الأستاذ جيب - القصة المصرية -3/3- تر: محمود الخفيف

-1-
جاء ابتداء ظهور القصة كفن من فنون الأدب في مصر متأخراً، إلى حد أننا نلتمس العذر لمن يدرس الأدب المصري، إذا هو رجع إلى ما أنتجته من قبل (مدرسة الكتاب السوريين) من الآثار ليبحث عما إذا كان هناك في الأصل علاقة بينها وبين نمو القصة.

وفيما عدا ما يحتمل من أن نجاح القصصيين السوريين قد شجع الكتاب المصريين على إنتاج نوع من القصص يلائم شعبهم، ستبقى (القصة المصرية) وهي موضوع هذا المقال، أثناء البحث مستقلة تمام الاستقلال عن تاريخ القصة السورية.

أما المؤثرات الغربية، فقد ظهرت بوضوح فيما ولى ذلك من الأطوار كما أنها استخدمت استخداما مباشرا، ولكن على الرغم من هذا فان (آداب التسلية) في مصر قد ظلت لمدة طويلة تعتمد على ما خلفه العرب من النماذج الأدبية العالية، والنماذج العرفية التي درج الناس عليها. فلما آن لها أن تتحرر من تبعيتها لتلك النماذج، كان تحررها ببطء وبعد تردد، ومن ثم كان نجاحها في ذلك الاتجاه فردياً موزعا، ولم يكن نتيجة لحركة تطور مستقيمة.

ونحن في الواقع إذا أردنا أن نتحدث عن (نمو) القصة في مصر، فلا بد أن نمد في معنى هذا اللفظ (القصة) حتى يشمل شعبة واسعة من فنون الكتابة يربطها جميعا رباط الخيال القصصي، وإن كان بينها كثير لا يمكننا مطلقا أن نعتبره قصة إذا قصدنا المعنى الحقيقي لهذا اللفظ.

ويعزى تأخر مصر في هذا الميدان، ميدان القصة، إذا هي قورنت بتركيا والهند (وهما المركزان الأساسيان الآخران للثقافة الإسلامية) إلى عدة عوامل أوضحناها في مقال سابق في صدد الكلام عن الأسباب الأدبية، والأسباب التعليمية التي كانت عقبة في سبيل ظهور آداب للتسلية من نوع جديد في مصر. ونستطيع أن نضيف اليوم إلى تلك العوامل أن المصريين وجدوا غنية ومتاعا فيما خلفه العرب من آداب عالية متنوعة، مما لم يكن له مثيل في كلتا اللغتين التركية والأردية. وهناك بعض عوامل محلية خاصة سنعرض لها في شيء من التفصيل في بحثنا هذا، ولكننا نحب أن نشير الآن إلى تلك الحقيقة التي تحوي شيئاً مما سنعرض له، وهي أن تلك الطبقة المحصورة التي تعلمت تعلما حديثاً في مصر، كانت تستطيع أن تجد بغيتها في الأدب الفرنسي والأدب الإنجليزي، ومن أجل ذلك انعدمت في الدوائر الأدبية البواعث التي تشجع على تأليف كتب التسلية بالعربية. فلما أمست الحاجة إلى هذا النوع من الكتب، كان المسلك الطبيعي الذي سلكه الأدباء هو إقبالهم على ترجمة القصص الفرنسية والإنجليزية، وفضلوا ذلك على أن يقوموا بإنتاج أدب قصصي جديد لا يرجون له انتشاراً، إذ كان ذلك العمل يتطلب منهم خلق فن جديد من فنون الكتابة.

ولما كانت هذه القصص قد ترجمت ترجمة سقيمة، ولم يراع في اختيارها حالة مصر الاجتماعية، ولا حالة الثقافة العامة، ولا الذوق الأدبي في البلاد. فان قبول القراء لها على الرغم من عيوبها ليدل على انه كان هناك شعب يتذوق هذا النوع من الأدب ويقدره حق قدره.

على أن هناك كتاباً يصح اعتباره مقياسا للكياسة والمهارة اللتين ينبغي أن يتصف بهما من يريد القيام بترجمة قصة أوربية، بحيث يجعلها تلائم ذوق شعب ثقافته إسلامية كالشعب المصري، ذلك الكتاب هو ترجمة عثمان جلال لقصة (بول وفرجيني) فان تلك الترجمة على ما فيها من الاختصار والتصرف في الجملة ظلت محافظة على الروح الأصلية وعلى ما جاء في الأصل من المعاني. أضف إلى ذلك أن استعمال السجع في عبارات سهلة. ووضع المؤلف بعض المقطوعات الشعرية محل الأفكار الفلسفية التي وردت في الأصل، قد أكسب هذه الترجمة مسحة عربية، لم توجد مع الأسف في معظم ما عاصرها أو جاء بعدها من الكتب المترجمة. ويمكننا أن نستشهد على ذلك بالفقرة الآتية:

(وما أنت أيتها الصغيرة فلا عذر لك في السفر، ولا بد من تسليمك للقضاء والقدر، وأن تطيعي أمر الأقارب وإن ظلموا وأن تسلمي لمل به حكموا، فإن سفرك وإن كان لا أحد يرضاه، فهو على ما حكم الله. فلقد أنزل تعالى في كتابه العظيم، على لسان نبيه الكريم: قل لا أسألكم عليه أجرا الا المودة في القربى، وإن سفرك إن شاء الله لنعم العقبى، أفتعصين الله ما أمر، أم تسلمين للقدر).

وهناك غير هذا الكتاب مئات أخرى بينها عدد ليس بالقليل حرص فيه المترجمون على الأصل إلى درجة تختلف قلة وكثرة عما ذكرنا، ونخص بالذكر تلك التراجم التي قام بها المنفلوطي، وإن كان ينقصها كثير من مزايا ترجمة عثمان جلال، على الرغم من براعة أسلوب المنفلوطي. والذي يعنينا في هذا الصدد الكتب المترجمة من أنها كثيرة وأنها صادفت رواجا عظيما.

ونستطيع أن نتبين ميل الكتاب المصريين إلي المحافظة على ما خلفه لهم العرب من الأوضاع الأدبية التقليدية، (الا أن يضيفوا إليه بعض العناصر الجديدة) في تلك القصة التي تعد أول قصة مصرية بالمعنى الذي أشرت إلى وجوب اعتباره في صدد الكلام عن القصة المصرية، وهي (رواية عذراء الهند أو تمدن الفراعنة لمنشئها الضعيف احمد شوقي) عام 1897. وهي من أوائل مؤلفات الشاعر النابه احمد شوقي. ولم توضع هذه القصة على نمط قصص ألف ليلة وليلة أو على طراز قصص السيرة، وإنما وضعت على نمط تلك الأقاصيص الخرافية الشهيرة التي تعرف (بالحواديت). وقد سار المؤلف في توسيعها على الطريقة التي تتبع في (القصص التاريخية). على أني أقرر صراحة أن هذه القصة مما لا يمكن أن يستسيغه العقل، من حيث الخطة ومن حيث ما حشر فيها حشراً من المخلوقات الخرافية كالسحرة والعرافين، مما لا تكاد تخلو منه صفحة من صفحاتها، ولكنها ورثت مما سبقها من (الحواديت) المشهورة ميلاً شديداً إلى الحركة والمخاطرة فعوض ذلك عليها بعض مساوئها، وإننا لنشعر بشيء من اللذة أثناء قراءة الصفحات التي لم تحشر فيها الخرافيات لأنها تعد بين القصص الحي.

أما ما تدين به تلك القصة (للقصة التاريخية) فهو طريقة سرد التاريخ في ثنايا القصة. ولقد تعرضت هذه القصة لشرح عظمة مصر القديمة. وهي جديرة بالاعتبار من هذه الناحية. على أن خطرها الحقيقي إنما يرجع إلى أنها كتبت بذلك الأسلوب الفخم الذي قلد شوقي زعامة الشعر في الأدب المصري. ويعد النثر المسجوع فيها من أفصح ما عرف من هذا النوع ولقد كانت الفقرات تجري على روى واحد أربع مرات أو خمسا في غير إملال. وكانت تتخلل هذه الفقرات بعض المقطوعات الشعرية الرائعة للمؤلف. وأن الإنسان ليأسف على انه لم يتح لهذا الأسلوب موضوع آخر ومواد أخرى غير التي استعمل فيها.

بجانب تلك المحاولة التي قام بها شوقي، ظهرت محاولة أخرى بعد ذلك ببضع سنوات كانت أبعد نجاحا وأعظم أثراً وهي التجاء الكتاب إلى ذلك الضرب المعروف بالمقامات، وهي تعد في نظر من يدرسون الأدب العربي في العصور الوسطى أقرب ضروب الكتابة في ذلك الوقت إلى القصة بمعناها الحقيقي. ولقد ظلت المقامة تستعمل في شكلها التقليدي حتى أواخر القرن التاسع عشر. وعلى الأخص على يد ناصيف اليازجي وعبد الله باشا فكري، ولكنها كانت في يدي هذين الرجلين وغيرهما من كتاب مدرستهما مقصورة على الموضوعات القديمة ولم يكن لها بحياة عصرهم غير ارتباط قليل.

ولكن ظهر بجانب هذه المقامات نوع آخر لجأ إليه الكتاب فيما طرقوه من الموضوعات وعلى الأخص في النقد الاجتماعي؛ وأقبل عليه عدد من الكتاب المصريين فأخرجوا طائفة من الآثار الأدبية؛ كانت إحدى المظاهر الخاصة التي امتاز بها الإنتاج الأدبي في السنوات العشر التي سبقت عام 1914.

ويعد (حديث عيسى ابن هشام) لمحمد إبراهيم المويلحي (1858 - 1930) أقدم وأحسن تلك المجموعة الجديدة، بل أن هذا الكتاب في تصوراته وطريقته ليكاد يصل إلى القصة بمعناها الحقيقي. ولقد لجأ المويلحي أيضاً في ذلك الكتاب إلى الخرافيات، لأن الخيط الذي يربط أجزاءه، هو تجارب أحد الباشوات الذين عاشوا في عهد محمد علي، وقد بعث هذا الباشا من مرقده فهاله ما وجد من الظروف الاجتماعية الغريبة التي لم يألفها في القاهرة التي استحالت إلى مدينة أوربية. وبهذه الوسيلة تسنى للمؤلف أن ينتقد في حوار ممتع حالة عصره، وأن يقارن ذلك بالماضي مظهرا ما في الحاضر من مساويء، أهمها ولع أهله بتقليد الأوربيين تقليدا مرذولا. على أن هذا الكتاب، كما لاحظ محمود تيمور، ينقصه الخواص الجوهرية للقصة، وأعني بها الخطة البسط، ولكنه في تصوير الأشخاص قد نجح إلى درجة جديرة بالاعتبار. ولقد أضيف إلى الطبعة الأخيرة لهذا الكتاب جزء آخر سمي (بالرحلة الثانية) غيرت فيه المناظر الأولى بمناظر باريس أبان المعرض العظيم عام 900، وبذلك تسنى للمؤلف انتقاد مساوئ التشبه بالغربيين، وأوضح معايب المدنية الغربية لدى منابعها. ومما هو جدير بالملاحظة أن الباشا لم يرجع ثانية إلى قبره، ذلك إلى مثله في الكتاب ما يحملنا على الظن بان المؤلف قد نسى الفكرة التي بدأ بها كتابه.

ولا يعزى نجاح هذا الكتاب وشهرته إلى القصة نفسها ولا إلى مغزاها بقدر ما يعزى إلى براعة الأسلوب والمقدرة على الوصف، فإن المؤلف يقلد تقليدا متقنا الخصائص الحسنة التي يمتاز بها أسلوب المقامة مضافا إلى ذلك سهولة حديثة وظرف. ويتخلل عباراته المسجوعة حوار في لغة سهلة حديثة. ولقد يلجأ المؤلف إلى اللفظ العامي الاصطلاحي فيستعمله في غير تردد، وذلك على الرغم من أن الحوار نفسه كان يتطرق كثيرا إلى عبارات وصفية مسهبة. وكان السجع مزيجا متقنا من القديم والحديث مما أكسب الأسلوب طرافة ورونقا، وجعل القارئ يستمتع بأثر من الآثار الأدبية الحية جدير بأن ينافس آثار المنفلوطي في الأسلوب مع تفوقه عليها في عمق الحس وحسن الترتيب.

وتستطيع أن تضيف إلى كتاب المويلحي كتابين آخرين، جرى فيهما صاحباهما على سنّة المويلحي في اختيار طريقة المقامة للكتابة في النقد الاجتماعي، وإن كانا أقل منه لباقة ورقة، أولهما (ليالي سطيح) لمحمد حافظ إبراهيم وهو أقوى منافس لشوقي في زعامة الشعر العصري (1871 - 1932) وظهر هذا الكتاب عام 1907. وخطة هذا الكتاب بسيطة تتلخص في أن جماعة من الناس كانوا يشكون في ليالي متوالية ما يلاقونه من مساوئ الأحوال السائدة في مصر، فيجيبهم على التوالي صوت خفي مبيناً أسباب ما يضجون منه من المساوئ في نثر مسجوع تتخلله بعض المقطوعات الشعرية، واصفاً لهم الدواء. على أن خطة الكتاب تأخذ بعد ذلك في التغير تدريجا حتى يصير الجزء الأكبر منه عبارة عن محاورات في نثر مرسل سهل تضيع فيه المعالم الأصلية للكتاب. ولقد قوبل هذا الكتاب بحماس وإقبال في الدوائر الأدبية المصرية ولكن مما تلذ ملاحظته في هذا المقام أن أصواتا عالية قد ارتفعت في ذلك الوقت منددة باستعمال السجع في مثل هذه المؤلفات.

أما ثاني هذين الكتابين فهو (ليالي الروح الحائر) للكاتب السياسي والمؤلف المسرحي محمد لطفي جمعة. ولقد سار المؤلف في هذا الكتاب على طريقة المقامة بالدقة، دون أن يلجأ إلى السجع. ويلاحظ في كتابه أثر كتّاب (المدرسة السورية الأمريكية) واضحا خصوصا في هذا النوع من الإنشاء المعروف باسم الشعر المنثور أو الشعر الحر. أما المتحدث في هذا الكتاب فهو روح غير مجسمة كما يفهم من اسمه، وأغلب هذا الحديث في انتقاد الأحوال الاجتماعية في مصر، ولقد أشار زيدان بحق إلى جمال هذا الكتاب وفصاحة أسلوبه. وفي نظري أنه في هذه الناحية أهم منه في الناحية الأخرى: ناحية التعمق في الأفكار التي تعرض لشرحها.

وقبل أن أترك هذه المجموعة المتشابهة أحب أن أشير هنا إلى كتاب آخر عظيم الشبه بها وإن امتاز منها في الروح ثم في الأسلوب إلى حد كبير، ذلك هو مجموعة الفصول التي جمعت تحت عنوان (أين الإنسان) لمؤلفها الشيخ طنطاوي جوهري. ولقد قدمت هذه الرسالة إلى المؤتمر الدولي الذي انعقد في لندن عام 1911. أما المتكلم في هذه الرسالة فهي روح سماوية، وأما الحديث فانه يدور حول التقدم العالمي والإخاء البشري. ولم يلجأ الكاتب إلى استعمال السجع، وهذه الرسالة مفخرة للأدب العربي العصري، وهي جديرة بأن تكون موضوع دراسة خاصة، ولكني أكتفي هنا بالإشارة إليها لخروجها عن موضوع بحثي.

ويمكننا أن نتبين في هذه المؤلفات عدة محاولات مجتمعة لإيجاد نوع جديد من الأدب، يسد حاجة جمهور قارئ جديد، ويتصل بعض الاتصال بمشاكله ونظراته إلى الحياة، بحيث يسهل تناوله، ويثير اهتمامه، ويلائم خياله. على أن أصحابها لم يصادفوا نجاحا في تلك المحاولات لأنها كانت أقرب إلى الأدب العالي منها إلى آداب التسلية، فلم يقبل عليها الا عدد صغير من خاصة القراء.

وبدل أن يطرقوا موضوعات جديرة طريفة تسري عن الجمهور ما يلاقيه من متاعب الحياة نراهم يوجهون اهتمامهم إلى هذه المتاعب نفسها فيتناولها بالدرس والتحليل، وأدهى من ذلك انهم كانوا يسلكون في كتاباتهم طريقة الوعظ الجافة، أضف إلى ذلك انهم لم يسلموا من تسلط الفكرة القديمة، فكرة العصور الوسطى، التي تنظر إلى الأدب كوسيلة من وسائل المباهاة والظهور، سواء في ذلك ساروا على الطريقة القديمة أو من قاموا بترجمة بعض المؤلفات الغربية كعثمان جلال والمنفلوطي، ولم يخل الكتاب السوريون من التشيع بهذه الفكرة أيضاً وحتى كتاب الأقاصيص التافهة التي تركت في زوايا النسيان الذي استحقته منذ ظهورها، قد قصدوا في كتاباتهم إلى ذلك الغرض الوعظي الخلقي. ويظهر لنا من هذا أن أولئك الكتاب كانوا ينظرون إلى القصص التي تكتب للجمهور نظرة ازدراء مما كان له أكبر الأثر في تأخر نمو القصة كفن من فنون الأدب العربي.





الأستاذ جيب. أستاذ الأدب العربي في مدرسة اللغات الشرقية بجامعة
لندن

مجلة الرسالة - العدد 6
بتاريخ: 01 - 04 - 1933

تعليقات

- 2 -

أول قصة مصرية بالمعنى الحقيقي خرجت إلى الوجود، وهي غفلاء من أسم مؤلفها، فلم تلق أول الأمر إلا اهتماماً قليلاً من جانب المتعلمين، تلك القصة هي (زينب) مناظر وأخلاق ريفية، بقلم فلاح مصري - القاهرة، مطبعة الجريدة عام 1914. ومؤلفها هو الدكتور محمد حسين هيكل، ولما كان غداة نشرها محامياً صغير السن طموحاً لم يشأ أن يذكر أسمه مخافة أن يقف ذلك عقبة في سبيل عمله.

خرجت (زينب) خروجاً تاماً، في لغتها وأسلوبها وموضوعها وفي الطريقة التي عالجها بها المؤلف عن جميع ما تقدم من الآثار في الأدب العربي. وليس هناك علاقة بينها وبين قصص زيدان التاريخية، وقصص فرح إنطوان، فلقد كتبت كما يتضح من عنوانها لتصوير الحياة الاجتماعية في الريف بسلسلة من الحوادث تدور حول فتاة قروية.

ونستطيع أن نسرد الحكاية في أيجاز، فنقول، أن زينب وهي فتاة قروية جميلة، قوية الإحساس، بعد علاقة بريئة بشاب متعلم يدعى حامد أبن صاحب الأرض في القرية، قد أحبت فتى يقال له إبراهيم، ولكنها تزوجت رغم أنفها وبمشيئة والديها من صاحبه حسن. فحرصت على وفائها وولائها له، ولكنها ظلت على حبها لإبراهيم، ولقد أدى التنازع بين هاتين العاطفتين، عاطفة الحب وعاطفة الإخلاص الزوجي إلى تأثير سيئ في صحتها، ولما علمت بدخول ابر أهيم في الجيش بلغ ذلك من نفسها مبلغاً عظيما حتى أضناها الحزن ثم أودى بحياتها، وبجانب هذه الخطة تقوم حكاية أخرى. وهي تلك العلاقة بين حامد وابنة عمه، وهي فتاة من فتيات المدن، ثم اختفاؤه عندما أخفق مسعاه في التزوج منها.

ويتضح من ذلك أن الخطة على العموم أقل من أن تكفي لملء أربعمائة صفحة، وبالقصة من جهة أخرى عيوب سنعرض لها الآن. وينبغي أن نتذكر أن تلك القصة ليست أو مجهود لشاب صغير السن فحسب. بل هي كذلك أول مجهود من نوعه في أدب فني، فيجب أن ينظر إليها مع هذا الاعتبار، والواقع أن ما في القصة من تفاصيل تستوجب النقد، يقل شأنه، إذا قارناه بتلك الحقيقة وهي أن هناك مجهودا بذل، وأن تلك القصة تعتبر شيئاً جديداً من نوعه أضيف إلى الأدب العربي.

ويعد بناء هذه القصة ممتعا من الناحيتين الوصفية (والسيكلوجية) وواضح أن القصة إنما قصد بها انتقاد تلك الروح الرجعية التي ما زالت تسيطر على طبقة خاصة من الناس على الرغم من التقدم الحديث، على أن نجاحها في هذا السبيل لم يكن تاما، إذ أن الشخصيات نفسها لم تركب بدرجة كافية، اللهم إلا شخصية حامد، وهي بلا شك تمثل إلى حد كبير شخصية المؤلف نفسه. كذلك نلاحظ أن تصوير الأشخاص والحوادث بطريقة (درامية) جاء ضعيفا بالجملة.

وكانت النتيجة أن تعليقات المؤلف (السيكلوجية) كانت تأتي على لسانه هو بطريقة أقرب إلى طريقة الكتب المدرسية مع استعمال ضمير المتكلمين الجمع. ويظهر تدخل المؤلف بشكل أوضح في مواضع الوصف. ولقد ذكر هيكل بك في مقدمة الطبعة الثانية الظروف التي وضع فيها كتابه، وذلك حين كان يطلب العلم في باريس وجد به الحنين إلى وطنه، فجعل يتمثل في ذهنه جميع مظاهر الحياة القروية، ومجالي الطبيعة في مصر، ويظهر أثر ذلك في كل صفحة من صفحات الكتاب تقريبا، في قطع وصفية مسهبة للمناظر الطبيعية، كالشمس والقمر والنجوم والمحاصيل والجداول والبرك. . . الخ، ولقد يرتفع أسلوبه في ذلك إلى درجة عظيمة من الفخامة والروعة الموسيقية، ولكن طول الوصف مما يسبب السآمة وتشتيت الذهن. ففي كل حادثة وفي كل منظر وصف وتعليق، مما جعل القصة في بعض المواضع تسير متعثرة. أضف إلى هذا أن الكاتب كان يعمد أحيانا إلى قصص استطرادية تافهة، لا تمت بصلة قوية إلى القصة الأصلية، لا لغرض سوى أن يستطيع بواسطتها أن يضيف بعض الفقرات الوصفية، ثم بين الفينة والفينة تظهر بعض جمل مثقلة بالوصف الى درجة تفقد معها مبناها ومادتها.

ولكن يجب ألا ننسى أن هذه الفقرات الوصفية تحمل من المعاني إلى ذهن القارئ المصري أكثر مما تحمل إلى غيره، وإن تأثيرها الفني في نفسه، يعد أحد الأسباب الرئيسية التي قامت عليها شهرة هذه القصة عند المصريين.

أما ما حوته من المباحث الاجتماعية، فكان أكثر تمشيا مع الخطة، إذ كان من المحتم أن يتلمس المؤلف أسباب المساوئ التي ذكرها وأسباب المأساة النهائية، وأن يرجع ذلك إلى أصله في العادات الاجتماعية. ويغلب على القصة من أولها إلى آخرها التعرض لنقد المساوئ التي أنتجها التمسك بالعادات البالية، ولكن النقد الاجتماعي لم يحشر بالطريقة التي حشرت بها الفقرات الوصفية (والسيكلوجية) ويرجع ذلك إلى أن المؤلف قد أجراه على لسان حامد، وهو شاب متعلم متأثر بأفكار قاسم أمين وغيره من المصلحين الاجتماعيين، على أن المؤلف كان يلجأ هنا أيضاً في بعض الأحيان إلى اصطلاحات الكتب المدرسية.

وكان تنظيم الأسرة وتحرير المرأة هما المحور الذي تدور عليه انتقادات المؤلف الاجتماعية، أضف إلى ذلك بعض مظاهر الحياة الاجتماعية في مصر، كبعض الحرف البعيدة كل البعد عن حقائق الحياة، مثل حرفة طبيب القرية (الحكيم البلدي) ومشايخ الطرق الذين يتجرون بتضليل العامة وغير ذلك.

أما شعور المؤلف القومي، فكان مضمراً أكثر منه صريحا وإن كان قد أظهره في بعض المواضيع، وبخاصة عند إشارته إلى حقارة الخدمة العسكرية، تحت سيطرة الأجنبي.

أما أسلوب القصة فقد سار الكاتب فيه على الأسلوب الأدبي الحديث مع تهذيبه في أغلب الأحيان في اللفظ والتركيب، ويلاحظ فيه من جهة أثر الاصطلاحات العامية الخاصة بدلتا مصر، ويتضح ذلك في اقتضاب بعض الجمل، وفي طريقة الانتقال وغيرها، كما يلاحظ فيه من جهة أخرى أثر الفرنسية، ويظهر ذلك في طول الجمل والتوائها مع كثرة الجمل الفرعية والمعترضة التي تدخل على الجملة الرئيسية، مثال ذلك الجملة التي تبتدئ بالفقرة الآتية (ومن الظلام روافه) صفحة 37 من الطبعة الأولى و34 في الطبعة الثانية وكذلك الجملة التي تبتدئ بقوله: ولم تكن إلا لحظات. . . ص 89 في الطبعة الأولى و 70 في الثانية.

أما ما يتعلق بتلك المشكلة الصعبة، مشكلة أسلوب الحوار فقد لجأ هيكل بك في شجاعة إلى استعمال اللغة العامية إذا كان الحوار بين الفلاحين، أما إذا كان بين الطبقات المتعلمة فيتركهم يتكلمون اللغة الفصحى.

ويتضح مما قدمنا أن عنصر الخيال في زينب أقل منه في مثيلاتها من القصص الأوربية المتوسطة، وأن ما في القصة من فقرات عقلية ووجدانية (وهي في الواقع العنصر الشخصي فيها) يسمو على الناحية القصصية. ولقد ذكر الكاتب في مقدمة الطبعة الثانية أن القصة فضلا عن مظاهرها الخاصة تأثرت أيضاً بطريقة القصة الفرنسية السيكلوجية الحديثة، ولكنا على الرغم من ذلك (إلا إذا ثبت تماما أن القصة قد جرت في تفاصيلها وأسلوبها وخطتها على نمط القصة الفرنسية) نقول أنه يستحيل علينا أن ننكر على زينب أنها أول قصة مصرية كتبت بقلم مصري للقراء المصريين، وأن شخصياتها وأوضاعها وخطتها قد اشتقت من الحياة المصرية الحاضرة.

لم تلق هذه القصة إلا اهتماما قليلا حينما نشرت في عام 1914، ولكنها لاقت بعد ذلك نجاحاً كبيراً لما اتسعت دائرة القراء. وكان إعادة طبعها في عام 1929 بناء على طلب الجمهور، وقد أدى إلى ذلك عدة عوامل نذكر منها أنها زادت في إحساس الناس بقوميتهم، وأن مؤلفها قد ارتفع صيته في عالم الأدب، وأنها اختيرت موضوعا لأول (فلم سينمائي) أخرج في مصر.

ومن أجل ذلك أصبحت القصة موضع بحث، وكتب في نقدها بعض مقالات كان معظمها مدحا وتقريظا. ومن أحسن ما كتب في هذا الصدد مقالتان طويلتان للمازني في السياسة الأسبوعية بتاريخ 27 أبريل و4 مايو سنة 1929. وحدث أن كتب بعد ذلك كل من هيكل بك ومحمد عبد الله عنان سلسلة مقالات في السياسة الأسبوعية في أوائل عام 1930 ذات فائدة كبيرة فيما يتعلق بنشأة القصة في مصر.

يسائل هيكل بك عن أسباب ذلك الضعف وذلك الفقر الغريبين اللذين يمتاز بهما الأدب العربي الحديث في القصة، مع أن المصريين يمتازون بمقدرة طبيعية على سرد القصص. ولقد علل ذلك بعدة أسباب منها: فقدان المقدرة على طول الخيال، والفرق بين لغة الكتابة ولغة التخاطب، وكسل الكتاب المصريين. ولكن ليس في هذه الأسباب ما يمكن اعتباره السبب الحقيقي وإن بدا في الثاني منها بعض الوجاهة. ويذكر هيكل بك بعض الأسباب الفرعية الأخرى ومنها (1) نسبة الأمية الهائلة في مصر، وهي تحول دون أي تقدير حقيقي من جهة، وتكون سببا في قلة العوض المالي من جهة أخرى (2) عدم التشجيع من جانب الطبقات العالية والطبقات الغنية، وربما كان السبب في ذلك أن هؤلاء لم يجدوا تشجيعا من جانب المرأة وبهذه المناسبة يشير المؤلف إلى أثر المرأة في فرنسا في القرنين السابع عشر والثامن عشر والى أهمية تشجيع المرأة للحركة الأدبية في الأدب العربي القديم (3) الحط من قيمة الأدباء في مصر والتشهير بهم علنا من منافسيهم وممن هم أقل منهم منزلة (4) انشغال الناس بالمسائل السياسية والاقتصادية وميل الكتّاب إلى الاهتمام بالناحية السياسية أكثر من اهتمامهم بالناحية الأدبية.

ويوافق عنان على تلك الأسباب في الجملة، غير أنه يقول أن ثانيها هو أكثرها خطرا، فإن الوسيلة الحقيقية إلى نمو القصة في مصر تنحصر في مركز المرأة الاجتماعي ويشير عنان إلى أن الدور الذي لعبته المرأة في إنهاض الشعر العربي القديم لم يكن له علاقة بالقصة، لأن أساس القصة إنما يوضع في مجتمع تلعب فيه المرأة دورا خطيرا ويكون المجتمع متأثرا بنفوذها خصوصا في رسم مستوى الخلق والسلوك. وكان من نتيجة فقدان هذا الأثر ضيق مجال الأدب العربي القديم والأدب الأوربي في العصور الوسطى ونقصهما في جمال الشعور والعواطف. ولا يزال هذا الضيق موجودا في الأدب العربي الحديث لأن المستوى الاجتماعي لم يزل كما هو لم يتغير. وتعتبر قصة زينب إحدى الشواذ التي تنهض دليلا على صحة القاعدة، فإن نجاحها إنما يرجع إلى تلك الحرية النسبية التي تتمتع بها المرأة في الحياة الريفية. وعلى ذلك فإن عنانا لا يشارك هيكل بك في تفاؤله، ففي نظره أنه لا يمكن أن تتقدم القصة المصرية ما لم تتحسن تلك الظروف القائمة، ولا يمكن أن تترجم أو تمثل العواطف والأخلاق السائدة في الحياة الاجتماعية. ولا ينتظر أن يكون لها مستقبل في التطور الأدبي الحديث ما دامت الحياة الإسلامية محافظة على تقاليدها الموروثة. ومما قاله في هذا الصدد (استطعنا أن نقطع بأن المجتمع الإسلامي لا يمكن (متى بقي تطوره وتقدمه محصورين في المبادئ الإسلامية الخالدة أو في التقاليد التي كانت أثرا لهذه المبادئ) أن يظفر كتاب القصص العربي يوما بمادة واسعة أو غزيرة كالتي يقدمها المجتمع الغربي إلى كتاب الغرب أو أن يغدو الأثر الذي يفسحه للمرأة ذات يوم وحيا للفن والجمال).

ولقد أدت مقالة عنان إلى رد من جانب هيكل بك يتعرض فيه إلى الناحية (السيكلوجية) للموضوع، وهي مقالة جديرة بأن تقرأ بمزيد الاهتمام. يقرر الكاتب أن الضعف الحقيقي في القصة القصيرة والقصة الطويلة في مصر إنما يرجع إلى عدم المقدرة على تفهم الحياة والى حاجتنا إلى تربية العواطف، فإن العواطف النبيلة لا يمكن أن تثمر في حياة اجتماعية يقف فيها الشعور عند نقطة تقوم معها الأغراض الجسدية مقام أي عاطفة سامية من عواطف النفس الإنسانية. وإن أي فن لا يكون في الأصل قائما على حب الفنان لناحية من نواحي الحياة لا يمكن مطلقا أن يصل إلى درجة الكمال، وتطور غريزة الحب إلى عاطفة إنسانية سامية يحتاج إلى تدريب طويل شاق وقد لا يكفي لبلوغ ذلك جيل بل عدة أجيال. وحتى فضيلتا الإحسان والعطف يندر وجودهما في مظهرهما الاجتماعي الراقي في مصر. ولم يزل الحب أيضاً قريبا من الغرائز الأولية، ومن النادر أن يعثر المرء في هذه الناحية على مثل من المثل العليا الجميلة. وأخيرا يتلمس الكاتب أسباب نقص التهذيب العاطفي في انعدام وسائل التربية التي تقصد إلى هذا الغرض في المنزل، كما يتلمسها في طرق التعليم القديمة التي تعد أدخل في باب الحرف منها في باب الإنسانية.

ولم يكن من السهل مرور هذه المناقشات دون أن تثير معارضة من جهات مختلفة وسنوضح أحد هذه الانتقادات الشهيرة عند الكلام على قصة المازني (إبراهيم الكاتب) ولقد صدرت تلك المعارضة عن صفوف المثقفين. ومما قاله أحدهم في هذا الصدد. . . . ما هذه المناقشة الطويلة حول القصة؟ لقد سار الأدب العربي بدونها في الماضي ولم ينقص ذلك من قدره، وإن التطلع إلى إيجاد القصة فيه الآن ليعد مثلا جديدا من أمثلة تقليد الأوربيين تقليدا ضارا ينذر بتقوض دعائم الحياة الاجتماعية في الشرق. إن القصة الغربية بما فيها من نقص وتزييف وعدم ملاءمة للتقاليد الاجتماعية في الشرق قد أثرت تأثيرا هداما في حياة مصر الاجتماعية. أفنسعى بعد ذلك وراء هذا الداء الوبيل؟
 
-3-

ولقد كتب الدكتور زكي مبارك معارضة من هذا القبيل يوافق فيها على أن القصة لا يمكن أن تنشأ في مصر إلا إذا حصلت المرأة على مركز اجتماعي لائق، ويصف كتاب القصة في الأدب العربي بأنهم ينتمون إلى الطبقة الوضيعة من طبقات الأدباء، وينعى عليهم قلة خبرتهم بفنون الكتابة وعدم استقلالهم في الرأي وسطوهم على الآداب الأوروبية، وأدهى من ذلك أنهم يغرون الشباب باحتقار فنون الكتابة الأخرى، على حين إن الأدب الحقيقي الذي يتجلى فيه الصدق والدقة الفنية قد يوجد في ضروب أخرى من ضروب الكتابة كالرسالة والقصيدة. وليس من الجائز أن نحكم على الأدب العربي بما نشاهده في الأدب الفرنسي والإنجليزي، بل يجب أن نحكم عليه حسب ميول أبنائه، وحسب درجة نجاحه في التعبير عن أفكارهم وأخيلتهم وأغراضهم. ويشير الكاتب إلى أن آداب الصحافة في مصر توضح الآن كثيراً من المشاكل العلمية والروحية ومشاكل العاطفة التي تواجه المصريين، وإلى أن مراقبة الحكومة ووقوف الرجعيين بالمرصاد يحولان دون الإفاضة في توضيح تلك المشاكل. ويقول الكاتب أن هناك نقطة أخرى جديرة بالانتباه وهي أنه يجب علينا ونحن وارثو الماضي أن نستحضر ذلك الماضي ونحن نفكر في الحاضر، وأن ننظر بعين الاعتبار إلى الأساليب والطرق القديمة في الكتابة حينما نتجه نحو التجديد، فأن ذلك أجدى علينا من هذا البهرج الكاذب الذي يزيف به الأدب الحديث.

ولكن الأدب العصريفي مصر قد أثبت الآن حيويته وسار فعلا في طريق الاستقلال، وليس من الممكن أن يجدالقارئ المتوسط بغيته الآن في الأدب القديم، فإنك إذا وجهت اهتمامه مثلا إلى العقد الفريد أو إلى غيره من آثار (العصر الذهبي) فكأنك بذلك تعطيه حجراً بدل الرغيف الذي يطلبه ويصر على الحصول عليه. وإذا وقف الكتاب دون إمداده بما يطلب فأنه يتجه إلى استيراده من الخارج مهماثبت له عدم ملائمة ذلك الذي يستورده لطبيعته وحالته الاجتماعية. وقل أن يجد القارئ في المقالة أو في الموضوع الذي يعرف بالرسالة في القصيدة العادية ما يغير خياله، إذ ينقصها عنصر الخيال واللذة الحية، اللهم إ القصيدة الشعرية المتينة فقد يكون فيها ما يدخل في دائرة الميراث الخيالي للناس.

وهكذا نرى أن المسألة في جوهرها ليست مسألة تقليد ومحاكاة لأهل الغرب، فلقد أدى أتساع التعليم إلى اتجاه ميول القراء إلى نواح أخرى. ولما نشأت تلك الحالة في أوربا عمد الكتاب إلى القصة ليقابلوا بها ميول القراء، ونستطيع أن نقول إنه ما لم يتسن للكتاب المصريين إيجاد القصة فسيستمر اتجاه القراء في مصر إلى الأدب الأوربي، فإن المقالة أو الموضوع الأدبي أقل من أن يفي بالغرض الذي يسعى إليه القراء.

أما القول بأن إدخال فن من فنون الكتابة لم يكن موجوداً من قبل قد يكون فيه مساس بكرامة الشعب الأدبية فرأي مبني على التطرف والمبالغة، وهل أدى إدخال القصة في الأدب التركي أو الهندي إلى الحط من كرامتها؟ كلا. ومن أجل ذلك نرى القصة المصرية تنشب جذورها في تربة الأدب المصري في ثبات مهما صادفت من صعاب ونكران للجميل.

ولكن القصة لا تصل إلى تمام نموها، إلا إذا وافقت بيئة البلاد الاجتماعية، ومن هنا تنشأ المشكلة الرئيسية.

إذا وضعنا جانباً تلك العوامل الاجتماعية التي تكلمنا عنها فإن كتاب القصة في مصر قد وجهوا بمشكلة أخرى أشرنا إليها في مبدأ هذا البحث وهي خلق (فن اصطلاحي حديث) للقصة. ونستطيع أن نتبين في كتابات المنفلوطي وجورجي زيدان بعض المحاولات في هذا السبيل ولكن من حيث الأسلوب فقط، الأول بطريقته والثاني بسهولة عبارته، ولكن كلاهما لم يتعرض للنقطة الأساسية، وهي الوصول إلى تمثيل الحياة الاجتماعية الراهنة تمثيلا صحيحاً في الألفاظ وطريقة التعبير عما في النفس وعلى الأخص في الحوار.

على أن هذه المهمة قد وجدت من أشتغل بها من كتاب القصص القصيرة وأقدمهم في ذلك هو محمد تيمور (1829 - 1921) ويمنعنا ضيق المجال هنا من أن ندرس بالتفصيل آثار تلك الطائفة، ولذلك نكتفي بأن نشير نقطة من أهم النقط التي تعرضوا لها وهي الطريقة التي جروا عليها في أسلوب الحوار.

وهنا ينبغي أن نذكر أن مشكلة الأسلوب الواجب إتباعه في الحوار لم تكن مقصورة على الأدب العربي ولكنها ظهرت في كثير من آداب الممالك الأوربية وبخاصة في تلك الممالك التي ذهبت فيها لغة التخاطب العادية تحت تأثير الكتابات الأدبية، وتنحصر تلك المشكلة في السؤال الآتي: هل نجعل اللغة الفصحى لغة الحوار وبذلك نجعله حواراً مصطنعاً غير طبيعي؟ أم نقتصر على اللغة الفصحى في القصص والوصف، ونستعمل العامية في الحوار، وبذلك نعرض القصة للتفكك والتنافر؟

وقد سار الكتاب في القصص التي ظهرت فيما قبل على الطريقة الأولى أعني استخدام اللغة الفصحى في الحوار لا في الترجمة فحسب (وهنا تكون المسألة طبيعية) ولكن فيما ألفه كتاب القصص من السوريين أيضاً، وذلك بذكر القارئ الأوربي ما كانت عليه القصص الأوربية أثناء نشأتها من تكلف وضعف. وتعتبر زينب في نظري أول قصة استعملت إليها اللغة العامية في الحوار، ولقد ترك ذلك أثراً في القصص القصيرة الأخرى، ونخص بالذكر منها مجموعة محمود تيمور المسماة (بالشيخ جمعة) ولقد قامت بجانب ذلك فكرة أخرى وهي أن يكون الحوار بحسب درجة تعلم المتكلم، وبذلك يراوح الكاتب أن يرواح بين اللغة الفصحى واللغة العامية هبوطاً أو صعوداً، وإذا استعمل الفصحى على لسان شخص متعلم الأدبية العالية ينبغي أن يتحاشى العبارات، لكي يتمشى ذلك مع السهولة المطلوبة والمعتادة في الحوار (ويلاحظ أن الحوار في الطبعة الثانية للشيخ جمعة قد عدل بما يتفق مع هذا المبدأ) وبهذه الطريقة يتسنى للكتاب أن يحرصوا على المظهر الطبيعي للقصة مع تضحية قليلة في الصدق والإصابة بحيث لا يصعب على القارئ أثناء مطالعة القصة أن يحول في ذهنه عبارات الحوار المكتوبة إلى ما يعرفه من عبارات الحديث المألوفة. ونحن من جهتنا نتوقع أن نشاهد تحقيق هذه النظرية في القريب، وعلى الخصوص مع أتساع التعليم الابتدائي وبفضل مجهود الأدباء.

ويبقى علينا في هذا الصدد أن نتساءل إلى أي حد قد استطاع القصصيون الحديثون في مصر أن يعبروا عن مشاكل شعبهم وحاجته وأطماعه. يمكننا أن نستنتج من البحث المتقدم أن عدد القصص التي يظهر فيها ذلك قليل جداإذا اقتصرنا على الآثار التي لها قيمة أدبية حقيقية. '

يعتبر نقولا حداد، صاحب جريدة السيدات والرجال التي نشرت فيه معظم مباحثه، أوفر القصصيين العصريين إنتاجا وهو في نظر محمود تيمور أبعدهم شهرة أيضا. وعلى الرغم من أن الرجل سوري الأصل فإن لبحثهوأسلوبه صبغة مصرية اكثر مما لسواه من الكتاب السوريين، ونستطيع أن نحكم من روايته التاريخية (فرعونة العرب) أن لديه مقدرة على اجتذاب القراء إليه بما يتخلل قصته من الحركة السريعة والمواقف الرائعة. على أن خطة القصة فيها شيء من التفكك، والأشخاص تعوزهم قوة التصوير، حتى أننا نشك فيما إذا كان المؤلف قد أضاف شيئاً إلى نمو القصة المصرية من حيث الشكل أو من حيث الموضوع. وهناك قصة تاريخية أخرى تحوي الكثير من اللذة الأدبية، وتعتبر أول عمل من نوعه في الأدب المصري، تلك هي قصة (ابنة المملوك) لمؤلفها الأستاذ محمد فريد أبو حديد، وهذه القصة لا تمت بأية صلة إلى ذلك النوع من القصص التاريخية التي أخرجها زيدان، وهي من جهة أخرى تفوقها من وجوه عدة. ففي قصة ابنة المملوك قد حلت الحقيقة محل الخيال الجامح الذي تمتاز به قصص زيدان، وفضلا عن ذلك فإن تلك القصة لم تستغرقها كثرة الحوادث التاريخية، وإنما وضعت بطريقة تاريخية واضحة، وكان العصر الذي اختير لها هو فترة النزاع بين محمد علي والمماليك سنة 1805 - 1808 ولقد أتستطاع المؤلف أن يعرض الحوادث التاريخية في ثنايا القصة بحيث لا يجتذب التفات القارئ إليها قسراً. وحتى أهم الحوادث التاريخية في تلك الفترة وهي الحملة الإنجليزية التي وجهت إلى الإسكندرية وهزيمتها في رشيد عام 1807، لم يشر إليها المؤلف إلا إشارة وجيزة في سطرين أو ثلاثة مع أن بطل القصة وهو فتى عربي فار من وجه الوهابيين قد صوره المؤلف على أنه قام بنصيب في تلك الحرب، ومع أن القصة لم تنجح تماماً في تجنب الجفاء الذي تمتاز به القصص التاريخية نجد على الرغم من ذلك حياة وحركة في تصوير الأشخاص. وهي فضلا عن ذلك تسترعي انتباه القارئ من فاتحتها حتى خاتمتها التي جاءت في شكل مأساة.

تأتي بعد ذلك تلك القصة التي نشرت حديثاً، وتعتبر من جميع الوجوه أهم قصة صدرت بعد زينب. وهي القصة التي طال انتظارنا إياها من المازني. وقد نشرت عام 1930 تحت عنوان إبراهيم الكاتب. ويقول المؤلف في مقدمة القصة إن جزءاً منها كتب في عام 1925 وإنها تمت في عام 1926 ثم تركت بعد ذلك جانباً، وإن جزءاً من نصفها الأخير قد كتب بسرعة أثناء الطبع نظراً لفقد بعض الأصول وقد يساعدنا ذلك على تفسير الاضطراب الذي سنشير إليه أثناء الكلام عنها. وقد جاء في المقدمة أيضاً بحث شيق للمشاكلالتي تكلمنا عنها. أما فيما يختص بأسلوب الحوار فإن المازني يرفض الكلام العامي لخلوه من دقة التعبير وعدم ثباته، في حين إن العبارات الفصيحة آخذةً في التقدم والتهذيب يوماً بعد يوم. ويعارض المازني أيضاً في مقدمته هيكل بيك فيما يراه من أن العوامل الاجتماعية في مصر تحول دون خلق القصة المصرية. فإن القائلين بهذا الرأي يفترضون خطأ أن القصة الغربية هي النموذج الوحيد للفن القصصي. ولكن لم لا يكون هناك قصة مصرية قائمة بذاتها تميزها مميزات خاصة؟ ويرى المازني أن الحياة الاجتماعية في مصر لا تقوم عقبة في وجه أي كاتب بارع الخيال. ويقول إننا إذا سلمنا بأن وجهة المصريين وأفكارهم فيما يتعلق بالحب، تختلف عن وجه الأوربيين في ذلك، فلا يتحتم أن يكون ذلك عقبة كأداء في سبيل القصة المصرية. ولم تكون عاطفة الحب ذاتها هي المحور الأصلي الذي تدور حوله القصة؟ ويضيف المازني أن ما يتخيله الكتاب من ضيق مجال القصة المصري، إنما هو (نوع من الهستيريا) لا أقل ولا أكثر.

على أن القصة نفسها لا تحقق ما ينتظره منها المرء بعد هذه المقدمة. وليس ذلك لأنها أخفقت في الخطة أو في تفصيل المواقف وتصوير الأشخاص أو غير ذلك من المسائل الفنية. كلا فإنها من هذه الوجوه أحسن قصة في الأدب العربي على ما أعلم، ويتجلى في هذه القصة تلك الروح التي ينفرد بها المازني من جميع معاصريه أعني تلك الرقة هاتيك الروح الفكاهية التهكمية التي تظهر في كتاباته. ويسير القصص فيها سيراً حثيثا وفي سهولة كما أن الحوار سهل طبيعي وقد جاءت الانتقادات الاجتماعية والتحليلات النفسية (التي قصد إليها المؤلف بطريقة مضمرة في ثنايا الكلام) أكثر منها صريحة واضحة. ولكنها على الرغم من ذلك (فيما عدا أشخاصها وأوضاعها) ليست قصة مصرية بالمعنى الذي يفترضه المازني نفسه، وأكبر دليل على ذلك إن بطل القصة عبارة عن شخصية غريبة لا تكاد تنطبق إلا على القليلين من المصريين، وربما كان الناشر مصيباً في أن اتفاق الاسم بين المؤلف وبطل القصة لم يكن أمراً خيالياً محضاً. والقصة ذاتها غربية في المشاعر والمثل كما هي كذلك في المسحة الأدبية وفي الموضوع الذي تدور حوله. ودراسة عاطفة الحب قائمة على أساس غربي لا شرقي وحتى المظاهر الخارجية ذاتها من حيث الشكل والأسلوب تنطق بهذا الطابع الغربي، ومن أمثلة ذلك كثرة استعمال المجازاتوالجمل الغربية. وأغرب من ذلك كله جرى المؤلف على طريقة اقتباس فقرات من الإنجيل في رأس كل فصل من فصوله. ويوجد فرق محسوس في اللهجة والموضوع بين نصف القصة الأول ونصفها الثاني. أما الأول فأنه يسير في دائرة الحياة الاجتماعية المصرية ولا يمكن أن يصور ما فيه من فكاهة وعطف إلا قلم كاتب مصري. أما النصف الثاني فيستبين فيه جو آخر وتتغير فيه اللهجة الأولى تدريجياً كما لو كان أسلوب المؤلف قد تأثر بما انتاب بطل القصة في هذا النصف.

ونحن دون أن ننكر على المؤلف إصابته في الخيال، نقرر أن (إبراهيم الكاتب) (كزينب) واضحة الصلة بالرواية الغربية، ولكن ما حوته زينب من العواطف لا يروق في عين المازني الذي تتجه ميوله إلى جهة أقوى، والذي يهتم بتمثيل الحقيقة. وفي هذه الحالة نقول إن تداعي الأفكار الأدبية التي يمتاز بها فكر المازني قد صرف ذهنه إلى رواية (سانين) فأوجد صلة بين رواية المازني أو على الأقل بين جزء منها في تصوراتها وبين هذه الرواية الروسية التي ترجمها المازني تحت عنوان (ابن الطبيعة). نعم إن رواية إبراهيم الكاتب تختلف كل الاختلاف في الخطة وفي طريقة الاتساع عن قصة (سانين) ولكن شخصية إبراهيم قد استعادت بعض الشيء من شخصية سانين. وفي رواية المازني منظر يعتبرترجمة حرفية لخاتمة القصة الروسية.

ومما تقدم نرى أنالقصة المصرية كما يتجلى في كتابة كاتبين من أكبر كتابها، لا تزال دون المثل الذي رسمه لها الكتاب. ولا تصل القصة المصرية إلى كمالها، إلا بالجمع بين المقدرة الفنية التي يمتاز بها كتاب الغرب وبين الإلهام المصري. وإلى أن يصل الكتاب إلى ذلك سيظل معظم القراء المصريين مقبلين على آداب غيرهم، ولن يقف تيار الأدب الأوروبي إلا إذا تسنى للمصريين أن يخلقوا فناً جديداً من فنون الكتابة بواسطته تظهر القصة المصرية في معناها الحقيقي.

ترجمها عن الإنجليزية للرسالة: محمود الخفيف
 
أعلى