د. مصعب قاسم عزاوي - مراجعات في فكر ماكس فيبر.. ملخص محاضرة - تعريب فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع

تعريب فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع لملخص محاضرة قدمها الطبيب مصعب قاسم عزاوي باللغة الإنجليزية في مركز دار الأكاديمية الثقافي في لندن.


يعدّ ماكس فيبر أحد الفلاسفة الأربعة الأكثر قدرة على أن يشرحوا لنا النظام الاقتصادي الغريب الذي نعيشه داخل الرأسمالية بالتعاضد مع إميل دوركهايم، وكارل ماركس، وآدم سميث على الرغم من طريقته الخاصة لشرح ذلك بطريقة تبدو غريبة في الكثير من الأحايين. ولد فيبر في إرفورت بألمانيا في عام 1864، وترعرع ليشعر بالزلزال بسبب التغييرات الدراماتيكية التي بشرت بها الثورة الصناعية. كانت المدن تنفجر في الحجم، وكانت الشركات الضخمة تتشكل، وكانت النخبة الإدارية الجديدة تحل محل الطبقة الأرستقراطية القديمة. وقد حقق والد فيبر - الناجح في مجال الأعمال والسياسة - ازدهاراً كبيراً من هذا العصر الجديد، تاركاً لابنه ثروة من شأنها أن تسمح له بالاستقلال ليكون كاتباً. وكانت والدته شخصية رصينة ومنطوية، وبقيت معظم الوقت في المنزل وهي تمارس نسختها المسيحية الدينية المتعصبة والمتزمتة جنسياً.

أصبح فيبر أكاديمياً ناجحاً في سن مبكرة. ولكن عندما كان في منتصف الثلاثينيات من عمره - أثناء لقاء مع العائلة - وقع في شجار عميق مع والده بسبب معاملة الأخير لأمه. توفي فيبر الأب بعد فترة وجيزة من ذلك الحدث، واعتقد الابن أنه ربما قتله عن غير قصد، وهذا قذفه كالمنجنيق في اكتئاب وقلق شديدين. كان على فيبر التخلي عن وظيفته الجامعية، وأن يبقى في وضع السكوت والسكون بشكل شبه مطلق على أريكة لمدة عامين.

لم يكن فيبر معروفاً إلى حد كبير خلال حياته. لكن شهرته نمت بشكل كبير بعد رحيله، لأنه ابتكر بعض الأفكار الرئيسية لفهم طريقة عمل الرأسمالية ومستقبلها، من قبيل:

1. لماذا توجد الرأسمالية؟

قد تشعر بأن الرأسمالية طبيعية أو حتمية بالنسبة لنا، لكن بالطبع ليست كذلك. لقد ظهرت إلى حيز الوجود مؤخراً نسبياً فقط - من الناحية التاريخية - وقد ترسخت بنجاح في عدد محدود من البلدان.

إن وجهة النظر القياسية هي أن الرأسمالية تكون نتيجة للتطورات في التكنولوجيا (لا سيما اختراع الطاقة البخارية).

لكن فيبر اقترح أن ما جعل الرأسمالية ممكنة هو مجموعة من الأفكار، وليس الاكتشافات العلمية، وخاصة الأفكار الدينية.

برأي فيبر إن الدين جعل الرأسمالية تحدث. وليس فقط أي دين؛ إنه النوع غير الكاثوليكي من ذلك النوع الذي ازدهر في شمال أوروبا حيث كانت الرأسمالية - ولا تزال - قوية بشكل خاص. برأي تم بناء الرأسمالية من قبل البروتستانتية - وتحديداً الكالفينية - كما طورها جون كالفين في جنيف وأتباعه في إنجلترا، البيوريتانيين (الطهرانيين) المتزمتين.

في عمله العملاق، "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"، والذي نشر في عام 1905 - أوضح فيبر بعض الأسباب التي جعلته يعتقد أن المسيحية البروتستانتية كانت بالغة الأهمية في بزوغ الرأسمالية:

ا. البروتستانتية تجعلك تشعر بالذنب طوال الوقت

بنظر فيبر يمكن للمؤمنين من الكاثوليكيين الذين ضلوا الطريق أن يعترفوا لقساوسة كنيستهم بتجاوزاتهم على فترات منتظمة، ويمكن أن "يطهرهم" الكهنة، وبالتالي يستعيدون الإحساس بسمعتهم الحسنة في نظر الإله؛ لكن لا يوجد مثل هذا التطهير متاحاً للبروتستانتيين، لأن الإله وحده قادر على المسامحة، ولن يجعل نواياه معروفة حتى يوم القيامة. حتى ذلك الحين - يزعم فيبر - أن البروتستانتيين يتعيشون مع مشاعر قلق متزايدة، وكذلك رغبات مذنبة مدى الحياة لإثبات فضيلتهم أمام الإله الصارم والمطلع عليهم، ولكن الصامت إلى وقت القيامة.

ب. الإله يحب العمل الجاد

في منظار فيبر، تم تحويل مشاعر الذنب البروتستانتية إلى هوس بالعمل الجاد. خطايا آدم لا يمكن شطبها إلا من خلال كدح مستمر. إن طلب الراحة والاسترخاء والذهاب للصيد - كما دأبت الطبقة الأرستقراطية الكاثوليكية القديمة - كان شبه معدوم في ظل الإيمان البروتستانتي. ليس من قبيل الصدفة، كان هناك عدد أقل بكثير من المهرجانات وأيام الراحة في البروتستانتية. ولم تكن الأموال التي يتم كسبها من العمل للاحتفال هنا والآن. إنها كانت دائماً وفقط لإعادة استثمارها ليوم غد.

ج. جميع أنواع العمل مقدسة

حصر الكاثوليك مفهومهم للعمل المقدس على أنشطة رجال الدين. ولكن الآن أعلن البروتستانت أن العمل من أي نوع يمكن وينبغي القيام به باسم الإله، حتى الوظائف الاعتيادية للإنسان مثل كونه خبازاً أو محاسباً تمثل عملاً مقدساً في منظار البروتستانتية يتم القيام به باسم الإله ولمرضاته. قدم هذا طاقة أخلاقية جديدة وجدية لجميع فروع الحياة المهنية. لم يعد العمل مجرد كسب لقمة العيش؛ إذ أصبح جزءاً من مهنة دينية مرتبطة بإثبات فضيلة المرء للإله، وهو ما أفضى لتعامل الموظف مع عمله في المكتب بكل جدية والتزام ودأب وبتقوى الراهب أيضاً.

د. إنه المجتمع، وليس الأسرة ما يهم

في البلدان الكاثوليكية، كانت الأسرة (وما زالت في كثير من الأحيان) هي كل شيء. يمكن للمرء أن يعطي وظائف بانتظام للأقارب، ويساعد الأعمام الكسالى، ويخدع السلطات المركزية قليلاً لتحقيق مكاسب الأسرة دون الكثير من تأنيب الضمير. لكن البروتستانت اتخذوا نظرة أقل حباً للخير تجاه الأسرة. يمكن أن تكون الأسرة ملاذاً لدوافع أنانية واستغلالية، بما يتعارض مع أوامر يسوع القائلة بأنه ينبغي للمسيحي أن يهتم بأسرة جميع المؤمنين، وليس مع عائلته خاصة. بالنسبة إلى البروتستانت الأوائل، كان الهدف من ذلك توجيه طاقات الفرد غير الأنانية إلى المجتمع ككل، إنه المجال العام الذي يستحق فيه الجميع الإنصاف والكرامة. إن التمسك بأسرة الفرد ومصالحها على حساب مصالح المجموعة الأوسع كان ليس أقل من خطيئة كبرى.

ه. ليست هناك معجزات

لقد أدارت البروتستانتية ظهرها للمعجزات التي كانت محورية في الوعي الإيماني الكاثوليكي، إذ في نهجها لم يعد الإله يسحب الرافعة وراء الكواليس يوماً بعد يوم، ولا يمكن للمرء الحصول على رد على تضرعاته وصلواته مباشرة. وأطلق فيبر على ذلك اسم "خيبة الأمل في العالم". وبدلاً من ذلك، في الفلسفة البروتستانتية، كان التركيز منصباً على العمل الإنساني، حيث كان العالم اليومي يحكمه الحقائق والسبب وقوانين العلوم القابلة للاكتشاف؛ وبالتالي، لم يكن الرخاء متاحاً بقضاء وقدر الإله، ولا يمكن كسبه من خلال الدعاء. يمكن أن يكون فقط نتيجة للتفكير المنهجي، والتصرف بأمانة، والعمل بجد وعقلانية على مدى سنوات عديدة.

وبالنظر إلى هذه الأمور مجتمعة، تم تشبيك هذه العوامل الخمسة في منهج فيبر التحليلي ودعاها العناصر التحفيزية الأساسية للرأسمالية. في هذا التحليل، كان فيبر في خلاف مباشر مع كارل ماركس، لأن ماركس كان قد اقترح نظرة مادية للرأسمالية اعتقد فيه أن التكنولوجيا والتصنيع والاكتشافات العلمية من قبيل المحرك البخاري قد خلقت نظاماً اجتماعياً رأسمالياً جديداً، في حين أن فيبر الآن قد قدم نظاماً مثالياً جوهره أن مجموعة من الأفكار هي التي أوجدت الرأسمالية، وأعطت الزخم لترتيباتها التكنولوجية والمالية الجديدة.

إن الجدل بين فيبر وماركس تركز حول دور الدين. فقد زعم ماركس بأن الدين هو "أفيون الجماهير"؛ أي: الدواء الذي تتجرعه الجماهير للتقبل به أهوال الرأسمالية في انتظار انعتاقها من تلك الأهوال في جنة الإله الأخروية. ولكن فيبر قلب هذا القول على رأسه، وزعم أنه الدين هو في الحقيقة السبب، وهو الدعامة الأولى للرأسمالية. لم يتسامح الناس مع شرور الرأسمالية بسبب الدين، بل أصبحوا رأسماليين فحسب بسبب دينهم.

2. كيف يمكنك تطوير الرأسمالية في جميع أنحاء العالم؟

في تحليل فيبر، فشلت الكثير من الدول في النجاح في الرأسمالية لأنها لا تشعر بالقلق والذنب بما فيه الكفاية، فهي تثق كثيراً بالمعجزات، وتود إنفاق ما تجنيه مباشرة بدلاً من إعادة استثمار أرباحها ليوم غد، ويشعر أبناء مجتمعاتها أنه من المقبول أن يسرقوا من المجتمع من أجل إثراء عائلاتهم، أي لصالح العشيرة على الأمة.

لم يعتقد فيبر أن الطريقة الوحيدة لتكون دولة رأسمالية ناجحة هي في الواقع التحول إلى البروتستانتية. فقد زعم بأن البروتستانتية قد جلبت فقط أفكارها المثمرة الأولى التي يمكن أن تتواجد الآن خارج الأيديولوجية الدينية.

واليوم، يمكن لفكر فيبر أن يقدم المشورة إلى أولئك الذين يرغبون في نشر الرأسمالية للتركيز على نظير الدين البروتستانتي أي الثقافة الرأسمالية بحسب منظار فيبر لها.

3. لماذا لا تسير الرأسمالية في المجتمعات الفقيرة؟

إن وجهة نظر فيبر هي أنه إذا كانت الرأسمالية سوف تترسخ في الدول النامية، وتحقق مزايا إنتاجية أعلى وثروة أكبر، فإننا سوف نحتاج إلى التفكير في تغيير العقليات، وغرس شيء أقرب إلى نسخة محدثة من مواقف الكالفينية بالخاصة من كل المذاهب المسيحية البروتستانتية.

وقد ظهرت وجهات نظر فيبر حول التنمية العالمية في كتابين من كتبه قد كتبهما عن ديانتين شعر بأنهما غير مفيدتان للغاية للرأسمالية؛ وهما: دين الهند، ودين الصين. بالنسبة لفيبر، فنظام الطبقات في الهندوس يخصص كل فرد إلى وضع لا يمكنه الهروب منه، وبالتالي يجعل أي جهد تجاري مستدام غير ذي جدوى. كما أن الإيمان بمفهوم سامسارا - تناسخ الأرواح [التقمص] - يلهم الرأي القائل بأن لا شيء جوهري يمكن أن يتغير حتى الحياة التالية. وفي الوقت نفسه، تقوم الأيديولوجية الهندوسية للعشيرة بالضغط على المسؤولية الفردية وتشجع المحسوبية بدلاً من الجدارة. إن هذه الأفكار – والتي يحق للكثيرين عدم الاتفاق معها- لها عواقب اقتصادية؛ إنها وراء التبرير الشائع في هذه الأيام لمن ينتسبون إلى فيبر بأن هناك العديد من المستشفيات العامة الممتازة في جنيف السويسرية وإرفورت الألمانية، وليس الكثير منها في تشيناي أو البنجاب في الهند.

وقد لاحظ فيبر عوامل غير مفيدة بالمثل في الصين. فهناك، الكونفوشيوسية التي تعطي وزناً كبيراً للتقاليد، حيث لا أحد يشعر بأنه قادر على إعادة التفكير في كيفية عمل الأشياء بطريقته الخاصة، بشكل يشجع التفاني لخدمة البيروقراطية في مجتمع ثابت وراكد، في حين أن روح المبادرة تنشأ من مزيج مثمر من القلق والأمل.

4. كيف يمكننا تغيير العالم؟

كان فيبر يعتقد أن الإنسانية مرت بثلاثة أنواع مختلفة من السلطة عبر تاريخها. عملت أقدم المجتمعات وفقاً لما أسماه "السلطة التقليدية". وكان هذا هو المكان الذي اعتمد فيه الملوك على دعاوى الفولكلور والألوهية لتبرير قبضتهم على السلطة. وقد كانت هذه المجتمعات خاملة بعمق ونادراً ما سمح لها بالمبادرة والتغيير.

وتم استبدال هذه المجتمعات في وقت لاحق بعصر "سلطة الشخصية الملهمة الفاتنة"، حيث يمكن لفرد بطولي - وأشهرهم نابليون - أن يتولى السلطة على ظهر شخصية مغناطيسية ويغير كل شيء من حوله من خلال العاطفة والإرادة.

لكن فيبر أصر على أننا تجاوزنا هذه الفترة الطويلة من التاريخ، بعد أن دخلنا في عصر ثالث من "السلطة البيروقراطية". هذا هو الوضع الذي يتم فيه احتفاظ السلطة بالبيروقراطيات الفائقة للعادة، والتي طريقة عملها تحير المواطن العادي. ليس من الواضح للإنسان العادي ما يفعله جميع الموظفين فعلياً في الاجتماعات وفي مكاتبهم. إن البيروقراطية تحقق قوتها من خلال المعرفة، حيث فقط البيروقراطيون يعرفون فن التخطيط والتنفيذ على نطاق واسع.

إن لهيمنة البيروقراطية آثار كبيرة على أي شخص يحاول إحداث تغيير في مجتمعه، إذ غالباً ما تكون هناك رغبة مفهومة - لكنها مضللة - في التفكير في أنه يتعين على المرء تغيير القائد رأس هرم الإدارة في المجتمع، الذي ينظر إليه على أنه نوع من الوالدين الفائقين اللذين يحددان كيف يسير كل شيء في العائلة. ولكن في الواقع، إن إزالة القائد لا تنطوي أبداً على درجة التأثير المأمول في المجتمعات الرأسمالية إذ أن ما يحركها هو هيكل البيروقراطيات المسيرة لها ولا تتغير سياساتها وأهدافها كثيراً بتغيير من يتربع شكلياً أو فعلياً على رأس هرمها البيروقراطي العملاق.

لقد أدرك فيبر أنه لا يمكن اليوم للمرء إحداث تغيير اجتماعي كبير عن طريق الشخصية المُلهمة الفاتنة فقط. قد يشعر الفرد كما لو أن التغيير السياسي يجب أن يكون مدفوعاً بالخطابات النارية، والمسيرات، والغضب، والإيماءات الكبيرة والمثيرة، مثل نشر كتاب ثوري ذائع الصيت. لكن فيبر ظل متشائماً بشأن كل هذه الآمال، لأنها غير متوافقة مع واقع كيفية عمل العالم الحديث. والطريقة الوحيدة للتغلب على السلطة الموجودة داخل البيروقراطية هي من خلال المعرفة والتنظيم المنهجي.

يشجعنا فيبر على رؤية أن التغيير ليس مستحيلاً، ولكنه يتم بكثير من التعقيد والبطء. إذا أردنا تحسين واقع المجتمع وطريقة عمله، فلا بد أن يكون ذلك من خلال الدخول إلى الجسم البيروقراطي والعمل من داخله بقوة المعرفة.

الخلاصة

ماكس فيبر يعدّ مصدراً فريداً للأفكار حول كيفية تغيير الواقع المعاش. إنه يخبرنا كيف تعمل القوة الآن، ويذكرنا أن الأفكار قد تكون أكثر أهمية من الأدوات المحسوسة أو المال في تغيير المجتمعات والدول. إنها أطروحة مهمة للغاية وتستحق التفكر بها بغض النظر عن اتفاقنا الكلي أو الجزئي مع نهج فيبر الفكري.​

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى