين الطبيعية والكونية، المرتبطتين بالقبَّرة،كما سنرى.
مع ذلك، وفيما يتعلق بوصف القبَّرة، ينمّ أصلا نموذج ميشليه وتوسينيل،عن أعراض؛ ذلك أن وصفها يعني،تجنّب الوظيفة الوصفية، قصد العثور على جمال ثان غير الجمال الوصفي."صيَّاد صور" صاحب عين ثاقبة؛ يراهن ببراعة لاتعرف الكلل على تعدد ألوان الأشكال، كما الشأن مع جول رونار،حينما وجد نفسه صدفة أمام ظاهرة القبَّرة،على نحو مثير بكيفية فورية (وقائع طبيعية،القبَّرة).
لم أر قط طائر القبَّرة وأستيقظ بلا جدوى قبل الشفق.
ليست القبَّرة طائرا أرضيا.
لكن استمعوا مثلما أسمع
اسمعوا، في مكان ما،هناك صوب الأعالي، دقَّ قِطع بلورية وسط كأس ذهبي.
من بوسعه إخباري أين تشدو القبَّرة ؟
تعيش القبَّرة في السماء،إنها الطائر الوحيد الذي ينساب شدوه غاية مكاننا(14).
يستحضرها الشعراء ويرفضون وصفها.لونها،على سبيل المثال؟هكذا رسمه أدولف ريسي (الأعمال الكاملة، ص 30)، وفق الصيغة التالية :"ثم، انتبهوا : ليست القبَّرة من تغرد بل طائر لون اللانهائي".نضيف بدورنا : لون التعالي. القبَّرة انبجاس لتسامي بيرسي شيلي : إنها خفيفة وغير مرئية. اقتلاع من الأرض ثم انتصار فوري؛ صرختها لاتنطوي عن أي سمة من قصيدة ويليام بليك.إنها ليست خلاصا،بل على الفور حرية. ترنّ نغمة التعالي،عبر مختلف نبرات شدوها.
نستوعب في هذا الإطار، دواعي تأطير القبَّرة من لدن جان بول جوبيل (ترجمة ص 19) ، ضمن خانة الشعار التالي :"غرِّدْ، تحلق إذن''. ويبدو، بأنه تغريد يرتفع زخمه قدر ارتفاع تحليق الطائر. يعطي تريستان تزارا (حبيبات ومنافذ،ص 120) ، القبَّرة مصيرا ''بعد'' الفعل النهائي :"بعض انعطافات القبَّرات،التي تستوجب تتمة بعد فعل نهائي،تشكل دائما موضوع نصح".
لماذا اتسم المنحى العمودي للشدو، بتأثيره الكبير على النفسية الإنسانية؟ كيف يمكننا التقاط هذه السعادة والأمل الكبيرين؟ ربما،لأنه شدو يعتبر في الوقت نفسه ساطعا وغامضا. وقد ابتعدت فقط بأمتار عن السطح، تثير القبَّرة غبارا على ضياء الشمس :تهتز صورتها مثل زغاريدها؛ نراها تتيه بين طيات الضوء.أليس بوسعنا ونحن نرغب في صياغة هذا الساطع اللامرئي، تضمين الشعرية بعض أهم خلاصات العبقرية العلمية.نقول إذن :ضمن الفضاء الشعري، القبَّرة جُسَيم لامرئي تصاحبه موجة سعادة. نوع هذه الموجة انتابت شاعرا مثل جوزيف فرايهر فون أيشندورف إبان الفجر (ص 102) :"أخيرا، أعيش على امتداد السماء أسرابا طويلة حمراء اللون وقعها أخفّ من أثر نَفَس على مِرآة ؛تغرد قبَّرة في أقاصي الأجواء فوق الوادي.هكذا، وبفضل هذه التحية الصباحية،غمر روحي صفاء كبير،وتلاشى كل خوف''.
أما الفيلسوف، مستندا تماما على تهور مهمته، فسيقترح نظرية تموجية للقبَّرة.متوخيا إقناعنا بأنه وحده الجزء النابض بالحياة في كياننا، سيتأتى له اكتشاف القبَّرة؛ يمكننا وصفها ديناميكيا بفضل مجهود للخيال الديناميكي، ولايمكننا وصفها شكليا في خضم سيادة إدراك الصور المرئية.يتعلق الوصف الديناميكي للقبَّرة بعالم متيقِّظ يغنِّي عبر واحد من وجهاته.
لكنكم تضيعون وقتكم حين السعي إلى مباغتة هذا العالم في أصله، بينما يحيا سلفا وفق تمدّده.تضيعون وقتكم في تحليله، بينما يعكس تركيبا خالصا لكائن وصيرورة،تحليق وشدو. يعتبر العالم الذي تحرضه القبَّرة الأكثر استخفافا مقارنة مع باقي العوالم. هو عالم أرض السهول، شهر أكتوبر وقد انحلت الشمس المشرقة بأكملها بين ثنايا ضباب لانهائي.عالم كهذا، امتلك ثراء دون مباهاة على مستوى العمق، العلو، والحجم. من أجل عالم كهذا يحدث دون تخطيط، تشدو القبَّرة اللامرئية :"أغنيتها مرِحة، خفيفة، دون تعب، لاتكلف شيئا، فتبدو مثل سعادة فكر لامرئي يتوخى تسلية الأرض''(ميشليه الطائر، ص 30) .
لم يتغنَّى أيّ شاعر أفضل من شيلي بالساطع اللامرئي مثلما تجسده القبَّرة-بمصطلحات موجة السعادة- فقد استوعب أفقها الكوني، سعادة''دون جسد''،متجددة للغاية على الدوام في إيحائها بحيث يبدو بأن عِرقا جديدا يمثل مبعوثا لها :
Like an unbodied joy whose race is
Just begun
مثل سحابة نار،تمنح أجنحة إلى العمق الأزرق.بالنسبة لقبَّرة شيلي،الأنشودة اندفاع، والاندفاع نشيد. إنها سهم حاد يركض ضمن مجال فضي، تجابه القبَّرة جل مجازات الأشكال والألوان.
لايدرك الشاعر''متواريا خلف ضوء الفكر"،الإيقاعات التي تبعثها القبَّرة صوب''كل ملتقيات السماء''(توسينيل) :
ما أنتِ عليه، لاندركه قط.
أرْشِدنا،أيها الفكر أو الطائر،
نحو أفكاركَ العذبة
فلم أسمع قط
مديحا للحب أو النشوة يضخ مدَّا نابضا بافتتان إلهي جدا.
لاتعكس القُبَّرة مجرد سعادة الكون، بل تجعلها فعلية، إنها تصممها.حينما نسمعها يغدو، الخيال ديناميكيا، من جهة إلى أخرى، بحيث لايصمد أمامه كل فتور، أو رمادية ضجر معين. ألا تشكِّل الظلمة التي سماها بيرسي شيلي'' الامتعاض'' أو كآبة (ظلّ الانزعاج)، بسأم مصاب بالحنين لازال راقدا بين ثنايا كلمة شائخة فرنسية انتقلت صوب لغة أجنبية ؟ من هو الشخص الذي لم يشعر بهذا ''الامتعاض''،خلال لحظات عزلة عند سَهْل تغمره خيوط أشعة شمس صبيحة يوم بارد؟ وحده شدو قُبَّرة يمحو كل الضجر الناجم عن الحنين إلى الماضي.
تسطع كونية القُبَّرة من خلال المقطع الشعري التالي :
ماالموضوعات التي شَكَّلت مصدرا لموسيقاكِ السعيدة؟
ما الحقول، ما الأمواج، ما الجبال، مظاهر السماء أو الأرض المنبسطة؟ عشقكِ لسلالتكِ الخاصة ؟ ثم أيّ تجاهل هذا للوجع؟
هكذا، ستبدو لنا القُبَّرة نموذجا عن رومانسية البهجة(15) كما الشأن مع شعرية شيلي، مثالا أعلى لهواء مهتزِّ لانستطيع تجاوزه :
لو ألهمتِيني نصف السعادة
التي يدركها دماغكِ
هكذا ينساب من شفتي إيقاع في غاية الجنون
يصغي إليه العالم،وقد كنت كائنا مستمعا.
نفهم الآن أولى المقاطع الشعرية لقصيدة :
''طائر، لن تكون كذلك قط !
آه ! بل أنت، فكر البهجة''
لايلهمنا الكائن الواقعي شيئا؛ مادامت القُبَّرة ''محض صورة''،صورة روحية خالصة، لن تكتشف حياتها سوى في خضم خيال هوائي باعتباره نواة لمجازات الهواء والارتقاء. سنرى من خلال ذلك دلالة حين الحديث عن ''القُبَّرة المجردة" وفق نفس معنى حديثنا عن "قصيدة خالصة".قصيدة من هذا القبيل لايمكنها استساغة مهام وصفية، وظائف تتحدد ضمن فضاء تتناسل داخله موضوعات جميلة.بحيث ينبغي لهذه الموضوعات الخالصة التسامي بقواعد التمثُّل.
يلزم موضوع شعري أصيل امتصاصه في الوقت نفسه لكل الذات والموضوع. قُبّرة شيلي الخالصة، تبعا لسعادتها غير المجسَّمة،نتاج سعادة بين الذات والعالم.نستخف من وجع سنٍّ، مادام يشكل فقط وجعا لصاحبه بينما لن تسخر أيّ روح شعرية من هذه''السعادة غير المجسَّمة'' سعادة عالم يتمدّد، عالم يزداد كِبرا وهو يغني(16). يقول ميشليه:"تحمل القُبّرة صوب السماء مباهج الأرض".
حينما ننشد الأمل، تخلقه القُبّرة.بالنسبة لليوناردو دافينشي، هي متكِّهَنة ومعالِجَة (مذكرات ليوناردو دافينشي، ترجمة، الجزء الثاني،ص 377 ) :''يقال بأنه حينما توضع قُبّرة بجانب شخص مريض، فإنها لاتلتفت نحوه،إذا دقت ساعة رحيله،لكن إذا استدعاها نفس المريض كي تعالجه، سيركز الطائر عليه نظره ثم بفضل ذلك يتخلص الشخص من ألمه ''.
لدينا ثقة كبيرة جدا بخصوص قوة تسمية هذه الصورة الأدبية الخالصة التي ترسمها قُبّرة مجردة، تغدو حسب تصورنا مشهدا طبيعيا هوائيا يجد وحدته الديناميكية الصريحة حينما يمكننا وضعها تحت إشارة قُبّرة وسط أعالي السماء.
على سبيل المثال، صفحة كتبها غابريل دانونزيو، أظهرت القُبَّرة أولا باعتبارها مجازا، لكن يبدو لنا بأن فقرات الصفحة تستوفي من هذا المجاز نفسه السمة الهوائية وكذا منحى الارتقاء(17).
ترنّ كل سماء الليل بلحن جماعي مذهل للقُبَّرات
ترنيمة أجنحة، نشيد ريش و أجنحة، بحيث لايفوقها ضخامة سوى الملائكي… هكذا تجلت سمفونية مسائية لفصل ربيع مجنَّح بأكمله.
ترتقي السيمفونية، ثم ترتقي دون فترات توقف (كلما صعدت القُبّرة إلا وصدح شدوها).ثم شيئا فشيئا، تتبلور نتيجة مفعول مزمور ربَّات الغابات، موسيقى نسجتها صيحات ونغمات،غدت إيقاعات متناغمة لاأعلم حقا جراء عامل المسافة أو القصيدة.
وتدوِّي أجراس كما لو على امتداد جبال زرقاء.
من بين طيات الصخب النشاز لريف مضطرب، تنبثق بسبب هذا ''التحول''الذي أنجزه طائر القُبَّرة خلال سكينة الليل، وحدة رنانة،عالم موسيقي، نشيد يتعالى.سيدرك حينها خيال هوائي دون تردد، بأنّ الصعود يحدِّد الإيقاع، ثم يعيش في الوقت نفسه بيسر وحدة جمالية وأخلاقية، استمرارية الإحساس الجمالي وكذا الأخلاقي لهذه الصفحة(المرجع نفسه، ص 139) :"لم تكن للترنيمة نهاية. بدا كل شيء مرتقيا، صاعدا دائما، بفعل نشوة الشدو.ترتفع الأرض نتيجة إيقاع الانبعاث.لم أعد أشعر قط بركبتي، ولاأشغل حيز مكاني الضيق مع ذاتي؛ بل غدوتُ قوة صاعدة ومتعددة، ماهية متجددة من أجل تغذية ربانية المستقبل".
هو نفس الاندفاع المتعدد يتبدى بين صفحات كتاب مدينة الموت للكاتب دانونزيو دائما:"تكتسي كل الريف أزهار برِّية صغيرة تحتضر.وشدو القُبَّرات يغمر مجموع السماء.آه ! كم هو رائع !لم يسبق لي قط أن سمعتُ شدوا متهورا.آلاف القُبَّرات، حشد بلا عدد.تنبعث من كل الجهات،مندفعة نحو السماء بحدّة رَمْية مِقلاع، تظهر كأنها مجنونة،تضمحل هناك وسط الضياء ولاتظهر ثانية قط، كما لو أنها استهلكها الشدو،أو التهمتها الشمس.فجأة، سقطت إحداها عند قدمي حصاني، في وزن حجرة؛ ثم تمكث ميتة مصعوقة بانتشائها،لأنها غردت ببهجة مفرطة".
يخضع جميع الشعراء بكيفية لاواعية لوحدة الشدو المتأتية لنا،من خلال منظر أدبي،بفضل غناء القُبَّرة.كتب لوسيان وولف في كتابه الجميل حول جورج ميريديث،الشاعر والروائي (ص 37) :''ليس تغريد القُبَّرة بحماسة شخصية للطائر،لكن بمثابة تعبير عن مباهج شتى، وكذا جل نزوع حماسة العالم الحيواني والعالم الإنساني معا''.ثم يستشهد بهذه المقاطع الشعرية لميريديث (القُبَّرة التي ترتفع) :شدو القُبَّرة :
إنها الغابات، والمياه، وكذا تلك الأسراب غير الخطيرة؛
إنها منحدرات، عائلة آدمية.
بجوار أراضي خضراء، وداكنة أو عقيمة.
وكذا رؤى من لازالوا داخل المدن يرسمون.
تشدو القُبَّرة النسغ وكذا الحياة المزهرة.
انصهار الشمس والأمطار.
تتفقَّد الأطفال، والزارع
بهجة وصرخة الرعاة المزهرة
زهرات الربيع وكذا البنفسج.
يبدو بأن، الغابات، المياه، الكائنات البشرية، القطعان، وكذا سطح الأرض نفسه بمروجه و تلاله، وبفضل نداء القُبَّرة، أضحت جميعها هوائية، تشارك في الحياة الهوائية. حققت بناء على سياقها ذاك نوعا من وحدة الإنشاد.
إذن، تمثل حقا القُبَّرة الخالصة إشارة عن التسامي بامتياز. يستطرد لوسيان وولف (ص 40) :" تحرك القُبَّرة ،ماهو أكثر نقاء داخلنا''.
يسكن نفس الطُّهر تلك النهاية الرشيقة،داخل الاختفاء وكذا الصمت القابعين عند منتهى السماء.فجأة، نتوقف عن الإصغاء.هكذا يصمت الكون في بعده العمودي مثل سهم لن نقذف به ثانية.
القُبَّرة ميتة في الهواء
بينما لانعلم عن سقوطها(18) .
*هوامش :
مصدر المقالة :
Gaston Bachelard :Lair et Les songes .Essai sur l imagination du mouvement(1943).pp :79 -106.
(1) يمثل طائر الرفراف،بألوانه الساطعة،استثناء.فهل امتلك مختلف انعكاسات النهر؟
(2)فرانسيس جيمس :أسطورة الجناح أو ماري إليزابيث(ص 77).حينما تسمع إليزابيث العندليب يشدو،تدرك بأن الطائر''في حاجة لانهائية كي يحلق ويعشق أبعد من الأجنحة''.الجناح مصدر مجازات لانهائية للتمدد.
(3) جون تارديو : شاهد متواري،ص 30 .
(4) أورده فيكتور ديلابورت : المدهش في الأدب الفرنسي خلال حقبة لويس الرابع عشرة،1891،ص 124 .
(5) حَدّد بوفون الوطواط مثل"كائن متوحش"،و"تعكس حركته في الهواء نوعا من الرفرفة المتعثرة أكثر من كونها تحليقا،بحيث تبدو أنها لاتتحقق سوى بمشقة وعلى نحو أرعن''.
(6) فاسيلي روزانوف : قيامة زماننا (1929).
(7) فيكتور هيغو : الإنسان المبتسم. هيتزيل (1883) ص :73"العمود الفقري له تأملاته الشاردة".
(8) إينيتارمون : شخصية نسائية رئيسية في أسطورة ويليام بليك(المترجِم).
) 9) يمثل أورزين، في أسطورة ويليام بليك، تجسيدًا للعقل والقانون التقليديين.عادة ما يتم تصويره كرجل كهل صاحب لحية كثيفة (المترجم).
(10) المقصود هنا كتاب ويليام بليك : The Song of los(المتر جِم).
(11) كتاب أهانية، من الكتب المتكهِّنة للشاعر ويليام بليك. صدر عام 1795(المتر جِم).
(12) ترجمة بودلو ص.12
(13) بيتروس بوريل :السيدة بوتيفار،1877،ص 184 .
(14) من خلال لعبة وكذا صراع صور انتُزعت من غشائها الثقيل، يقدم موريس بلانشار في سطور معينة كل سوريالية القبَّرة:"تتحطم قُبّرات مزعجة على حائط مرآة، ومنذئذ، هي فواكه تسبح باسم الرب. أضحت حناجرها الشفافة مواطن سوداء تائهة بين عاجِ الفِقْريات. تعيدها صرخة الزُّجاج إلى ريشها البلوري''(دفاتر القصيدة،"السوريالية مرة أخرى ودائما"،غشت 1943 ،ص 9 ).نتيجة الزُّجاج، امتلكت القبَّرة الشفافية، صلابة المادة، ثم الصرخة.هكذا، ستحدد مادة صلبة، ملامح قبَّرة أخرى أبعد من حقيقتها المادية.
(15)جورج ميريديث (شاعر وروائي) :''القُبَّرة محلِّقة، كما لو أنه على مستوى الحياة يسير كل شيء وفق المبتغى".
(16) أيضا، كتب فيكتور بوسيل :'' القُبَّرة ،في الأعالي، ابتهاج وسط السماء،أسمعها صباحا وأنا أعبر الريف،وأكتشف حينها بأني سعيد حقا(روحانية الأرض،مرافعة من اجل الجسد،ص 78).
(17)دانونزيو تأمل الموت ترجمة ص 136
(18)جولز سوبيرفيل :انجذاب ص.198


.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى