د. مصعب قاسم عزاوي - لماذا ينام بنو البشر؟.. تعريب: فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع

تعريب فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع لملخص محاضرة قدمها الطبيب مصعب قاسم عزاوي باللغة الإنجليزية في مركز دار الأكاديمية الثقافي في لندن.

النوم هو أحد أكثر السلوكيات غموضاً التي يعرفها الإنسان، وهو حدثية بيولوجية تشمل أيضاً جل أجناس مملكة الحيوان الأخرى بأكملها. يعتقد معظم البشر بأن النوم هو وقت لإراحة أجسادنا المرهقة، ولكن كلما قمنا بدراسته، كلما أدركنا بأنه ليس عملية مريحة أو سلبية بشكل كلي بالنسبة للدماغ.

ما هو النوم؟

في الخمسينيات من القرن الماضي، تلاشت فكرة أن النوم يريح الدماغ من خلال اكتشاف مدى نشاط أدمغتنا عندما نكون عميقين في النوم. نحن لا ندخل فقط في حالة سبات ونغلق أدمغتنا؛ بدلاً من ذلك، أثناء النوم، يتبع نشاط دماغنا نمطاً دورياً، بالتناوب بين حالات نشاط الدماغ المختلفة، وكل منها مرحلة فريدة من النوم، ومن المحتمل أن يكون لكل منها مجموعة محددة من الوظائف.

يمكننا تقسيم النوم تقريباً إلى 3 فئات رئيسية: النوم الخفيف ويتميز بتباطؤ الموجات الدماغية تدريجياً؛ النوم العميق ويتميز بموجات دماغية بطيئة ومتزامنة؛ نوم حركة العين السريعة (REM)، حيث يبدو نشاط الدماغ أكثر شبهاً بنشاط الدماغ عندما نكون مستيقظين، مع بعض الاختلافات الدقيقة، وفيه أعيننا تتدحرج تحت جفوننا.

يمكن تمييز كل مرحلة عن المراحل الأخرى من خلال نشاط العضلات والدماغ، وحتى من حيث التأثيرات علينا إذا حرمنا من مرحلة أو أخرى.

تتغير النسبة النسبية للوقت الذي تقضيه في نوم عميق بدون حركة العين السريعة ونوم مع حركة العين السريعة طوال الليل. في البداية، نقضي المزيد من الوقت في النوم العميق بدون حركة العين السريعة، ومع مضي الليل، تشمل دوراتنا مزيداً من مراحل النوم مع حركة العين السريعة والمراحل الأخف من النوم العميق بدون حركة العين السريعة.

لوحظ نوم حركة العين السريعة في كل الثدييات الأرضية التي درسنا نومها، وكل واحدة من هذه الثدييات تتناوب أثناء النوم بين فترات النوم مع حركة العين السريعة والنوم العميق بدون حركة العين السريعة.

فيما يتعلق بنشاط الدماغ، ما يبدو مختلفاً جداً بين حالات اليقظة والنوم هو درجة تزامن النشاط العصبي الكهربائي الناجم عن تفعيل واستثارة الخلايا العصبية الفردية في الدماغ. في معظم الأوقات، عندما نكون مستيقظين ونستخدم أدمغتنا، ترسل الخلايا العصبية لدينا إشارات لبعضها البعض، ولكنها تعمل بشكل مستقل نسبياً دون تزامن فعاليتها في بينها. ولكن عندما تنخرط في النوم بدون حركة العين السريعة، فإن دماغك يتباطأ مثل السيارة بمعنى أن الخلايا العصبية، التي كانت تعمل بجد أثناء النهار لإنجاز الأشياء، تنشط في نمط متزامن دوري من التفعيل.

عندما نقيس هذا النشاط، يمكننا الحصول على إشارات كهربائية أكبر أثناء النوم مقارنة بحالة اليقظة، ولكن هذا بسبب وجود المزيد من الخلايا التي تعمل معاً بنفس الوقت وبنفس الدورية أثناء النوم، وليس لأن الخلايا نفسها أكثر نشاطاً.

في الواقع، تكون معظم الخلايا أقل نشاطاً في حالة النوم بدون حركة العين السريعة. هذا ينطبق بشكل خاص على الخلايا الموجودة في جذع الدماغ، وهي جزء الدماغ المسؤول عن إبقائك على قيد الحياة من خلال مراقبة وظائفك الأساسية. في القشرة الدماغية، حيث يحدث قدر كبير من التفكير العالي المستوى، تكون الخلايا أقل نشاطاً أيضاً، ولكنها أقل نشاطاً بدرجة طفيفة من حالة اليقظة.

ولكن هناك خلايا تشير اندفاعات فعاليتها الكهربائية إلى بداية نوم عميق أو بطيء الموجة. وهناك خلايا، على عكس جميع خلايا الدماغ الأخرى تقريباً، تكون أكثر نشاطاً أثناء النوم منها أثناء الاستيقاظ، وهي مسؤولة عن وضعك وإبقائك في حالة النوم.

أنماط نشاط الدماغ أثناء النوم مع حركة العين السريعة تشبه الاستيقاظ أكثر من النوم بدون حركة العين السريعة. تستعيد الخلايا فرديتها مرة أخرى، وهناك تزامن أقل بين مجموعات الخلايا العصبية من حيث أنماط فعاليتها الكهربائية. وتستخدم أدمغتنا أثناء نوم حركة العين السريعة نفس القدر من الطاقة التي تستخدمها عندما نكون مستيقظين.

على الرغم من وجود زيادة في النشاط في بعض مناطق القشرة مقارنة بالنوم بدون حركة العين السريعة، إلا أن هناك عدداً قليلاً من المناطق الرئيسية في النوم مع حركة العين السريعة حيث يكون النشاط ضعيفاً بشكل ملحوظ، حتى بالمقارنة مع الاستيقاظ.

إحدى هذه المناطق هي قشرة الفص الجبهي الظهراني، وهي جزء من دماغنا المسؤول عن إبقاء سلوكنا الاجتماعي تحت السيطرة واتخاذ قرارات مدروسة وعقلانية، وعن قدرات الدماغ العليا في التحليل والعقلنة والاستنباط والرشاد عموماً. إلى جانب المناطق الأخرى المشاركة في المراقبة الذاتية للسلوك والتركيز الفكري المتعمد، فإن هذا الجزء من الدماغ يتوقف عملياً أثناء حركة العين السريعة.

تماماً مثل الخلايا التي تغير أنماط إطلاقها لتدخلنا في نوم عميق، هناك خلايا وظيفتها تشغيل النوم مع حركة العين السريعة. غالباً ما يتم الإبلاغ عن الأحلام الحية عندما نوقظ الناس من النوم مع حركة العين السريعة، على الرغم من أن الحلم لا يقتصر على حركة العين السريعة، كما يُعتقد غالباً. نحن نحلم بالفعل أثناء النوم بدون حركة العين السريعة، ولكن بشكل عام، يبدو أننا نتذكر أحلامنا أثناء النوم مع حركة العين السريعة بقوة أكبر من أحلامنا أثناء النوم مع عدم حركة العين السريعة.

تعمل أجزاء الدماغ التي تتحكم بنشاط عضلاتنا ومفاصلنا أثناء النوم مع حركة العين السريعة. لكن لحسن الحظ، يقوم الدماغ بتكييف طرق لضمان عدم تنفيذ أحلامنا، في الغالب.

الحرمان من النوم

تظل الإجابة على سؤال لماذا ننام واحدة من أكبر الألغاز العلمية. والحقيقة العلمية بأننا ننام لأسباب عديدة تعود بالفائدة على العديد من الجوانب المختلفة لأجسامنا وعقولنا. ويمكننا استخلاص بعض المبادئ العامة من الأبحاث المعاصرة التي يتم إجراؤها بصدد فعالية النوم في أبداننا.

أولاً، ماذا يحدث عندما لا نحصل على قسط كافٍ من النوم؟ في الواقع، الحرمان الشديد من النوم يمكن أن يقتل الإنسان. والذين يعانون من حالة وراثية نادرة تسمى الأرق العائلي القاتل يموتون في غضون أشهر من ظهور الأعراض.

الحرمان من النوم مكروه لدرجة أنه يستخدم كأسلوب استجواب ويمكن اعتباره تعذيباً عقلياً تفوق المعاناة منه أعتى وسائل التعذيب الجسدي. حتى الحرمان من النوم الذي يبدو بسيطاً وغير ضار يمكن أن يكون له آثار عميقة على أجسامنا.

مع تقدمنا في السن، تواجه أدمغتنا صعوبة أكبر في جعلنا ننام وإبقائنا نائمين، ويعتقد بعض الناس أنهم يحتاجون إلى قسط أقل من النوم مع تقدمهم في السن لأنهم ينامون أقل على أي حال. لكن الحقيقة هي أنه من المهم تقريباً الحصول على قسط كافٍ من النوم في سنوات العمر المتقدم، لأن للحرمان من النوم في ذلك الوقت عواقب مدمرة حقاً، بما في ذلك زيادة خطر إصابة الشخص بمرض الزهايمر.

يتأثر الانتباه حتى مع الحد الأدنى من اضطرابات النوم. يجادل بعض الباحثين بأن هذه هي إحدى الطرق التي يمكن لدماغك أن يدفعك بها لسداد ديون نومك؛ إذا لم تتمكن من التركيز على أي شيء آخر وكان هناك دافع قوي للنوم، فربما ستقرر الاسترخاء وتأخذ قيلولة لإعادة دماغك إلى العمل.

نرى أيضاً ضعفاً في اتخاذ القرار ونميل إلى امتلاك قوة إرادة أقل بدون نوم. من المرجح أن نتخذ خياراً مندفعاً يمنحنا مكافأة فورية بدلاً من التفكير في كيفية تأثير أفعالنا علينا على المدى الطويل.

قد يكون من الصعب علينا التعرف على المشاعر لدى الآخرين، ونستجيب بسهولة أكبر للمثيرات السلبية عند الحرمان من النوم، وفي كثير من الأحيان يصبح بعض الناس أكثر قلقاً.

تخبرنا كل هذه التأثيرات المختلفة للحرمان من النوم أنه قد يكون هناك العديد من الأسباب المختلفة التي تجعلنا ننام من قبيل التمثيل الغذائي، والمعرفي، والعاطفي، وما إلى ذلك.

ولكن من المفارقات أن الحرمان من النوم يمكن أن يرفع مزاجك أيضاً، مما يتسبب في نشوة خفيفة مؤقتة، بل إنه يستخدم لعلاج بعض الأشخاص المصابين بالاكتئاب. وقد يكون هذا مرتبطاً بالتغيرات الرئيسية في أنواع الناقلات العصبية التي يتم إطلاقها أثناء النوم مقابل اليقظة.

الآثار طويلة المدى للحرمان من النوم ليست مرغوبة بأي حال من الأحوال، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالذاكرة، والتي يمكن تقسيمها تقريباً إلى ذاكرة قصيرة المدى، وذاكرة عاملة، وذاكرة طويلة المدى. يمكن بعد ذلك تقسيم الذاكرة طويلة المدى إلى فئتين رئيسيتين: الذاكرة التصريحية لتعلم حقائق جديدة وتذكر الخبرات بوعي، والذاكرة غير التصريحية، التي لا تتضمن الوعي بنفس الطريقة، مثل تعلم المهارات والعادات، والتكييف، والجمعيات الضمنية.

عندما يتعلق الأمر بالنوم، يبدو أن لمراحل النوم المختلفة تأثيرات مختلفة على هذه الأنواع المختلفة من الذاكرة. في البداية، نحتاج إلى النوم لتصفية أذهاننا وإعدادنا للتعلم في اليوم التالي. نحتاج إلى أن نكون قادرين على الاهتمام بالأشياء المهمة وتكشف الصحيح من الخاطئ، ويجب أن يكون لدينا الحصين وقشرة الفص الجبهي على وجه الخصوص فاعلين كهربائياً على أكمل وجه لضمان سواء عمل ذاكرتنا، دون أن يكون ذلك النشاط الكهربائي بطيئاً أو بفعالية أقل كما نرى عندما نكون محرومين من النوم.

بعد التعلم، يلعب النوم مجموعة أخرى من الأدوار، اعتماداً على مرحلة النوم ونوع الذاكرة التي لدينا.

عندما يتعلق الأمر بذاكرتنا التصريحية، يبدو أن كلاً من نوم مع حركة العين السريعة ونوم الموجة البطيئة، أو النوم بدون حركة العين السريعة، يلعبان أدواراً مهمة. في العديد من الدراسات، لاحظ العلماء أن أنماط تفعيل الخلايا العصبية الموجودة أثناء مرحلة التعلم خلال اليقظة تتكرر أثناء النوم، مما يقوي الروابط بين الخلايا العصبية التي تمثل هذه الذكريات التي تشكلت حديثاً.

كلما زاد معدل هذا التكرار الذي لاحظه العلماء، خاصة أثناء نوم الموجة البطيئة، كلما كان أداء الأشخاص في اختبارات الذاكرة في اليوم التالي أفضل. وبعد ليلة نوم هانئة، تصبح هذه الذكريات الناشئة أكثر رسوخاً مما كانت عليه في اليوم السابق، قبل توطيدها من خلال النوم.

عندما يتعلق الأمر بالمهارات والعادات، يبدو أن المفتاح هو نمط مختلف من نشاط الدماغ أثناء النوم. في وقت مبكر من الليل، عندما نقضي وقتاً أطول في نوم الموجة البطيئة، يتم تقليم ذكرياتنا التصريحية وتقويتها، مما يترك لنا ذاكرة أقوى لتتبع الأشياء التي نريد حقاً تذكرها وليس المواضيع الهامشية غير المهمة التي مرت في حيواتنا.

بعد ذلك، يبدو أن هناك تحولاً في نوع الذاكرة التي تتعزز بالنوم في وقت لاحق من الليل، عندما نقضي وقتاً أطول في النوم بدون حركة العين السريعة وفي النوم مع حركة العين السريعة؛ إذ يبدو أن نوع نمط تفعيل الخلايا العصبية الموجود خلال هذا الجزء من الليل فعال بشكل خاص في تقوية الروابط بين الخلايا العصبية في أجزاء الدماغ التي تشارك في تعلم المهارات والعادات، والتي تسمى الذاكرة الإجرائية.

النوم من منظار علم الأحياء المقارن

يمكننا أيضاً استخدام علم الأحياء المقارن لاستخلاص استنتاجات حول الغرض من النوم لأن الأنواع الحيوانية المختلفة لها أنماط نوم مختلفة تماماً. تقضي بعض الحيوانات معظم وقتها في النوم، بينما وحيوانات أخرى بالكاد تنام على الإطلاق. ما الذي يتنبأ بمقدار ونوع النوم الذي تمارسه الأنواع؟

في هذه الحالة، يبدو أن الحجم البدني لتلك الحيوانات مهم. بشكل عام، كلما زاد حجم الحيوان، كلما قل النوم الذي يحتاج إليه. لشرح ذلك، يبدو أن هناك علاقة بين التمثيل الغذائي واحتياجات النوم. ويبدو أنه كلما زادت سرعة حرق مخازن الطاقة لدى نوع من الأنواع الحيوانية، كلما زاد النوم الذي يحتاجه لاستعادة التوازن.

النظام الغذائي مهم أيضاً، إذ تنام الحيوانات آكلة اللحوم لفترة أطول من الحيوانات آكلة اللحوم والعشب معاً، والتي بدورها تنام لفترة أطول من الحيوانات آكلة العشب، التي تحتاج إلى تناول الطعام بشكل متكرر للحفاظ على مخزونها من الطاقة. تخلق التفاعلات اللازمة لعملية التمثيل الغذائي منتجات ثانوية، يمكن أن يكون بعضها سام. وخلال النوم يزداد حجم السائل الدماغي الشوكي، وهو السائل الوقائي الذي تطفو فيه أدمغتنا. ربما تعمل هذه الزيادة مثل نظام إدارة النفايات، حيث تعمل على التخلص من المنتجات الثانوية السامة لعملية التمثيل الغذائي وتنشيط الدماغ للعمل في اليوم التالي، حيث أن المزيد من التمثيل الغذائي خلال النهار يعني المزيد من العمل لفريق التخلص من النفايات في الليل.

وهناك بعض الأدلة القوية على وظيفة النوم هذه. اعتدنا أن نعتقد أن خلايا الدماغ تتخلص من نفاياتها عن طريق إعادة تدويرها، وعندما تصبح الخلايا أقل كفاءة في إعادة التدوير، تبدأ بعض المنتجات الثانوية للتفاعلات الكيميائية في التراكم في الدماغ. أحد هذه المنتجات الثانوية هو بيتا أميلويد، والذي يبدو أن تراكمه يؤدي إلى تطور مرض الزهايمر.

ولكن لم يقتنع الجميع بفكرة إعادة التدوير. على وجه الخصوص، حيث يرى بعض العلماء أن النوم يلعب دوراً مهماً في تنظيف الدماغ من كل ما هو غير مرغوب فيه. والحقيقة يبدو أن هناك عملين يتمثلان في إعادة التدوير والتخلص من النفايات يجريان في الجهاز العصبي لبني البشر.

وربما عندما لا نعطي أدمغتنا الوقت الكافي للتخلص من النفايات غير الضرورية، يصبح تراكم البروتينات السيئة المرتبطة بالأمراض التنكسية العصبية مشكلة حقيقية. هناك علاقة قوية بين اضطرابات النوم والأمراض العصبية التنكسية؛ ونحن لا نعرف من هو السبب ومن هو النتيجة. ولكن المنطق يشي بانه إذا تمكنا من تحسين كفاءة عملية التخلص من النفايات في دماغ معرض لخطر التنكس العصبي، فربما يمكننا إبطاء مسار المرض، أو حتى منعه من التطور تماماً.​

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى