يبات علي فايد - مع بشار بن برد، والوليد بن يزيد، في الغزل العفيف

قيل أن الوليد بن يزيد أنشد قول بشّار من الخفيف:
أيَّها السَّاقيان صبّا شرابي
واسقياني من ريقِ بيضاء رودِ
إنّ دائي الظما وإنّ دوائي
شربةٌ من رضابِ ثغرٍ بَرودِ
ولها مضحك كثغر الأقاحي
وحديث كالوشي وشيِ البرودِ
نزلت في السواد من حبّة القل‍
ب ونالت زيادة المستزيدِ
ثم قالت نلقاك بعد ليال
والليالي يبلين كلّ جديدِ
عندها الصبر عن لقائي وعندي
زفراتٌ يأكلنَ قلبَ الحديدِ
قال؛ فطرب الوليد وقال: من لي بمزاج كاسي هذه من ريق سلمى فيروي ظمئي، ويطفئ حرقي! ثم بكى حتى مزج كأسه بدمعه، وقال: إن فاتنا ذاك فهذا".
يعني إن فاتتنا الكأس ممزوجة بريقها فلا تفوتنا الكأس ممزوجة بالدموع.
بنا نستريح قليلا مع هذا الجمال أحبتي.
في هذه الأبيات، ينادي الشاعر، ساقيي الخمر، ويطلب منهما أن يصبَّا شرابه الخاص، ويحدده في عجز البيت الأول بأنه ريق بيضاء رود.
ولعل البياض لون البشرة، أما رود، فهو الغصن الذي نبت من سنته أرطب ما يكون وأرخصه، وتوصف به الأنثى تأودا لينا واهتزازا.
أيَّها السَّاقيان صبّا شرابي
واسقياني من ريقِ بيضاء رودِ
ثم يخبرهما، ويخبرنا جميعا، أن داءه هو الظمأ، أي العطش، وإن دواءه شربة من رضاب ثغر، أي فم برود.
إنّ دائي الظما وإنّ دوائي
شربةٌ من رضابِ ثغرٍ بَرودِ
والرضاب: رغوة العسل، وبه يشبه ريق الحبيبة، أقول: وإنه لكذلك.
وبرود: من البرودة، أي أن هذا الرضاب بارد، وبالتأكيد، يفضل الماء ههنا خاصةً باردا، ولا تسلني عنه في مواضع أخر.
ثم يصف ثغرها بمضحك، فهو يأتي به أداة ضحك، وهذا جميل، ولعل ذلك لتعلق صورتها بقلبه ضاحكة، ولا يخفى علينا أن بشار بن برد أعمى، وسمعه دليله، ويوصف الثغر أيضا بالمبسم، أي موضع الابتسام وأداته. لكن ولأن بشارا لا يرى، فمضحك بحقه أجمل. ثم يصف مضحكها هذا بأنه يشبه ثغر الأقاحي، وهو: نبت طيب الريح، وزهره أبيض حسن، يصف أسنانها بالبياض ههنا، والأقاحي جمع، مفرده أقحوان ،
وأقحوانة ، قال مجنون ليلى:
بربك هل ضممت إليك ليل
قبيل الصبح أو قبَّلت فاها
وهل رفَّت عليكَ قرون ليلى
رفيف الأقحوانة في نداها
كأنَّ قرنفلاً، وسحيق مسكٍ
وصوب الغاديات شملن فاها
أما حديثها فيصفه، بالوشي، وهو زخرفة الملابس، والبرود ثياب يمانية، وهو هنا لا يصف حديثها بالثياب اليمانية الرقيقة تلك، وإنما بالوشي الذي فيها، دقة وجمالا، ورقة، ونمنمة.
ولها مضحك كثغر الأقاحي
وحديث كالوشي وشيِ البرودِ
ثم يصف تمكنها من قلبه بقوله:
نزلت في السواد من حبّة القل‍
ب ونالت زيادة المستزيدِ
أي أنها كلما طلبت زيادة من تمكن من قلبه نالته.
ثم ها هي تعده باللقاء:
ثم قالت نلقاك بعد ليالٍ
والليالي يبلين كلّ جديدِ
ويعني أن الليالي مستهلكات للمرءِ، وأنه سيبلى في انتظار الليالي تينك.
ثم يختم ختاما جميلا جميلا، ها هو يقول في أسىً، أسى المحب الذي لا يبالي به من أحبَّه:
عندها الصبر عن لقائي وعندي
زفراتٌ يأكلنَ قلبَ الحديدِ
يا لصبرها، ويا لزفراته التي أكلت قلب الحديد!
هذا، وبشار هو القائل:
ألا يا طَيْبُ قد طِبْتِ
وما طيَّبكِ الطِّيبُ
ولكنْ نَفَسٌ منكِ
إذا ضمَّكِ تقريبُ
وثغرٌ باردٌ عذبٌ
جرى فيه الأعاجيبُ
ووجه يشبه البدرَ
عليه التاج معصوبُ
ونلاحظ ههنا، اتخاذه لأوصاف محسوسة، غير مرئية، باستثناء الوجه الذي يشبه البدر.
فهو يقول بطيب صاحبته طَيْب، كما يتحدث عن نَفَسِها، وبرودة ثغرها، وعذوبته، ويعني الماء، ثم يأتي بالريق قائلا: جرى فيه الأعاجيب. ولعله يعني أن خلقته عجيبة، وما فعله فيه الرب خلقةً شأن عجيب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى