د. مصعب قاسم عزاوي - هل تستخدم 10٪ فقط من دماغك؟.. تعريب فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع

تعريب فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع لملخص محاضرة قدمها الطبيب مصعب قاسم عزاوي باللغة الإنجليزية في مركز دار الأكاديمية الثقافي في لندن.

هل نستخدم 10٪ فقط من أدمغتنا؟ أو بشكل أكثر تحديداً، هل الفرق بين الغالبية العظمى من البشر العاديين والنخبة المثقفة هو نسبة مادة الدماغ التي يتم استخدامها؟ للإجابة على هذه الأسئلة، يجب أن نكون أكثر دقة. هل نعني أنه في أي وقت، نستخدم 10٪ فقط من دماغنا المادي، والباقي خامل؟ أم نعني أننا نستخدم 10٪ فقط من قدرة عقولنا، ونترك 90٪ من إمكاناتنا غير مستغلة؟ في الحقيقة هناك اختلافات دقيقة، ولكنها مهمة بين هذين التفسيرين لأسطورة استخدام 10% من قدرات أدمغتنا.

أسطورة الـ 10٪

التفسير الأول هو قراءة أكثر حرفية لفكرة أننا نستخدم 10٪ فقط من مادة دماغنا في حياتنا اليومية. يشير بعض المؤلفين إلى حقيقة أن بعض الأطفال يمكن أن يتطوروا مع إدراك سليم نسبياً، على الرغم من ولادتهم بقطع كبيرة من الدماغ مفقودة وغير موجودة في أدمغتهم لعلل تشريحية، أو أن الطفل يمكن أن يتعافى من استئصال نصف الكرة الدماغية بالكامل ولا يمكن تمييزه أيضاً عن أقرانه. لذلك، ربما لا يكون جزء كبير من الدماغ ذي الحجم الطبيعي ضرورياً أو أنه يظل خاملاً.

وايلدر بنفيلد، جراح الأعصاب الذي عالج مرضى الصرع، اكتشف أنه إذا قام بتحفيز أجزاء معينة من القشرة، فسيكون لدى المرضى تجارب محددة للغاية. قد يؤدي تحفيز القشرة الحركية إلى تحريك أحد الأطراف، بينما يؤدي تحفيز القشرة الحسية الجسدية إلى إحساس معين بالتلامس. قد يؤدي تحفيز أجزاء من الفص الصدغي إلى سماع الموسيقى أو إطلاقها في ذاكرة حية.

ولكن كان هناك أيضاً الكثير من أجزاء الدماغ التي قام بتحفيزها دون أي رد فعل يمكن ملاحظته من مرضاه، مما جعله يتساءل عما إذا كانت هناك، في الواقع، مناطق من الدماغ غير مستغلة بشكل كافٍ.

ثم هناك قصة أحد أشهر المرضى في تاريخ علم الأعصاب: فينياس غيج، عامل بناء سكة حديد صُدم بقضيب أصاب وجهه من أسفل وخرج من أعلى رأسه في عام 1848.

حقيقة أن غيج نجا من الحادث المروع أمر رائع بما فيه الكفاية. ولكن الأمر الأكثر لفتاً للنظر هو أنه بدا أنه استعاد قواه العقلية بعد فترة وجيزة من الإصابة، والتغييرات الطويلة الأمد الوحيدة التي لاحظها الأطباء والأصدقاء نُسبت إلى شخصيته، وليس إلى عقله. كيف يمكن لشخص أن يتعافى من مثل هذه الإصابات الهائلة في الدماغ إذا كنا نستخدم حقاً كل مواد دماغنا؟

ولكن حتى في وقت إصابة غيج، كان تفسير ما يمكن أن تخبرنا به حالته عن وظائف المخ محل نقاش ساخن. وصفه طبيبه قبل الإصابة بأنه مجتهد ومسؤول وأفاد أنه بمجرد تعافيه، بدا ذكاؤه العام وذاكرته سليمة، لكن سلوكه كان غير لائق اجتماعياً. كان لا يمكن التنبؤ بأفعاله، وعرضة للتفوه بكلام بذيء، وعنيد، ومتقلب المزاج، ويبدو أنه لا يهتم بالآخرين.

تعد حالة غيج من بين أولى الحالات التي تشير إلى أن الفص الجبهي، مكان إصابته، يلعب دوراً في التحكم في الغريزة الحيوانية لدى بني البشر، وجاءت حالته في وقت كان العلماء منخرطين في نقاش حول ما إذا كان الدماغ نمطياً، أي مناطقه مختلفة وتخدم وظائف مختلفة، أم متساوي الجهد، أي كل جزء لديه القدرة على القيام بأي وظيفة.

في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان علم فراسة الدماغ فرعاً شائعاً في علم النفس. يعتقد علماء فراسة الدماغ أن الدماغ مقسم إلى وحدات مسؤولة عن جوانب محددة من الأفكار والمشاعر والجوانب الأخرى للشخصية البشرية.

ولقد أخطأ علم فراسة الدماغ في النهاية في الإشارة -بشكل ثبت عدم صوابه لاحقاً- إلى أن القوى العقلية للشخص لها انطباعات مميزة في شكل الجمجمة. وكانت الفكرة الخاطئة هي أن الجوانب الأقوى في الشخصية تأتي من الوحدات المتضخمة للدماغ، والتي يمكن قراءتها بواسطة النتوءات الموجودة في الجمجمة. نحن نعلم الآن أن شكل الجمجمة لا يتنبأ بشكل الدماغ.

لكن الفكرة القائلة بأن الدماغ نمطي، به مناطق معينة لها وظائف محددة، تظل مفهوماً أساسياً في علم الأعصاب اليوم. وقد تلقت النمطية الدعم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع اكتشاف المرضى الذين يعانون من آفات محدودة وفقدوا وظائف معينة.

على الجانب الآخر من النقاش، كانت فكرة أن الدماغ، أو الكثير منه، متساوي القدرات. وهذا يعني أن مادة الدماغ يتم إنشاؤها بشكل متساوٍ إلى حد كبير، وكلما زادت المادة لديك، كلما كانت قدراتك العقلية أفضل. وبالمثل، كلما زاد الضرر كلما كنت في حال أسوأ.

فسر معارضو النظرة النمطية للدماغ قصة غيج كدليل يدعم موقفهم: كانت قدراته العقلية، في حد ذاتها، سليمة على الرغم من تلف دماغه الشديد. فقط شخصيته تغيرت.

وقد تجادل بأن النسخة الحرفية من أسطورة استخدام الدماغ بنسبة 10٪ هي بقايا من فكرة أن الدماغ متساوي القدرات - لدينا كل هذه المادة الدماغية غير المستخدمة والتي يمكننا تخصيصها لوظيفة ما إذا تمكنا من تحفيزها، لكننا لسنا بحاجة إليها لتعمل بطاقتها القصوى في حيواتنا اليومية. وفي الخمسينيات من القرن الماضي، في الوقت الذي كانت فيه أسطورة استخدام الدماغ بنسبة 10٪ تكتسب أرضية، كان اثنان من العلماء يجرون سلسلة من التجارب التي بدت أنها تثبت صحتها.

بعد سلسلة من التجارب على الفئران المصابة بآفات دماغية، خلص كارل لاشلي وشيبارد إيفوري فرانز إلى أن الآفات المحددة لا تؤدي إلى عجز معين؛ بدلاً من ذلك، كانت الكمية الهائلة من الدماغ المتضرر هي التي فرضت أداء الذاكرة. كلما تضرر جزء أكبر الدماغ، كلما كانت القوارض أسوأ في العثور على الطعام في المتاهات.

وقبل قرن تقريباً من هذه التجارب، في وقت قريب من إصابة غيج، وجد عالم فيزيولوجي فرنسي يُدعى جان بيير فلورنز أن الحمام المصاب لا يزال قادراً على الطيران، والأكل، والتزاوج، ولا يزال بإمكان الضفدع أن يتعلم تجنب أي عقبة مع نصف كرة دماغي واحد سليم فقط.

كان من الواضح أن فلورنز يميز بين نصفي الكرة الدماغية وأجزاء أخرى من الجهاز العصبي، ويمكن القول إن أكبر مساهماته في علم الأعصاب كانت فكرة أن الحبل الشوكي والمخيخ والبصلة السيسائية ومناطق الدماغ الرئيسية الأخرى لها أدوار محددة. كان يعتقد أن نصفي الكرة الدماغية فقط متساويان القدرة ويعملان كوحدة واحدة.

لذلك، في حين أننا قد نحتاج إلى كل الهياكل تحت القشرية أي الحبل الشوكي والمخيخ والبصلة السيسائية، إلا أن نصفي الكرة الدماغية قد يحتويان على كل إمكاناتنا غير المستغلة. حسب بعض الروايات، فإن أسطورة الدماغ بنسبة 10٪ ترجع أصولها إلى عمل فلورنز.

دليل بطلان أسطورة الـ 10%

ما هو الدليل على أننا نستخدم، في الواقع، أكثر من 10٪ من أدمغتنا المادية، بما في ذلك كل القشرة الدماغية لدينا، حتى عندما نكون كسالى معرفياً؟

إن أدمغتنا مكلفة من الناحية الأيضية أي الطاقة الاستقلابية مقاسة بكم الحريرات التي يحتاجها الدمغ لكي يعمل بكفاءة، لذلك يجب أن يكون هناك سبب وجيه لاستمرار الاصطفاء الطبيعي في تفضيل مثل هذا العضو الباهظ الثمن إذا كان يتم استخدامه جزئياً فقط. وعندما ننظر إلى نشاط أدمغتنا مقاساً بتخطيط الدماغ الكهربائي أو بتقنية التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي في حالة الراحة، من الواضح أن الإشارات تتحرك ذهاباً وإياباً عبر مساحات واسعة من أدمغتنا ولا توجد مناطق مهمة هادئة ببساطة.

الاستنتاج الذي لا جدال فيه من دراسات التصوير العصبي هو أنه على الرغم من أننا قد لا نفهم بالضبط ما يفعله الدماغ في حالة الراحة، إلا أن الدماغ بأكمله يقوم بشيء ما، حتى عندما نقوم بتقسيم المناطق الدماغية إلى مناطق متخصصة وظيفياً. بعد ربط هذا مباشرة بأسطورة 10٪، يمكننا أن نستنتج أن دماغنا بالكامل منخرط بنشاط حتى عندما نريح عقولنا، وإلى درجة ما حتى عندما نكون في حالة النوم السطحي الذي يدعى النوم المترافق بحركات العين السريعة.

هناك أدلة أخرى تأتي من مرضى يعانون من تلف في الدماغ. يكاد يكون من المستحيل إتلاف الدماغ إلى حد كبير دون تعطيل بعض جوانب الحياة العقلية. ومع ذلك، ما زلنا نسمع قصصاً عن أطفال ولدوا بنصف دماغ فقط ويبدو أنهم يعملون بشكل طبيعي، أو أشخاصاً يستعيدون وظائفهم بعد تضرر جزء كبير من دماغهم. إذ لحسن الحظ، يُظهر الدماغ مرونة القدرة على إصلاح نفسه، وإن كان ذلك يتم ببطء وبشكل مؤلم في كثير من الأحيان.

نحتاج فقط إلى إلقاء نظرة على حياة الأطفال لنرى دليلاً على هذه الفكرة، حيث يكون الدماغ مرناً بشكل خاص أثناء فترة النمو البيولوجي في فترة الطفولة والمراهقة. لكن هذه المرونة تبدي اقصى درجاتها في المراحل المبكرة من عمر الإنسان وتتناقص بشكل كبير مع تقدمه في العمر، إذ يصبح الدماغ متقناً لبعض المهارات والخبرات الخاصة بالفرد عبر تشذيب وتقوية مساري عصبية بعينها في الدماغ هي حصيلة معارف وقدرات الفرد الخاصة والتي يصعب تحويرها لتقوم بوظائف غير التي اعتادت القيام بها مع تقدم الفرد في العمر.

عندما نفكر في الدماغ بالأرقام، يصبح من الصعب أن نتخيل أننا نستفيد من جميع إمكاناته: 86 مليار خلية عصبية مع حوالي 100 تريليون اتصال محتمل هي كمية لا يمكن تصورها تقريباً من الإمكانات. ومع ذلك، إذا لم نمارس مهارة ما، فإن تلك الإمكانيات الهائلة تبدأ في التدهور بسرعة. يتم تخزين المهارات المعقدة في الدماغ بعد ساعات لا تحصى من التدريب المتعمد لأن القشرة الدماغية، حيث يتم تخزين الكثير من هذه المعلومات، تقوم بدور المتعلم البطيء. على عكس الحُصين، الذي يربط سريعاً بين المحفزات المتزامنة، مما يسمح لنا بوضع ذكريات جديدة طويلة المدى، فالقشرة المخية أقل مرونة بكثير.

وخلال عملية التعلم تتشكل الاتصالات والروابط المكتسبة بشكل خاص عندما يتم تنشيط خليتين في وقت واحد، فالخلايا التي يتم تحفيزها في نفس اللحظة الزمنية معاً، تتصل ببعضها البعض. عندما يتم تحفيز خليتين متجاورتين في نفس الوقت، يتم تقوية الروابط بينهما. وهذه هي الطريقة التي يتم تخزين المهارات وأنواع أخرى من المعلومات في القشرة الدماغية ببطء، حيث تنشط الأفعال المتكررة نفس مجموعات الخلايا العصبية بطرق مماثلة. لذلك، يستغرق ترسيخ تلك المسارات والروابط العصبية وقتاً طويلاً. لذلك، من الناحية البيولوجية، لا يمكننا أن نقول فقط أن هناك طرقاً مختصرة لمساعدتنا على الاستفادة من بعض القدرات الهائلة للدماغ نظرياً، لتسريع عملية التعلم، إذ أن التعلم يستغرق وقتاً طويلاً وتدريباً متكرراً، والأهم من ذلك يحتاج كل طاقات الدماغ وليس 10% منه لإدراك الشكل الأمثل من التعلم والمهارات والخبرات التراكمية الناجمة عنه.

علاوة على ذلك، بمجرد أن يتشكل الدماغ بشكل كامل ويصبح متصلاً بشكل متكامل (على سبيل المثال، في بداية مرحلة البلوغ)، يتم استخدام كل جزء منه وليس 10% منه، وأي خلية عصبية تجد نفسها بدون وصلات عصبية مع خلايا أخرى نظراً لعدم تحفيزها خلال عملية التعلم والتدريب الطويل تموت، ويبقى في الدماغ مع حلول فترة البلوغ الخلايا التي تم تحفيزها من قبل وقامت بتشكيل اتصالات وارتباطات عصبية مع خلايا أخرى في شبكات عصبية تمثل حصيلة الدماغ المنقى والمشذب والذي سوف يستمر الفرد باستخدامه كله و ليس أجزاءً محدودة منه خلال ما تبقى من حياته.

ولكن هناك بعض المناطق الدماغية أكثر مرونة من غيرها، وتكون بعض الفترات في حياتك أكثر مرونة من غيرها، خاصة أثناء الطفولة، عندما تتعلم جميع المهارات والمعلومات المهمة التي ستحتاجها لتعمل كشخص بالغ. لهذا السبب يصبح تعلم مهارات جديدة معقدة، مثل كيفية العزف على الكمان، أكثر صعوبة مع تقدمنا في السن؛ لكنها ليست مستحيلة.

ما تقضي وقتك في القيام به له تأثير كبير على توصيلات الدماغ ووظائفه. لذلك إذا كنت ترغب في تكريس 20 عاماً من حياتك لإتقان آلة موسيقية، فمن المؤكد أنك ستظهر تحسناً كبيراً. وفيما يتعلق بتحقيق إمكانات عالية في هذه المهارات المحددة، فمن شبه المؤكد أنك ستتفوق على معظم الأشخاص الذين أمضوا سنوات قليلة فقط في تعلمها.

لكن الوقت كالمال، فما تنفقه منه سيحد من الخيارات الأخرى التي يستطيع دماغك القيام بها. لذا، فإن السؤال في النهاية ليس ما إذا كنا نحقق 10٪ فقط من إمكاناتنا، ولكن ما هي الاجتهادات والتضحيات والصبر الذي قد نكون مستعدين لبذله فيما يتعلق بجميع التجارب والمعارف المتاحة التي قد نستطيع الاشتباك معها خلال وقتنا المحدود على وجه البسيطة.​

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى