سهام ذهنى - تعليقات نجيب محفوظ على قراءتي للحرافيش

ــ من أوجه الشبه بين "بن لادن" و"عاشور" بطل "الحرافيش" أن كليهما قد اختفى.

ــ "التوت والنبوت" هما "الإقتصاد" و"القوة". هما "مركز التجارة العالمي" و"وزارة الدفاع الأمريكية".

ــ الخوف هو أصل البلاء.

ــ الخائف ينسى أن الفتوة يتعامل مع أي أمر باعتبار أن مصلحته فوق كل شئ.

دار الحوار في ديسمبر 2001

هناك أعمال أدبية وفنية تفجر في المتلقي معان أوسع من المعنى المباشر الظاهر. حيث توحي للقارئ بأمور يعكس من خلالها على العمل الأدبي ما يدور بداخله أحيانا، أو ما يحدث من حوله في أحيان أخرى، فيصبح المضمون أكثر رحابة، والمعنى أوسع فيضا. وإذا بالعمل الأدبي يكشف عن خبايا، ويبوح بأسرار، ويفك شفرات.

وهذا ما جرى لي مع رائعة نجيب محفوظ "الحرافيش" حين أعدت قراءتها عقب أحداث 11 سبتمبر، فكتبت مقالا بعنوان "أمريكا وبن لادن في حرافيش نجيب محفوظ"، ثم عندما اتصلت بالكاتب الكبير لأخبره بمضمون المقال إذا به يطلب مني أن أقرأه عليه لأنه مع ضعف نظره لم يعد قادرا على القراءة بنفسه.

عندما فتح لي أديبنا الكبير نجيب محفوظ الباب قادني كالمعتاد إلى غرفة الصالون، وقبل أن يجلس إلى جواري رفع الغطاء عن صينية مجهز عليها كوبان من عصير الجوافة الطازج قائلا لي: إتفضلي ياست سهام.

بعد أن جلس قدمت له أنا بدوري أحد الكوبين، فجاء رده بأنه لا يريد. قلت بابتسامة: لكن السيدة الفاضلة قرينتك أعدت كوبين وليس كوبا واحدا. رد بما يؤكد أنه لا ينسى شيئا: لقد أعتدت أن تزوريني أنت وزوجك، هذه أول مرة لا يكون معك.

تأكد لي مع هذه اللحظات الأولى من اللقاء كذب ادعاء من يقولون أن ذاكرة الأديب الكبير قد بدأت تضعف مع تقدمه في العمر. ثم ازداد تأكدي من ذلك مع كل كلمة "صاحية" قالها، ومع كل تحليل "عفي" طرحه، ومع كل تأمل "عميق" علق به على ما يجري.

أول ما لاحظته على الأديب الكبير هو أنني ما أن بدأت القراءة حتى بدت طريقته في الجلوس تبدو شبيهة بطريقة الجلوس قبل السجود في الصلاة. إذ يضع كفيه على ركبتيه وذراعاه مفرودتان. أما أذنه اليسرى بالسماعة الطبية المركبة عليها فتبدو وكأنها مُطلة في اتجاهي. إقتربت بشدة من السماعة الطبية ورفعت من صوتي وأنا أقرأ، وهو ينصت في صمت لا يقطعه بملاحظة أو بتعليق أو حتى بإبداء الإعجاب إلا مع نهاية كل فقرة، وكأنه جالس في حفل للموسيقى الكلاسيك لا تبدر من المستمع خلال العزف أية همسة، وإنما يحتفظ بما يريد التعبير عنه إلى أن يحين وقت الإستراحة بين الفقرات.

كانت أول فقرة في المقال الذي قرأته عليه تحمل عنوان " التوت والنبوت، إقتصاد وقوة"، وكان هو منتبها بقوة وأنا أقرأ عليه أن ملحمة "الحرافيش" تبدأ بأناشيد غامضة منبعثة من "تكية"، وأن نجيب محفوظ يصف تلك الأناشيد في بداية الملحمة بأنها "بهيجة" بالرغم من أنها "غامضة"، وأن تلك الأناشيد نفسها هي ما ينهي بها صفحات الرواية التي تجاوزت الخمسمائة صفحة، مع وصف الأناشيد عند النهاية بانها تبدو وكأنها ستفصح عن أسرارها بعد أن تجمع الحرافيش في مواجهة الفتوة الظالم وتم إسقاط هيبته من أجل أن تولد قوة جديدة تحمي العدل من خلال القوة، وبإرهاصات هذا الميلاد تطل من جديد الأناشيد الموحية القادمة من التكية. تسبقها جمل فخمة مجدولة باقتدار لحلم يبدو كإحدى بشائر "أحلام فترة النقاهة" التي يكتبها الأديب الكبير بصورة متتابعة مؤخرا.

فيتضمن ذلك الحلم التجريدي الذي يبدو في الملحمة وكأننا نسمع عبره أنفاس من يحلم مشدوها بما يدور في الحلم، حيث نرى من يخبره بأن شيخ التكية سيظهر لأول مرة وسيهب لكل حرفوش توت ونبوت، كأنهما طعام وسلاح، كأنهما إقتصاد وقوة، كأنهما الهدفان اللذان تم ضربهما في أمريكا وهما: مركز التجارة العالمي رمز الإقتصاد، ووزارة الدفاع الأمريكية رمز القوة. فمن يُضرب له الإقتصاد والدفاع تسقط هيبته ويصاب بهلع. وعلى الجانب الآخر فإن من يحصل على "التوت والنبوت" أو "الإقتصاد والقوة" لا يظل حرفوشا.

وما أن انتهيت من قراءة الفقرة وأنا أشعر بالخوف الشديد إنتظارا لمعرفة إنطباع صاحب "الحرافيش" حول هذا التحليل الجديد للرواية حتى فوجئت بابتسامة جميلة على شفتيه اللتين خرجت من بينهما الكلمات الآتية: "هذه رؤية ذكية وصحيحة"، ثم أضاف أن ما قمت باستخلاصه هنا هو "إستخلاصات جيدة وغير متعسفة".

أسطورة بن لادن​

طمأنتني كلماته فتنفست بارتياح وتشجعت على مواصلة القراءة والإنتقال إلى الفقرة التالية في المقال والتي أتحدث فيها عن "بن لادن" والأسطورة في الملحمة، فقرأت عليه ما يلي:

إذا كانت ملحمة "الحرافيش" هي نوع من التجلي الضخم للتجريد في أدب نجيب محفوظ، فإن المتلقي للتجريد عادة ما يفسره ويرى فيه ما قد لا يراه متلق آخر، مما يجعل أحد المتلقين يتوقف أمام جانب من العمل، بينما يتوقف متلق آخر أمام جوانب أخرى.

ولقد كانت فكرة "الأسطورة" التي تولد من الخيال ثم تنسجها الشعوب حول شخص ما هي أحد الجوانب التي لم أستطع إلا أن أتوقف أمامها في الملحمة.

فعندما تتعلق الشعوب بأمل يحلمون به ولا يجدونه على أرض الواقع فإنهم يطلبونه من الخيال. فيلد الخيال أسطورة ينسجونها حول رجل ما، سواء كان هو الرجل المناسب أم لا.

وهو ما فعله البعض من نسج أسطورة حول "بن لادن" لأنه قد حقق لخيالهم القدرة على تحدي أمريكا أو الفتوة غير العادل في الملحمة. وهي الحال التي سجلها نجيب محفوظ كحقيقة راسخة بعد إعلانه نهاية الفتوة الجبار "جلال" في الملحمة بجملة عظيمة كتبها في سطر منفصل منهيا بها فقرة. تلك الجملة هي: "يذهب الإنسان بخيره وشره، ولكن تبقى الأساطير".

فالأسماء المؤثرة تشغل الناس فيتحدث البعض عنها باعتبار أن كل ما تحمله هذه النماذج هو الخير الكامل. وعلى النقيض وبحماس شديد يتحدث البعض الآخر عن الجوانب الشريرة فيها. ومن كل هذا يتم عادة نسج أساطير حول الشخصيات المؤثرة ليصنع منها الخيال الشعبي شيئا مختلفا أحيانا عن الأصل، ولكنه مستوحى منه.

وهو ما صنعه الخيال الشعبي العالمي، في عالمنا الجديد الصغير من أسطورة حول "أسامة بن لادن".

أما الخيال الشعبي في ملحمة "الحرافيش" فقد نسج أسطورة حول "عاشور الناجي الجد"، ثم "عاشور الحفيد" ذلك الشاب البسيط الذي تم إبعاده من الحارة فأقام في حجرة للرحمة بين المقابر، حيث لم يستسلم إنما أخذ يرسم خطة محكمة ضد الفتوة الظالم بهدف تحقيق العدل دون الوقوع في اخطاء من سبقوه.

إختفاء "بن لادن"

بعين نجيب محفوظ​

عند انتهائي من قراءة الفقرة السابقة طلب مني الكاتب الكبير أن أعيد عليه قراءتها، فكررت القراءة وقد عاد الخوف إلى نفسي من أن يرى الكاتب نوعا من التعسف فيما كتبت، لكن إذا به يفاجئني بعد انتهائي من القراءة ليس فقط بأن يؤيد وجهة نظري، بل لقد فوجئت به يتفاعل مع ما كتبت ويتوج رؤيتي بأن يضيف إليها ما يؤيدها من رؤيته هو شخصيا، حيث وجدته يقول لي أن من أوجه الشبه بين "عاشور" بطل ملحمة الحرافيش وبين "بن لادن" هو أن كلا منهما قد اختفى ولم يتم التوصل إلى مكانه. أشعر أن الدنيا لا تسعني لأن الكاتب الكبير يتفاعل مع رأيي، وأنبهر أمام ذاكرته التي تحلل ما كتبه منذ حوالي ربع القرن.

إسقاط هيبة الفتوة​

لكن الكاتب الكبير لا يترك لي فرصة كي أبدي له أي انبهار، حيث طلب مني في الحال مواصلة قراءة المقال وكأنه يتعجل التهام بقية المقال بأذنه، فرويت عطشه بسرعة عبر الفقرة التالية حول إسقاط هيبة الفتوة في ملحمة الحرافيش، والتي جاء فيها:

"بعد ضرب أهم ما في دولة الفتوة بضرب دفاع الفتوة، تم التوجه إلى مركزه الإقتصادي. إقتحموا المخازن ودمروها تدميرا. وفي مخزن الفتوة "سماحة" رئي "فتح الباب" معلقا في عرق من عروق السقف مدلى الذراعين، ففُك وثاقه وطرح على الأرض بين الحياة والموت".

ويواصل نجيب محفوظ وصف المشهد في الرواية: "سيطر الحرافيش على الحارة تماما حتى شعشع أول ضوء للنهار، ذعر الناس في النوافذ والمشربيات وارتفع الصراخ، عند ذلك فُتح باب الفتوة سماحة".

ويصف نجيب محفوظ مشهد خروج الفتوة على أهل الحارة بأنه قد وقف أمامهم "بقوته ونبوته"، ولا ينسى نجيب محفوظ أن يضيف إلى تسجيله لظهوره بنبوته ان يسجل أنه قد ظهر أمامهم "بسحره الخرافي". ثم يكمل نجيب محفوظ أن الفتوة بمجرد ظهوره قد صاح بصوت يصفه الكاتب الكبير بأنه "صوت فاجر"، وهو تعبير لا مثيل لروعته هنا حيث القوة الفاجرة التي لا يردعها شئ. فتساءل الفتوة "ماذا فعلتم يا أولاد الزواني"، ويكمل المؤلف وصف المشهد بأن الحرافيش"لم ينبسوا". والكلمة التالية التي يصف بها نجيب محفوظ رد فعل الحرافيش هي أنهم: "ولم يتشجعوا".

ونواصل مع قلم نجيب محفوظ متابعة المشهد حيث يتكرر التساؤل من الفتوة، لكنه يصف تكراره للتساؤل هنا بأنه قد تساءل هذه المرة "بوحشية": "ماذا فعلتم يا أبناء الزواني".

ويرتج المشهد الصامت على هذا الوصف المبهر الذي استخدم فيه نجيب محفوظ "الحجر" ليصف به الصوت الذي رد على الفتوة الهائج حيث كتب نجيب محفوظ: "فانطلق صوت كالحجر صائحا: جدك كان إبن الزانية".

وإذا بهذا الحجر هو بداية الإشارة إلى أن الفتوة لم تعد له هيبته.

ويكمل نجيب محفوظ مشهد إنحسار الهيبة كما يلي:"وارتفع هدير من القهقهات".

وبالطبع فإن الفتوة لا يهتز بسهولة، لذلك يلحق نجيب محفوظ هذه الأصوات بما يلي:

"فوثب الفتوة وثبة قوية ملوحا بنبوته وصاح: اثبتوا لو كان في أسمالكم رجل".

وتعقب صيحة الفتوة هذا الوصف العميق من نجيب محفوظ: "فانحط الصمت عليهم كصخرة". ثم يلي ذلك بقوله: "ولكن لم يتراجع أحد".

ونواصل متابعة المشهد مع قلم نجيب محفوظ حيث: "وتهيأ الفتوة للإنقضاض، وإذا بالمشهد يتطور كما يلي: عند ذاك ظهر "فتح الباب" شاحبا مخلخل القدمين وهتف وهو يستند إلى جدار: "إقذفوه بالطوب".

إنتصار الطوب​

إذن فقد بدأ نجيب محفوظ مشهد مواجهة الفتوة "بصوت" وصفه بأنه قد "انطلق كحجر". ثم وصف ارتباك الحرافيش للوهلة الأولى أمام صيحة الفتوة بأن "الصمت" قد "انحط عليهم كصخرة"، وإذا بـ"فتح الباب" الضعيف البنية والقوي العزيمة يلهم الحرافيش باستخدام أبسط سلاح منتشر في الحارة بقوله لهم: "إقذفوه بالطوب".

فعبر الحجر والصخرة ثم الطوب بدأت المعركة التي لم تتأجل إنتظارا لشراء نبابيت لمواجهة نبوت الفتوة، بل بأرخص سلاح دارت المواجهة. وتحقق الإنتصار للطوب.

فقد أعقب صيحة "اقذفوه بالطوب" مشهد تلهث له كلمات نجيب محفوظ كما يلي: "سرعان ما انفجر الحرافيش وانهال الطوب على الرجل. توقف هجومه تماما تحت المطر. إستبقت الدماء من جراحه حتى تخضب بها وجهه والثياب وترنح متراجعا وهو يخور. أفلت النبوت من يده. تقوض بنيانه فوق عتبة الدار".

الخائفون​

بعد الإنتهاء من قراءة هذه الفقرة يسألني الكاتب الكبير نجيب محفوظ: ما الذي استخلصتيه من هذا؟

قلت: أن مواجهة الفتوة القوي من الممكن أن تتم بأبسط الأشياء، بطوب منتشر على الأرض لكنه يتحول إلى سلاح في يد حرافيش أعدادهم كبيرة.

يكرر الكاتب الكبير أن ما قمت باستخلاصه من الملحمة هو استخلاصات جيدة وغير متعسفة وأن الملحمة بالفعل تتحمل أن يُستخرج منها ما قمت باستخراجه، ويطلب مني مواصلة القراءة، فأقرا.

قرأت له الفقرة الأخيرة التي تحمل عنوان "الخائفون" والتي تتضمن ما يلي:

"مشهد آخر في ملحمة الحرافيش لهثت فيه حروف نجيب محفوظ، ويؤخذ القارئ عند تحويله من صورته المجردة لعلاقة فتوة الحارة على الورق بالضعفاء، إلى صورته الواقعية لفتوة العالم والدول المتخاذلة على أرض الواقع، وهو مشهد يتضمن إدانة الخيال الشعبي لسقوط حكام الدول الخائفة في أحضان الدولة الكبرى التي يمثلها في الملحمة الفتوة أو القوي غير العادل. فيصف نجيب محفوظ اللجوء إلى الفتوة بهدف الحماية وصفا يسجل به حقيقة واقعية، حيث يقول نجيب محفوظ أن الخائف ينسى دائما أن الفتوة يتعامل مع أي أمر باعتبار أن مصلحته فوق كل شئ.

فيأتي على لسان بطل الحكاية الثامنة في الحرافيش الذي تزوج إبنة الفتوة لمجرد أن يحصل على حماية الفتوة، فإذا بالفتوة بعد فترة قصيرة يأمره بأن يكتب كل أمواله لزوجته. فيتحدث البطل مع نفسه قائلا بأنه قد حدث له ما حدث بسبب سقوطه في هاوية الخوف"، ثم يصف الخوف بأنه "أصل البلاء".

كما يقرر أن "الخوف هو الذي جعله يمضي بقدميه إلى وكر الشيطان بلا تفكير سليم".

ثم يعلق على ذلك بجملة عميقة هي: "وكيف يتهيأ التفكير السليم لمنذعر".

وأقول للكاتب الكبير: أما تعليقي أنا على هؤلاء الخائفين، فهو التعليق الذي اختتمت به المقال والذي كتبت فيه: "وكم من منذعر في العالم مضى بدولته إلى وكر الشيطان ظنا منه بأنه ذاهب للحماية، وإذا به ذاهب للنهاية".

وما أن أنتهي من قراءة هذا التعليق حتى يضحك الكاتب الكبير بشدة تأييدا لهذه الحقيقة التي كثيرا ما نلمسها على أرض الواقع.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى