سهام ذهنى - في ذكرى ميلاده أربع زوجات لعبد الوهاب المسيري

عبر كتاب السيرة الذاتية للدكتور "عبد الوهاب المسيري" التي أطلق عليها عنوان «رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر»، استطعت أن أرصد أن للدكتور المسيري ـ الله يرحمه ـ قدرة على الحكي بجاذبية وبحبكة تبدو تلقائية، حيث يأخذ القارئ من الحكاية إلى ما وراء الحكاية، كأنه يحمل القارئ على ظهر فراشة تتماوج به في انسيابية منذ ولد ونشأ في دمنهور ودراسته للأدب الإنجليزي بجامعة الإسكندرية واستكماله للدراسات العليا بالولايات المتحدة وحصوله منها على الدكتوراه ثم عودته وعمله أستاذا للأدب الإنجليزي في كلية البنات بجامعة عين شمس، وانشغاله بموسوعة 1975 ثم موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، وسفره للعمل بالسعودية، وعودته للقاهرة واستقالته من الجامعة. راصداً من خلال ذلك أحوال التعليم والبحث في مصر وفي الولايات المتحدة، ومتنقلاً بالقارئ إلى دنياه مع اليهود واليهودية والصهيونية مشروع عمره في دهاليزه وشرفاته مع ما تتضمنه مراحل حياته المختلفة من انضمامه لحزب «مصر الفتاة»، وانتقاله إلى «الإخوان المسلمين»، ثم انضمامه للحزب الشيوعي، ومراحل اكتشافاته المتلاحقة عبر تجاربه التي جعلته ينتقد المادية ويرفض ما كان قد آمن به مكتشفا روح الإسلام والجانب الديني من جديد، ومقارنة ذلك الاهتمام بأحوال الأجيال الجديدة. مما يجعل القارئ يشعر أنه أمام إنسان حريص على أن يحقق في الحياة أحد أهم ما ميز الله به الإنسان وهو التعلم دون أن يظل متلقيا وإنما يستوعب لكي يضيف، فلا يكتف بتراكم المعلومات وإنما يصل إلى علاقات بينها ويضع ما اختار تحت الاختبار. فالدكتور المسيري يفرق بعمق بين الوصول إلى الحقيقة وبين جمع الحقائق حيث نقرأ أو نلتهم على مدار أكثر من 500 صفحة تفاصيل كل ذلك دون الشعور بأي ملل، بل كنت عند اضطراري للتوقف عن القراءة ارتباطا بأعمال أخرى أو حتى من أجل النوم، فإننى كنت أشعر لحظتها كما لو كنت مضطرة لترك جلسة ودودة مع شخص عزيز. ولأننى لم أقرأ فقط، وإنما استوعبت لذلك فاستلهاما لمنهج د. المسيرى سأحرص على عدم مواصلة التلخيص لسيرته غير الذاتية غير الموضوعية إنما سأفككها وانتقى مما فككت حكايات عند تركيبها من جديد سيلمس القارئ فيها حكاء يتمتع بخفة دم مصرية، معجونة بثقافة عميقة تولج الضحك في الغبار كي تهش الغبار عن الحقيقة عبر روح دقيقة، ولغة عريقة، ومعلومات دقيقة، أو هذا ما وصلني كقارئة عتيقة.



حكايات الشوارع​

ولقد التقطت من سيرة د. المسيري ما يبدو مثل اسكتشات فكاهية حول أمور من اعتيادنا عليها صرنا نعبرها، بينما د. المسيري يتوقف عندها ثم حين يحكيها نجد أنه قد استخدم لرصدها كلمات كبيرة على الموقف البسيط، إنما المدهش أن هذه الكلمات التي أصفها بأنها تبدو «كلام كبير» هي لمن يدقق فيها يجد أنها تعبر بلا أية مبالغة عما تحمله تلك الكلمات. من بين تلك المواقف وجدت مشاهد عديدة كان مسرحها هو الشارع الذى يبدو وقد تحول إلى كتاب يقرأه د. المسيرى وهو يتحرك بالسيارة عادة أو بوسائل نقل مختلفة في أحيان أخرى، فهو يحكي عن موقف فى إشارة المرور يبدأه مشيرا إلى أن إيقاع الحياة السريع أمر يحدد سلوك كثير من الأفراد، وأنه في غياب متسع من الوقت فإن الناس يدوس بعضهم بعضا. ثم يروي: «كنت أسير مرة بسيارتي في شارع ضيق بالقاهرة»، ويركز إضاءته على الآتي: «وكان هناك رجل عجوز يعبر الشارع، فوقفت له حتى أعطيه الفرصة». ثم يضيف موسعا بقعة الإضاءة على بقية المشهد: «وكانت ورائي سيارة ظل صاحبها يضغط على الكلاكس».

ويكمل د المسيري المشهد: «فنزلت من سيارتي حانقا وأخبرته أن رجلا عجوزا يعبر الشارع، ثم سألته سؤالا خطابيا لو كان هذا والدك أفكنت فعلت الشىء نفسه؟ فقال بوجه متجهم: نعم. فضحكت لصدقه وصراحته». أما بقية أسباب ضحك د. المسيرى التى يكملها والتى تدخل في التنظير الذي يقوم به تجاه الأحداث الصغيرة فهو أن أحد أسباب ضحكه يرجع إلى «إحساسه بعبثية مقاومة الإيقاع الحديث اللعين». وبسبب هذا الإحساس نجده يلحق بتلك الحكاية مشهدا آخرا جرت أحداثه أيضا في الشارع قائلا: «هذا على عكس ذلك السائق الذي كان يقف ورائي بسيارته في الساعة الثالثة ظهرا أمام جامع ابن طولون في أحد اختناقات المرور الشهيرة خلال الأسبوع الأخير من رمضان وظل هو الآخر يضغط على الكلاكس ويطلب أن أتقدم «عجلة قدام والنبى» أي مسافة صغيرة جدا تعادل مدار عجلة واحدة فقلت له كلنا واقفون فلماذا أتحرك هذه المسافة الصغيرة؟ فأجاب: عشان تديني شوية أمل». ويعلق د. المسيري كعادته في تأمل الأمور قائلاً: «ويبدو أن هذا السائق قد قرر عن وعي ألا يستسلم لليأس الذي يولده الإيقاع اللعين».



«هر» مصطفى​

وتطل الشوارع وإيقاع المرور عبر صفحات أخرى فى سيرة د. المسيري منها الحكاية التالية: «كان لنا قريب من كبار الموظفين بمصلحة التليفونات، وتصادف مجىء خبير ألماني في خلال ما يسمى بأسبوع المرور. ورأى صاحبنا الألماني أن الشوارع تعج بكبار الضباط الذين يشيرون للسيارات، ولكن حيث أن حركة المرور كانت تتسم بالفوضى «بالمقارنة بألمانيا» فإن صاحبنا قد تصور إن الهدف من «أسبوع المرور» هو تشجيع الناس على عدم الانضباط، حيث إن الانضباط الدائم يسبب مشكلات نفسية، ولذا ذهب صاحبنا الألماني لقريبي وقال له «هر مصطفى أنتم تعيشون في مجتمع متحضر، تحاولون أن تحلوا مشكلات الناس النفسية»، فهز له قريبى رأسه، فالسكوت علامة الرضا ولا داعي للفضائح، واستمرت سعادة صاحبنا الغامرة لمدة أسبوع، ولكن حين زادت الفوضى بعد أسبوع وأخذت في التصاعد، عاد صاحبنا الألماني وسأل قريبي: «هر مصطفى، ألم ينته أسبوع المرور فلماذا هذه الفوضى المتزايدة؟». وهنا اضطر قريبى أن يخبره أن أسبوع المرور كان هو أسبوع الانضباط ، ذروة التنظيم، وأن الفوضى المتصاعدة هي الأمر العادي. ثم يصف د. المسيرى ما رواه بأنه قصة ملهاوية. ويلحق بها حكاية يرويها بطريقته الشبيهة بتعليقات يوسف وهبي على سلوك فؤاد المهندس خلال أحداث فيلم «شنبو في المصيدة» قائلا: «وإذا كانت القصة السابقة ملهاوية، فقد ذكر لي صديق من الأردن قصة مأساوية/ ملهاوية، إذ كان عليه أن يستقبل خبيرا سويديا جاء لدراسة حركة المرور في عمّان لتنظيمها، وبعد أن أوصله إلى الفندق اتفقا أن يلتقيا في اليوم التالي، ووصل صديقي إلى الفندق في الموعد المحدد، وطال انتظاره لأن الخبير السويدي لم يظهر، ثم ظهر فيما بعد أن المسكين كان يعبر أحد الشوارع فصدمته سيارة هشمت عظامه، وأنه في انتظار طائرة طبية لنقله إلى بلده ليعالج هناك. ثم يضيف د. المسيرى إلى حكاياته عن المرور والشوارع حكاية أخرى يبدأها بصياغة كأنه عبرها يريد أن يقسم على أن ما يرويه قد رآه بعينه وأنه ليس مجرد ناقل عن شخص آخر باعتباره سيروي شيئاً لا يصدقه عقل، حيث يقول «والحادثة التالية خبرتها بنفسى، ولا أدري كيف أصفها، كنت أقف مرة عند إشارة مرور حمراء، وبدأ قائد السيارة التي تقف ورائي يطلق زمارته بطريقة تدل على الضيق. فنزلت له وأخبرته أن هناك إشارة حمراء، فقال مستنكرا: «يا دي النيلة، يعنى كل ما تحمر الإشارة حتقف». ويصف د. المسيرى طريقة كلام الرجل كما يلى «قالها بحنق شديد على هذا الذي يريد أن يستجيب لنظام المرور الإشاري غير الشخصي الذي يسري على الجميع، والذى بدونه تتحول الحياة إلى جحيم مقيم كما هو الحال في مدينة القاهرة خلال معظم أيام الأسبوع».

مازلت مع حكايات الشوارع في سيرة د. المسيري، إنما أنتقل من الحكاية السابقة المضحكة إلى حكاية أخرى تحرك حزنا نبيلا، ولقد لمست في الصياغة الفخمة التي استخدمها د. المسيري فيها تشابها مع الجمل العريضة للروائي الفذ نجيب محفوظ. وتأثرت بالحكاية لما رأيته فيها من لهفة على الحرية حتى ولو دفع الإنسان الثمن من عمره، ولقد جاءت الحكاية فب سياق مختلف اقتطع منها ما يلي: «ثمة لحظة شعرت فيها بالموت «إحساساً جمالياً»، وذلك حين كنت أقود سيارتي بالقرب من باب الحديد، وكنا نقف في الصفوف الجنائزية التي تسد حركة المرور في القاهرة، وكان يقف إلى جواري عربة يجرها حصان كان يقف شامخا ونبيلا برغم أن كاهله كان مثقلا بالسرج، وأن سوط السائق كان ينزل عليه من آونة لأخرى يذكره بمن السيد ومن المسود، وفجأة تخلص الحصان من السرج ومن العربة ومن السوط وأخذ يجري بأقصى سرعة بين السيارات، وظل يجري ويجري حتى تحول في ذهني إلى شكل من أشكال الحرية المطلقة، واستمر في عدوه البطولي حتى ارتطم بسور حديدي فخر صريعا لتوه».

وبجمل أخرى فخمة يرصد د. المسيرى مشهداً آخرا في الشارع، لكن الشارع هنا بمدينة الإسكندرية ووسيلة المواصلات التي يتحدث عنها ليست سيارة ولا عربة يجرها حصان وإنما إحدى وسائل النقل العام وبالتحديد ترام الإسكندرية القديم، الذي روى من خلاله عن زوجته د. هدى حجازي وكيف أن المكان المفضل لهما للقاء خلال فترة الخطوبة كان الدور العلوي بترام الرمل، حيث كان هادئا وجميلا ومنه كما كتب د. المسيرى «كنا نطل على الإسكندرية كلها وأحيانا نرى البحر» وأضاف «نشأت علاقة بيننا وبين محصلي التذاكر»، ويكمل: «فإذا ركبت الترام بمفردي كانوا يسألونني «أين المزمازيل؟» ثم يعلق بطريقة يوسف وهبي: «كان الترام مكانا يصلح للقاء المحبين، أما الآن فهو حلبة صراع داروينية»، نسبة إلى «داروين» كإشارة إلى فكرة أن البقاء للأقوى أو الأصلح.



بلاش يا بيه​

من الأمور التي يحللها بالرغم من ظهورها خلال حكاية تبدو عادية، ويمر معظمنا على مثلها دون أن نتوقف لنتعرف على معناها بينما هو يرصد من خلالها فكرة معينة، مارواه من خلال ما ذكره عن العمل بوصفه علاقة «تعاقدية» وعن أن التراحم ضد التعاقد فيشير إلى علاقته بخادمه المصري في السعودية، الذي كان يأتي مرة كل أسبوع لتنظيف المنزل والقيام ببعض الأعمال المنزلية الأخرى وكيف أنه كان دائما يصر عند لحظة تقاضي أجره أن يقول «بلاش يا بيه، خليها عليّ هذه المرة» ويعلق د. المسيري على قوله هذا قائلا بأن بعض الناس يرى أن هذه العبارة هي تعبير عن «النفاق»، إنما د. المسيري يجد أن مثل هذا التفسير هو تفسير سطحي حيث قام بتحليل العبارة فوجد أنه في واقع الأمر يقول «برغم أنني أعمل خادما عندك وأدخل معك في علاقة تعاقدية فإننا من الناحية الإنسانية متساويان، ولابد أن ندخل في علاقة تراحمية تتجاوز عمليات التبادل الاقتصادية «خدمات مقابل نقود»، لكل هذا لا داعي لأن تدفع لي هذه المرة، ولذا كان د. المسيري يخبره أحيانا بأنه ليس معه نقود ويرجوه بأن يأخذ أجره في الأسبوع الذي يليه وبذلك يعطيه الفرصة أن يكون دائنه وأن يدخل معه في علاقة مساواه إنسانية تراحمية».



«يا باشا»​

ويحكي د. المسيري في مكان آخر أمرا يتضمن كلمة «بيه»، و«باشا»، في مزيد من توقفه أمام أمور يعبرها الكثيرون بينما يقوم هو برصدها وتحليلها، حيث يروي قائلا: «أخبرني صديق لا يؤمن بمسألة الألقاب أنه ذهب إلى النادي مرة فكان كل من يقابله يناديه بلقب «يا باشا» «اتفضل يا باشا - أهلا يا باشا - صباح الخير يا باشا». ولكن أحد العاملين حضر وقال: «أى خدمة يا بيه»، أخبرني صديقي ضاحكا بأنه قد فوجئ بأنه شعر بالضيق من هذا الأخير الذي أنكر عليه لقب الباشوية، إلى أن تنبه لنفسه فأدرك أن الفرعنة ليست أمراً كامناً في النفس البشرية، وإنما هي أمر يكتسبه المرء ممن حوله.



القراءة والتعليم​

إذا كان ما سبق من حكايات عن أمور تبدو بسيطة إنما في توقفه عندها ما يحمل ملامح لثقافة عريضة فإن بدايات تلك الثقافة هي أمر قد تعرض له د. المسيري عبر تفاصيل طويلة انتقي منها هذه اللقطات في بدايات عمره، حيث يقول في جانب منها: «أبناء التجار مثلي كانوا لا يذهبون للمكتبات إنما كانوا يذهبون في الصيف إلى متاجر آبائهم للعمل فيها أو يذهبون للإشراف على جمع القطن في الأراضي الزراعية التي كان كبار التجار يشترونها إما من أجل الوجاهة الاجتماعية أو من أجل الاستثمار المضمون وتأمين المستقبل». كما يحكي أيضا «من خلال علاقتي بابن الموظف الدكتور محمد شقير «الطبيب الذى يعمل الآن في أحد مستشفيات كندا» تفتح أمامي عالما مختلفا تماما. كان أبوه يعمل ناظرا لمدرسة الزراعة، لاحظت أنه هو وأسرته أقل ثراءً من الناحية الاقتصادية من أسرتي، إلا أن أسلوب حياتهم أجمل، كنت أراه يقرأ الكتب، وحينما أذهب إلى منزلهم ألاحظ أنهم يتحدثون في أشياء كثيرة متنوعة».

وعن بعض مما يرصده د. المسيري في بيت صديقه يقول «وكانت هناك لوحات على الحائط وتحف في دولاب الفضيات وأذكر بالذات زجاجة صغيرة زرقاء عميقة الزرقة كنت أغوص داخلها حينما أنظر فيها ومازلت أشعر تجاه الزرقة بالضعف الشديد وبدأت أدرك أن ما يحدد حياة الإنسان ليس بالضرورة العنصر الاقتصادي».

ومما يحكيه حول مَنْ أثروا فيه يقول «كان يمكن للتجارب التي خضتها كطفل وصبي يافع أن تتحول إلى مجرد تجارب شخصية وألا أدرك مغزاها الاجتماعي وألا أعمم منها نماذج تحليلية وألا تساعدني على ولوج عالم الفكر، لو لم ينعم الله عليّ بمدرسين وأساتذة جامعيين ساعدوني ودفعوني ودعموا ثقتي بنفسي وساعدوني على التفكير النقدي».



الموسوعة وبداياتها​

أما الشخصيات التي كان لوجودها في حياة د. المسيري دور كبير في انتقاله من دراسة الأدب الرومانتيكي إلى دراسة الصهيونية فقد كان منها د. أسامة الباز حيث تعرف عليه في الولايات المتحدة خلال الستينيات عندما كانا نشيطين معا في العمل الطلابى هناك، وكان د. أسامة الباز قد قرأ بعض ما كتبه د. المسيري عن الصهيونية فاقترح عليه التفرغ لدراستها، وحين عاد إلى مصر عام 1969 أخبره بضرورة الاستفادة من خبرته فى الصهيونية فقدمه للأستاذ محمد حسنين هيكل الذي عينه مستشاراً له فى مكتبه بحسبانه وزيرا للإرشاد فى ذلك الوقت. وحين ترك «هيكل» الوزارة انتقل د. المسيري إلى كلية البنات وكتب تلخيصا لأطروحته عن الإدراك الصهيوني وتركها للأستاذ هيكل على أمل أن يقوم أحد الباحثين بمتابعة الموضوع وكان رد الأستاذ هيكل أن أحدا غيره لا يمكن أن يكتب عن مثل هذا الموضوع وزاد د. أسامة الباز من تشجيعه له فبدأ في كتابة دراسة عن فلسفة التاريخ عند الصهاينة وعرضها على د. أسامة الباز الذي اقترح أن يعرضها على الأستاذ هيكل الذي اعتبرها دراسة مهمة جدا فعرض عليه العمل مسئولا عن الفكر الصهيوني بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، وبدأت رحلة د. المسيري العملية مع اليهود واليهودية والصهيونية التي عكف عليها ثلاثين عاما كاملة إلى أن أصدر موسوعته الضخمة التي تحمل هذا الاسم.



السطور السابقة هي اختصار مخل بلا شك حول موسوعة د. المسيري لأنها تحتاج لتخصيص مساحة مستقلة لها وحدها، إنما هناك سؤال لا يجب إغفاله لأن الكثيرين يطرحونه هو ما العلاقة بين د. المسيري كأستاذ للأدب الإنجليزي، وبين اهتمامه الثقافي والسياسي بالصهيونية، وهو ما أجاب عنه د. المسيري عبر كتابه بأن الدراسات الأدبية قد عمقت من فهمه للصهيونية، وأنه قد استفاد من مناهج التحليل الأدبي في محاولته تفكيك وإعادة تركيب الظواهر اليهودية والصهيونية والإسرائيلية، بل يزعم أن هناك وحدة فكرية تجمع بين جانبي حياته الفكرية باعتبار أن الدراسات الأدبية هي تدريب على قراءة النصوص قراءة نقدية لتحديد ما هو هامشي وعرضي في النص، وأنه قد استفاد من ذلك في قراءة كثير من النصوص الصهيونية التي تخبئ أطروحتها الأساسية.

ولأن الموسوعة هي مشروع عمر د. عبد الوهاب المسيري فقد كانت تلقي بظلالها على مواقع عديدة عبر الكتاب، ولأنني لابد أن أختار فقد وقع اختياري مما قاله حولها على ما يلى: «بدأت كتابة «الموسوعة» وأنا في الثلاثينيات من عمري وكنت أعمل فيها ليل نهار، أبدأ أحيانا في السادسة صباحاً ولا أنتهي إلا في الثانية عشرة مساء. وعلى الرغم من تقدمي في السن فإن حصتي من النشاط والصحة كانت آخذة في الازدياد بحيث كنت أكثر نشاطا في الثامنة والخمسين مني فى الخامسة والثلاثين كما أن الله عافاني من أى مرض طوال هذه المدة».

ولأن د. المسيري هو الدارس المتعمق فى الصهيونية وإسرائيل، لذلك أحرص على أن أنقل حكاية رواها تتعلق بمصر وبالمصريين في علاقتهم مع إسرائيل والصهيونية، ولقد رواها في سياق حديثه عن رفض للتطبيع مع إسرائيل، حيث تضمنت تلك الحكاية أنه حين بدأت محاولات التطبيع مع إسرائيل عام 1982 كان يعمل في قسم اللغة الإنجليزية بكلية البنات حين وصل وقتها خطاب من وزارة الخارجية يطلب اقتراح بعض الآليات لتوطيد العلاقة بالجامعات الإسرائيلية وبالأقسام المماثلة. ويكمل د. المسيري «وبطبيعة الحال أعددت اقتراحا بأن نرد ردا قاطعا على وزارة الخارجية نرفض فيه التطبيع، ونستنكر كذا وكذا، لكنني فوجئت بأعضاء القسم يقولون: لنكتب «عُلم» وكفى».

ويعلق د. المسيرى: «فابتسمت لأنها طريقة بيروقراطية رائعة لقتل أي شىء». ويستطرد: «ولقد ظهر فيما بعد أن معظم الجهات الحكومية التي ورد إليها مثل هذا الخطاب قد ردت بالطريقة الرائعة نفسها».

ويختتم الحكاية «ويا له من أسلوب مصري عريق في النضال».



الرضا والمرض​

وإذا كان د. المسيري قد ذكر أنه كان متمتعا بالصحة التي ساعدته على إنجاز الموسوعة فقد حكى بعد ذلك كيف سقط مريضا بمجرد الانتهاء منها، وأخذ يسخر قائلا: وحيث إن التدهور في حالتي الصحية بدأ يوم أن انتهيت من الموسوعة، فقد انتشرت شائعة طريفة في القاهرة مفادها أن الموساد هي التى وضعت فىّ الميكروبات التي تسببت في هذه الأمراض»، ويعلق «وهذا تطبيق كوميدي لنظرية المؤامرة».

لكن يبدو أن محاولات د. المسيري للسخرية من مرضه كانت إحدى وسائله الدفاعية للتحمل وعدم الاستسلام، وقد تضمن ما كتبه عن المرض قوله: «تدهورت الأمور فجأة «خلال يومين» أصبحت بعدها عاجزا تماما عن الحركة وكنت أُحمل من مكان لآخر وقد أخبرني أحد الأطباء بأن في داخل كل منا قنبلة زمنية مرضية تنفجر حين يأتي أوانها، ويبدو أن قنبلتى الزمنية المرضية انفجرت في ذلك اليوم، وقد تبين وجود ورم نتيجة مرض يسمى «ميلوما». ويعود د. المسيري للسخرية قائلا: «ولقد خدعني هذا الاسم بعض الوقت بسبب رقته المفرطة»، ثم يكمل بجدية قائلا «أخفى الطبيب حقيقة المرض عني، لأنه كما علمت فيما بعد مرض خطير فهو شكل من أشكال السرطان الذي يسري في نخاع العظام، من هنا فقد قام بتهشيم فقرتين صدريتين وبقى هناك سنوات طويلة ولم يهشم غيرهما»، ثم يعلق د. المسيرى على ذلك بجملة يضعها بين قوسين هي «كرم الله ولطفه». ويكمل : «ثم مع نمو الأغشية وصل إلى العصب وبدأ يضغط عليه».

ثم بإيمان شديد يقول «ولقد نصحني صديقي الدكتور عبدالحليم إبراهيم بالرضا بحسبانه مدخلا للشفاء. وبالفعل قبلت حالتي وبدأت رحلة الشفاء والعودة». من ملامح الإيمان ما رواه أيضا قائلا: «رغم فجائية اكتشاف المرض إلا أنني تقبلت هذا الخبر بكثير من الهدوء والرضا، بل إننا حين كنا في شيكاغو أنا وزوجتي لاستشارة الأطباء كنا نحدد مواعيد الأطباء بما يتفق مع جدولنا السياحى، فقمنا بزيارة المتاحف والحدائق والمسارح، وقضينا واحدا من أجمل شهور حياتنا الزوجية».

ولا يخلو كلام د. المسيري كالمعتاد من التعليقات التنظيرية المضحكة حتى وهو يتحدث عن المرض. من ذلك ما ذكره من أنه خلال العمليات الجراحية الكبرى التي أجريت له عرف أنه كان يتحدث بالفصحى عندما يقع تحت تأثير المخدر، ثم حينما يزول أثره كان يتحدث بالعامية، وهذا إلى حد كبير عكس المألوف، من المفروض أن الفصحى جزء من وعينا وأن العامية هي اللغة الأكثر تلقائية وكموناً في سليقتنا.

ومن آرائه العميقة التي سجلها حول المرض قوله «تعلمت ما قاله لي أحد الأصدقاء من أنه لا يوجد مرض وإنما يوجد مرضى، أي أنه لا توجد قوانين عامة «أو نماذج مجردة» وإنما يوجد أشخاص يصابون بمرض ما ويستجيب كل واحد منهم للمرض بطريقة مختلفة».



أما تأملات د. المسيري وآراؤه المتناثرة عبر صفحات سيرته فأنتقي منها ما يلي: - إيماني يستند إلى إحساسي بعجز المقولات المادية عن تفسير ظاهرة الإنسان.

- دائما أنصح أصدقائى وتلاميذي أن يبعدوا عن المعارك الصغيرة التي تُفرض عليهم والتي يمكن أن تستنزف الإنسان، ومصر الآن عامرة بالمعارك الصغيرة في كل مكان، وقانا الله وإياكم.

- حينما تغمض عينيك فإنك تبصر لأن الإنسان له بصر وأيضا بصيرة، عين حسية «مادية» ترى الأشياء وأخرى «روحية» تخترق السطح لتصل إلى البنية الكامنة وطبيعة الوجود، ولأننا لا نقنع من الأشياء بسطحها ولا نرضى بالواقع كما هو فإننا دائما نحلم.

- قد تكون آراء الفنان الفلسفية سطحية على حين نجد أن أدبه في غاية العمق، لأنه حينما يتفلسف فهو يتفلسف بعقله وحسب ومن خلال ما حصل بشكل واع. أما حينما يبدع فهو يبدع من خلال كيانه ومن خلال ما مر به من تجارب لم يفهمها هو نفسه عقليا، ولكنه أدركها واستوعبها بشكل وجودي مباشر وكلي.

- يمكن القول بأن النظام العالمى الجديد هو عولمة الإمبريالية النفسية وتعميم لمفهوم الإنسان الاقتصادي الجسماني الذي لا يكترث بالوطن أو بالكرامة ولا يهمه سوى البيع والشراء والمنفعة واللذة.

- المجتمعات الاستهلاكية التي تظن أنها قادرة على إشباع جميع رغبات الإنسان مسقطه احتياجاته الروحية من الحسبان، هذه المجتمعات تتجاهل ثنائية الإنسان كجسد وروح وتسبب البؤس للبشر.



قصص الأطفال​

ولا أريد أن أنتهي من عرض قراءتي لسيرة د. المسيري إلا بعد أن أشير إلى اهتمامه الذي ظهر متأخرا بكتابة قصص للأطفال، وهي منطقة لن أتوسع فيها وإنما ألتقط منها أقواله التالية:

- هناك عناصر أوجدت تربة خصبة عندي لكتابة أدب الأطفال إنما الذي دفعني للكتابة هو الهدية التي حباني الله بها منذ عمر طويل «طفلاي نور ثم ياسر» حيث كانت تنشئتهما موضع اهتمامي، ثم انضم لهما حفيدي «نديم».

- كتبت قصصاً للأطفال تدور أحداثها بشكل أسطوري لكن في العالم الحديث، فهناك أهمية كبرى لما هو ممتع وليس له بالضرورة فائدة محسوسة ومباشرة.

وإذا كان د. المسيري يرى أن للمتعة في قصص الأطفال أهمية كبرى حتى لو بدون فائدة محسوسة فإنه قد حقق هو لقارئ سيرته متعة وفائدة في الوقت نفسه. وحينما قررت أن أختتم قراءتي لسيرة د. المسيرى باهتمامه الجديد بالكتابة للأطفال فإنني بذلك أكمل ما سجلته في بداية هذه القراءة مما قمت برصده حول قدرته على الحكي التي هي من ناحية أخرى أحد عوامل النجاح في الكتابة للأطفال لكن قلمي قبل أن أضعه جانبا وجدته يكتب انطلاقا من نظرة شاملة لسيرة د. المسيري أنه قد تزوج من أربع: الأولى زوجة رسمية هي «د. هدى حجازى»، والزواج الرسمي الثانى كان للأدب الإنجليزي، أما الثالثة فقد تزوجها عرفياً ثم تم الاعتراف بها وهي الموسوعة، والرابعة تزوجها على كبر دون انشغال بفارق السن وهي قصص الأطفال.

أما ما لم يهتم به قلمي، ولا حتى قلبي، فهو السؤال عن العدل بين الزوجات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى