مصطفى عبدالله - أحمد كفافي.. غرد منفرداً.. خصوصيةالكتابة في مجموعته القصصية «نمولة حائرة»

أحمد كفافي كاتب يغرد وحده، بدأ ينشر أعمالة الأدبية عام (1993م)، بكتاب عنوانه (دعوة للموت)، وفي عام (1995م)، أصدر رواية (بين بين)، وفي (1997م)، أصدر (عانس مودرن ستايل)، وعام (2003م)، نشر (نمولة حائرة)، وفي (2010م)، كتب (حبيبي أون لاين)، وفي (2013م)، أصدر (الشحاتة في صيف يناير)، وفي (2019م)، قام بإعادة طبع روايته (بين بين) لكي يثبتها في غير الزمن الذي كُتبت فيه، وهو يقول إنه بعد أكثر من عشرين عاماً يصدر الطبعة الثانية منها، ويعترف بأن وقعها يختلف عن الروايات التي تصدر بعد الألفية الثالثة، إلا أنها تبقى ذكرى رومانسية من عهد ولَّى، وكأنه يريد أن يسجل قطعة من تاريخه، أو من تاريخ الكتابة، أو تاريخ إبداعه الفني، وهو يدرك أن هذه الرواية باتت خارج العصر الذي يصدرها فيه. وعلى أي حال، هذه وجهة نظر المؤلف، ولا شك في أن للقارئ رأياً آخر.

وسأتوقف في هذا المقال عند مجموعته القصصية (نمولة حائرة) التي صدرت ترجمتها الإنجليزية عن دار الحضارة العربية بالقاهرة.. وأزعم أنها نوع خاص من الكتابة الفنية التي يمزج فيها (كفافي) فكرة الصراع الإنساني مع كائنات غير بشرية، من خلال الولوج إلى عالم الحشرات العجيب.

وهو نوع من الكتابة ربما يثير مُخيلة القارئ. كما أنه يعطي المؤلف مساحة للانطلاق في التصور والتخيل بعيداً عن قيود التصوير الواقعي.

ومن العنوان يمكننا إدراك أنه يقصد بـ(نمولة) هذه النملة التي تنتمي إلى مملكة بالغة الدقة في تنظيمها. والكاتب يشير إلى هذه القصة بشكل عابر، ليؤكد فكرة أن العصر الذي يعيش فيه النمل في يومنا هذا وأبطاله: (نُميل، وبؤبؤة، ونامل)، يختلف عن عصر سليمان الحكيم في أن البشر لا يفهمون فيه لغة النمل، وبالتالي فالنمل عرضة دائماً لخطر الإبادة تحت أقدام هؤلاء البشر.. وهذه هي فكرة الصراع بين القوي والضعيف.

ولكن، وعلى طريقة (أفلام الكرتون الأمريكية)، فليس من الضروري أن ينتصر القوي دائماً، فكما شاهدنا في حلقات (توم وجيري) أن الفأر (جيري) هو المنتصر لأنه هو الذي يمتلك القدرة على إزعاج (توم).. القط الأضخم منه حجماً، فهل (النمل) أيضاً بمقدوره أن يزعج الإنسان؟

هذه هي الفكرة الأولى التي يمكن أن نخلص إليها من هذا العمل الفني.

أما الفكرة الثانية، فهي الصراع بين أبناء الجنس الواحد من أجل التفوق؛ فهناك النملة، التي تنجح في الحصول على فريسة تؤمن الغذاء لمملكتها زمناً خلال البيات الشتوي، بينما تموت (خنفوسة) لتصبح وليمة تحملها النملة إلى حيث البوابة الرئيسية لهذه المملكة، التي أعطاها المؤلف اسم (نُميل).

ويوضح المؤلف حجم المعاناة، التي تتحملها هذه النملة الدقيقة وهي تحمل فريستها الضخمة فوقها وتتحرك بها إلى حيث مملكتها، مما يوصلها إلى البوابة وهي في قمة الإعياء، ولذلك فهي ما إن تصل بـ(خنفوسة) إلى وجهتها حتى تجد من يهم لمشاركتها في نيل شرف الظفر بهذه الغنيمة، لا سيما وأن (نمولة) وصلت مجهدة ولا تقوى على فعل أكثر مما أنجزته، بينما هناك (بؤبؤة) التي تنتظر أيضاً كي تنال نصيباً من هذه الغنيمة.

إذاً، فقد أوجد (كفافي) حالة تنافس بين هاتين النملتين على الحظوة لدى ملكة النمل؛ وفي هذه الأثناء تفاجأ النملتان بخطر خارجي يهددهما، يتمثل في قدمي إنسان.

وهنا ينجح المؤلف في رسم صورة، فيها قدر كبير من المبالغة لهذا الحذاء البشري، فيصور كعبه وكأنه جبل يتسلقه النمل بصعوبة، وقدمه وكأنها صخرة.

وهنا يوجد شيء من المفارقة النسبية، بين حجم النمل وحجم القدم البشرية، لكي يصل بنا إلى المواجهة الحاسمة بين الظفر بالغنيمة، والعودة بخفي حنين!

ويوضح «كفافي» بعد ذلك أن هذه الغنيمة ما هي إلا كِسرة خبز، إلا أنها تمثل للمملكة مخزوناً استراتيجياً يجب الاقتتال من أجله؛ فسرعان ما تتحول المنافسة بين النملتين إلى غيرة، ثم تنقلب إلى عداء، ثم كراهية، فحرب.

ويحاول المؤلف أن يخلق شيئاً من التشويق في أحداث قصته، عندما يصور وطأة نزول هذه القدم العملاقة فوق جسد النملة الضعيفة التي تكاد (تُفعص)، ولكنها تنجح في أن تُسقط اللقمة من هذا الإنسان بعد أن تلدغه، فيفزع ويفقد السيطرة على نفسه، لتبدأ عملية الهرب من فخ هذا العملاق البشري، بما حملته النملة من غنيمة، وإذا بالنملتين المتنافستين تقتتلان، حتى ينتهي الأمر بأن تذهب كل منهما ضحية طموحها، وذلك بأن تأتي النملة الأقوى وتلدغ الأضعف، فتتسبب في قتلها لتنفرد وحدها بالغنيمة، لكنها حينما تبدأ في تحريك الغنيمة نحو وجهتها، تعجز لأنها أضعف من أن تحمل هذه المسؤولية، وبالتالي ينتهي صراع النملتين بقتل (نمولة)، وعجز (بؤبؤة) عن الاستمرار نحو هدفها، فتسقط في حالة هذيان لتنتهي القصة، وهي في الواقع تعبير رمزي عن أحوال البشر، وما يتعرضون له من جرَّاء الطموح الزائد على الحد، والسقوط في براثن الأنانية، لتصبح النهاية دائماً الخسران المبين للجميع.

هذا من ناحية الموضوع، أما من ناحية الشكل الفني والبناء، فالكاتب يحسن استخدام أدواته الفنية، ويمتلك لغة أدبية، وقدرة على القص تمكنه من المضي في هذا الاتجاه الفانتازي، الذي برع فيه.

وتبقى ملاحظة، وهي أنه اعتاد، أن يتناول أفكاراً بعيدة عن التقليدية، أو غير مألوفة في كثير مما نصادفه من إبداعات قصصية.

وهو يشير إلى ذلك بقوله: (نمولة حائرة) قصة صراع بين نملتين، ولك، ياعزيزي القارئ، أن تحذف كلمة (نملتين)، لتضع بدلاً منها أي شيء، لتتأكد أن الصراع ذاته سيكون محتدماً بين القطبين البديلين.

وهكذا يمضي أحمد كفافي، في قصة أخرى مع محنة الميكانيكي، الذي يواجه شبح سترة الأطفال حتى بعد أن أصبح أحد رجال الأعمال، وفي المرار الذي تجرَّعته (فضلة)، و(أمين) بعد أن تبينت لهما حقيقة أقرب الناس إليهما؛ الحاج وهدان والحاجة وهيبة، اللذين فقدا بعد غرق سفينة الحجاج، وهذه قصة عن حادثة شهيرة حدثت لعبَّارة في البحر الأحمر، وهي من الموضوعات الكارثية.

ويخلص قارئ مجموعة أحمد كفافي إلى أن النوع البشري لا يفوق في قليل أو كثير حفنة من النمل، بما ينطوي عليه عالم تلك الزاحفات الصغيرات من ذكاء ونظام وطموح لا يعرف حداً له، ذلك الطموح الذي قد يقود في النهاية إلى الفوضى والهلاك! وفي الحقيقة إن الأدب على امتداد التاريخ، اهتم بمعالجة قضية الصراع بين الإنسان والطبيعة؛ ولهذا فما إن ينتهي طرف من أطراف الصراع، حتى يولد طرف جديد لتبدأ من جديد فكرة الصراع، وليستمر مبرر وجود الإنسان وفعله في الحياة.

وأظن أننا في هذه الكارثة الكونية التي تمر بها البشرية الآن، بسبب اجتياح فيروس كورونا المستجد، نتعرض لأحقر ميكروب فيروسي مجهول لئيم، ننتظر ما سيحدث للبشرية على هذه الأرض، بعد أن نخرج من هذه المحنة في صورة ما من الصور.


الكاتب : مصطفى عبدالله
العدد الرابع والأربعون
Jun, 01 2020



1667564624947.png


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى