حاتم السيد مصيلحي - المولد النبوي

لم يكن المولد بالنسبة لنا كصغار، سوى نسمات رقيقة تهب علينا ، تنشرح بها صدورنا، وتتهلل لها أساريرنا، يصاحبها مرور المداحين، والوشاحين المتفانين في ذكر محاسن النبي ﷺ، يصحبهم عزف الدفوف، والمزامير، والآلات النحاسية، فيتمايل الناس طربا لسماعها، فيكثرون من الصدقات، والذبائح، وتوزيع الحلوى، والنساء يخرجن من خدورهن يزغردن احتفاء واحتفالا بسيد البشر ﷺ، يعددن أشاهي الطعام وأطيبها وقد اعتدن على ذلك في كل عام.

وقد ألفنا أن تنصب السرادقات، وتقام الاحتفالات التي من مظاهرها، ألعاب السيرك، والساحر العجيب الذي يضع المصباح فوق رأسه فينير، والبيضة في فيه، فتخرج من تحت إبطه، أو من خلف أذنه، ومسرح العرائس المأخوذ من الفلكلور الشعبي القديم ( الأراجوز) الذي كان يمتعنا مشاهدته وهو يصول ويجول، يسب ويقذف، ويضرب بعصاه زوجه إن عصت له أمرا، وكانت تنتهي المشاهد بالصلح بينهما في وسط فرحة وسعادة الأطفال، فيخرجون وكل واحد منهم يأخذ طرفا من الأحداث لتحليله قائلا في نفسه: ياترى كيف أضاء الساحر المصباح دون كهرباء؟! وكيف أخرج البيضة بعد أن وضعها في فيه من تحت إبطه أو أذنه؟! ومن يحرك تلك العروسة ( الأراجوز)؟! ومن أين يأتي ذلك الصوت العجيب؟!
هذا بالإضافة إلى الألعاب التقليدية التي كنا نحبها كأطفال صغار، منها مايدور في شكل دائري، وأخرى بشكل يشبه بندول الساعة،... الخ
وكان يرى أرباب الشوارع والأزقة المتاخمة لها المولد موسم عمل لايُترك فيه ليل أو نهار، فيمارسون السرقة من مرتادي الموالد، ويشربون المخدرات والمسكرات ليلا، ويتسولون نهارا بالتوسل والدعاء.

ويزداد نشاط كل فريق عند الليلة الكبيرة كما يسمونها، ويعقب ذلك في اليوم التالي ( الزفة)، فيحتشد لها الناس من كل الأنحاء، يتخللها عروض لأجساد نصف عارية وقد غرست فيها أسياخا حديدية ـ يرون أن هذا في حب رسول الله ـ وسيارات تحمل لافتات مدون عليها أسماء الشركات تعلوها مكبرات الصوت محيية ومهنئة بمولد سيد الأنام، ثم الخيول يمتطيها الشباب حامل الألوية الخضراء مدون عليها اسم خاتم الأنبياء، وأخرى أسماء الخلفاء الراشدين ( أبوبكر ـ وعمر ـ وعثمان ـ وعلي) يصلون على صاحبهم وعلى آله الطيبين الطاهرين، وبانقضائها ينقضي المولد، ويلملم أصحاب السرادقات أمتعتهم إيذانا بالرحيل.

هذا ماكنا نراه صغارا احتفالا بالمولد، ويراه الكثيرون الآن أنه يوم إجازة، وراحة واستجمام، وتناول أشاهي الطعام.
ورغم أن الإذاعات المسموعة، والقنوات المرئية تنقل إلينا احتفال الوزارات وعلى رأسها الأوقاف، والأزهر الشريف، والطرق الصوفية وغيرها من المنظمات والهيئات الاجتماعية والخيرية، التي يتخللها كلمات عظيمة، وقصائد بليغة تحصى فيها مآثر الرسول ﷺ، وتتحدث عن سنته، وكيف سعدت البشرية ببعثته، وعلت برسالته، إلا أننا مازلنا لا نرى بركات هذا اليوم العظيم المبارك، ولم نفطن إلى كيفية الاحتفال به؟!
ويرى المتشددون أن الاحتفال به بدعة، يشوبه الضلالة، بحجة أن ذلك لم يفعله النبي وأصحابه، وهذا من قبيل قصر النظر، والأخذ بظواهر النصوص دون كنهها؛ لأن البدعة هو مادخل صميم العقيدة أو العبادة وليس منها، أما ماابتدعه الناس في سائر حياتهم وتعاملاتهم بما لا يخالف الشرع لا يعد بدعة.
وقد احتفل الرسول نفسه بمولده حين كان يصوم الإثنين والخميس من كل أسبوع، حيث قال ﷺ يوم ولدت فيه، ويوم ـ الخميس ـ ترفع فيه الأعمال إلى الله، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم.
فلنحتفل إذن برسول الله ﷺ باتباع سنته، ودراسة سيرته، والتخلق بأخلاقه، وكثرة الصلاة عليه ﷺ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى