فهد العتيق - أدب قليل الاستعمال ...

هل صحيح أنه يوجد روايات أو قصص أو قصائد مستعملة. مثلما يوجد أيام مستعملة كما في قصة الكاتب عبد الله ناصر : حياة مستعملة . ضمن كتابه : العالق في يوم أحد . بمعنى نصوص سبق كتابتها من كاتب آخر. أو أعاد كتابتها مرة أخرى بداعي الاعجاب مثلا. هذا السؤال سوف يدخل بنا الى حكاية النصوص الأدبية وهل يمكن استعمالها مرة أخرى. وهل ستنجح عملية الاستعمال . مثلا : قصة خوان خوسيه مياس سأموت غدا عن العالق في يوم خميس . وقصة عبد الله ناصر العالق في يوم أحد .
هل صحيح أن رواية الجميلات النائمات للكاتب الياباني ياسوناري كواباتا، أفضل من رواية ذكرى غانياتي الحزينات للكاتب الكولومبي غابريل غارثيا ماركيز.
الجميلات النائمات لكابواباتا ربما أفضل فنيا وموضوعيا فعلا. وفق كثير من المراجعات التي نشرت لكثير من الكتاب والقراء والنقاد. ربما هي أفضل لأنها الأصل بينما الرواية الثانية التقليد كانت مستوحاة منها. من الصعب جدا أن تكون الرواية التقليد أفضل من الأصل . ولهذا سوف نتسلى قليلا في محاولة للتعرف على النصوص المستعملة أو الظلال الفنية والموضوعية في بعض الكتب والنصوص المتشابهة فيما يشبه الايحاء بداعي الاعجاب أو التناص وليس التلاص المعلن وغير المعلن .
أذكر قبل عشر سنوات أنني قرأت رواية الجميلات النائمات ورواية ذكرى غانياتي الحزينات في وقت واحد . وكتبت عنهما مقالة واحدة نشرت في صحيفة الحياة أكتوبر 2009 م .
في ذلك الوقت قال لي الصديق الكاتب والناقد سيد الوكيل أنها قد تكون سقطة فنية لماركيز. يقصد طبعا محاولة محاكاة رواية أخرى وهو لا يقصد سرقة طبعا . لأن ماركيز أوضح أعجابه ورغبته الكتابة عن شيء شبيه بالجميلات النائمات لكواباتا. وكان رأيي أنها حتى لو كانت سقطة فنية فإن ماركيز تكفيه الحب في زمن الكوليرا ومئة عام من العزلة وحكاية موت معلن لتخلده في عالم الأدب الجميل .

وقد كتب الصديق سيد الوكيل هذه الرؤية الواضحة والمهمة حول مراجعتي النقدية في ذلك الوقت والتي نشرتها على صفحتى فيس بوك : (جميل فهد العتيق مبدعا وناقدا، وأنا شخصيا لم أحب رواية ماركيز، وعندي مبرر، ماركيز أكثر من مرة عبر عن رغبته في كتابة نص مثل جميلات كاوباتا، ثم فعلها، وأظن انه فعلها ليرسي مبدءا مهما، هو أن الكبار يمكنهم أن يعيدوا كتابة اعمال مهمة ، ومع ذلك فلا يجرؤ أحد عن اتهامه بالتقليد أو السرقة. وهذه الخطوة من ماركيز تدعم علوم التناص ) .
عنوان الرواية الأولى : بيت الجميلات النائمات . وهو عنوان أدبي رفيع . بينما عنوان الرواية الثانية : ذاكرة غانياتي الحزينات أو عاهراتي الحزينات . هذا العنوان فيه محاولة اثارة . هو يدل على نص أقرب الى الذكريات منه الى تفاصيل حكاية أو قصة أو رواية . ويوجد بداخل هذا النص تفاصيل صغيرة فيها تقليد واضح لرواية بيت الجميلات النائمات بالذات من صفحة52 حتى صفحة 56 . بالاضافة الى الجو العام . مستحيل أن يكون التقليد أفضل من الأصل .
رواية بيت الجميلات النائمات. عنوان لنص أدبي رفيع وممتع . بينما رواية ذاكرة غانياتي الحزينات فيها تكلف ومحاولة اثارة. و بداخل النص تفاصيل صغيرة فيها تقليد واضح لرواية بيت الجميلات النائمات بالذات من صفحة52 حتى صفحة 56 بالإضافة الى الجو العام. مستحيل أن يكون التقليد أفضل من الأصل.
تبدأ رواية كوباتا بهذا المشهد : ( أرجو منك أن تتجنب المضايقات السمجة . لا تحاول وضع اصابعك في فم الصغيرة النائمة . هذا غير لائق .أوصت المضيفة ايغوشي العجوز.)

وفي الصفحة 56 من رواية ماركيز سوف نلاحظ مشهدا شبيها بهذا المشهد : (عند الانتهاء من ترتيب البيت اتصلت بروسا كاباركاس . فهتفت حين سمعت صوتي : ظننت أنك غرقت . ولم يكن بإمكانها أن تفهم كيف أنني عدت لقضاء ليلة أخرى مع الطفلة دون أن المسها. لك كامل الحق في الا تعجبك ولكن عليك أن تتصرف كراشد).
حين تقرأ الروايتين لهاذين الكاتبين الكبيرين بهدوء . سوف تلاحظ أن في فصول رواية كواباتا تلقائية الأدب الرفيع الذي يقدم لك رصد دقيق وعميق لتفاصيل وهواجس حالات أدبية غاية في الجمال والمتعة . والرواية تدور في بيت يزوره كبار السن لقضاء الليل الى جانب مراهقة نائمة تحت تأثير مخدر الليل .
بينما في رواية ماركيز ستجد مدخلا جميلا حين يقول الراوي أنه قرر أن يهدي نفسه ليلة جميلة صحبة فتاة صغيرة في عيد ميلاده التسعين . بمعنى ليلة مرتبه ولها علاقة بإمرأة كبيرة في السن تبحث له عن بنت صغيرة لكي يحتفل بشيخوخته . وهذا لا يمنع من الصراحة النقدية حين أقول إن رواية كاواباتا كانت أكثر جمالا وحيوية ومتعة ، فيما كانت رواية ماركيز أكثر أدبية شعرت أنها رواية جميلة لكن فيها ما يشبه الصنعة. وما شعرت به ربما يحمل ضمناً رؤية المشاعر الفنية والانطباعات وهي قد تكون أكثر صفاء.
ترتكز روية كاواباتا الجميلات النائمات على مراجعة تاريخية للذات وما ارتكبته من أفعال في مسيرة حياتها. وقبل ذلك على وصف نفسي دقيق وعميق وممتع لحالة إيغوشي . إيغوشي المتأمل، ايغوشي الهادئ، وايغوشي الذي لا يدري ما يفعل على وجه التحديد. ذهب إلى بيت فيه امرأة أربعينية، نقدها مالاً لكي يختلي في غرفة نوم ناعمة بفتاة صغيرة، ولا يفترض فيه، وهو الرجل الكبير والخبير أن يزعجها، كل ما عليه فعله أن يتأملها، حتى فكرة أن يضع إصبعه في فمها على سبيل المثال، ممنوعة، كما حذرت صاحبة البيت بكل لطف : أرجو منك أن تتجنب المضايقات السمجة . وهكذا تمضي الرواية بين ضميري الغائب والمتكلم في سلاسة لغوية بالغة العذوبة، لا يوازي عذوبتها سوى تلك الحالة النفسية العالية، التي ظللت النص بروح أدبية في غاية السمو الإنساني العظيم . فيها نقد ذاتي اجتماعي وأخلاقي تركز نفسياً على رائحة الحليب، ثم بدأت متاعبه ولا نقول متعه التي جاء من أجلها، متاعب صغيرة مثل ذكريات مؤلمة، أو ذكريات تتعلق بالزمن الذي مضى وانقضى، ولم يتبقى منه سوى قطرات لا تكفي.
في حين ترتكز رواية ماركيز على ذكريات صداقة ومحبات قديمة ولذيذة : «حب قديم يظهر هنا وآخر يظهر هناك، فتتواصلّ الذكريات ليكتشف أنه ليس الشخص الذي كأنه معهن، ليعترف لهن بهرمه فترد الواحدة بعد الأخرى نحن جميعاً هرمنا». الذكرى والحنين وتأنيب الذات أو محاسبتها، لكن الذكرى أعمق أثراً في النص، وتخلف شجناً حقيقياً يشبه الألم، شجن كأنه واقع يمكن لمسه :
«مغشي على باستذكار ديلغادينا النائمة دون هوادة». لكنه فرح بمهنته الجديدة، متقاعد، ومن لا يفرح بمهنة عاطل ولها مرتب : «أنا اليوم متقاعد ولكن غير مهزوم، أنعم بالامتياز المقدس بالكتابة في البيت، والهاتف مفصول كيلا يزعجني أحد، ودون رقيب يرصد ما اكتبه من فوق كتفي».
في النهاية، إذا كان كواباتا قد أثبت أن الأدب هو فن الايهام بواقعية الحكاية، حين تحول النص ولغته السلسة الى واقع غير مشكوك فيه، فهذا لأنه كاتب كبير وعبقري في قدرته على جعلنا نسير معه دون أن نشعر بشيء يشبه الصنعة . فإن ماركيز كان مبدعاً نفسياً كبيراً في هذه اللحظة العميقة : «وهنا اكتشف أن وساوسه بأن يكون كل شيء في مكانه وكل مسألة في وقتها، إنما هو لمواراة فوضاه الطبيعية التي يخشى أن تتمرد وتعلن عن نفسها!».
من جهة أخرى أذكر أن قارئا كتب للصديق القاص والمترجم عبد الله ناصر في تويتر قبل عامين، بأن قصته : العالق في يوم أحد تذكره بقصة خوان مياس : سأموت غدا. التي تعبر عن فوضى الأيام عند بطل القصة . الذي ذهب وحيدا الى يوم الخميس مع أن الباقين مازالوا في يوم الأربعاء.
عبد الله ناصر أجاب أن هذه من قصص مياس المقربة منه . لكن السؤال سيظل عن التشابه الكبير بين النصين . في البداية قد يشعر قاريء أنها سرقة أدبية لأن عبد الله لم يشر الى أصل الفكرة في سأموت غدا . لكن بعد إعادة قراءة نص عبد الله ناصر من قبل قاريء آخر قد يرى أنها شيء قريب من استيحاء أو مجرد تناص مقصود ربما بسبب أن نص عبد الله ناصر العالق في يوم أحد ليس قصة أو رواية مكتملة أخذ جوهرها وأحداثها من غيره وبنى عليها . كان نص العالق في يوم أحد أقرب الى مقالة قصصية قصيرة جدا بلا حكاية أدبية واضحة. كما أن قصة سأموت غدا قصة معروفة جدا للكاتب مياس ومنشورة في عدة صحف ومواقع ثقافية وصفحات فيس بوك منذ عدة سنوات . وهي أيضا ضمن كتابه : الأشياء تنادينا .
حكاية سأموت غدا لخوسيه خوان مياس تدور حول شخص انتبه الى أنه في يوم خميس مع أن الباقين لايزالون في يوم الإربعاء . فقد سبقهم بيوم وبالتالي صار يسبقهم في معرفة الأخبار الجديدة التي سوف تحدث في يوم الغد بالنسبة لهم وهي قصة فيها حكاية فيها خيال واسع وممتعة جدا . سأموت غدا قصة محمولة على حكاية جوهرية غنية وممتعة ومتنوعة الأفكار والأحداث . نلاحظ فيها أن بطل القصة يعمل في البيت مبرمج كمبيوتر وعلاقته بالعالم الخارجي محدودة ولهذا حدث عنده فوضى الأيام لأنه لا يثق بأحاسيسه تجاه الأيام كما أوضح في القصة . ولهذا أيضا دخلت القصة في حكاية أخرى . خلال أيام قادمة بعد أن أخذت زوجته هذا الأمر على محمل الهزل وضحكت. فحاول بطل القصة التركيز والتحقق فأنتبه الى أن الأمر حقيقة لا محالة فحدثت العديد من الأخبار المهمة والحوادث التي لم يعرف أحد عنها سواه لأنه يسبق الناس بيوم . منها خبر موت أمه وزيارته لابنه في المستشفى بعد تعرضه لحادث . ثم تواصلت الحكاية مع دخوله البار وبداية حوار مع سيدة عزباء اعترف لها بمشكلته فأخبرته أنها تعاني من نفس المشكلة لكنها تسبق الناس بيومين لا يوم واحد فقط مثله . وقد عرفت أنه سيصاب بسكته قلبية ويموت . وهكذا تتواصل القصة في مسار مشوق وجميل وساخر وممتع .
لكن قصة العالق في يوم أحد ظلت تحاكي الفكرة دون حكاية من وجهة نظري . لم أَجِد قصة واضحة. لا قصة في القصة . فقد أخبرنا بطل النص أنه لايزال عالقا في الأحد بينما انتقل العالم كله الى الإثنين دون وجود حكاية جوهرية لهذه الفكرة الجميلة. إذ ظل هذا الهاجس مع بطل القصة حتى نهايتها القصيرة جدا . حين أوضح أنه هناك طريقة واحدة فقط لكي يدوم الأحد الى الأبد . فاستمر هذا النص القصير مجرد فكرة جديدة ليس فيها حكاية تعمق وجودها في ذهني كقاريء . ظلت أقرب الى قصة خبرية صحافية أو مقال قصصي سريع وليست قصة أدبية، لم أجد فيها كقاريء حكاية واسعة تتضمن رؤية جديدة للكاتب مثلا .
مع ملاحظة أن بعض قصص العالق في يوم أحد . كانت فعلا في نفس أجواء القصة مثل حوادث الايام وساعات مفقودة ولو كانت تتمة لقصة العالق في يوم أحد لأعطتها غنى وثراء أدبي له سمات أدب عبد الله ناصر . وبشكل عام كان في كتاب العالق في يوم أحد قصصا رائعة ومبدعة تستحق القراءة والمراجعة النقدية مثل قصص : تكامل، المسيح، حياة مستعملة، الذي لا يستطيع الدخول، الغرب ، تحول .
أيضا لا ننسى أن رواية شباب الرياض لطارق بندر العتيبي حاولت الإفادة من النور الإعلامي الذي حققته بنات الرياض قبل أكثر من عشر سنوات لكنها لم تستطع . قامت الرواية وفق ما قرأنا عنها على رصد حياة مجموعة من الشباب السعودي الذين قدموا لمدينة الرياض من الشمال السعودي ومن أسر مختلفة بهدف الدراسة والعمل لتبدأ مواجهتهم مع الحياة الجديدة وانتقالهم بين مختلف الأحياء، ودخول شابين منهم في علاقات غرامية مع فتاتين من طبقة غنية تسهم في صناعة تحولات وأحداث روائية متوالية.
كل هذا يختلف طبعا عن مفهوم السرقة أو التلاص حين تنهض رواية على جوهر وتفاصيل وأحداث رواية أخرى على سبيل المثال . ويوجد نماذج من هذا النوع وقد قرأنا عنها في بعض الصحف والمواقع لكنها لا تستحق الذكر بسبب ضعف هذه الروايات فنيا وموضوعيا .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى