أحمد أمين - النقد والتقريظ

أصل كلمة النقد من نقد الدراهم وهو امتحانها ومعرفة الجيد والرديء منها، فهي بهذا المعنى لا تقتصر على ذكر العيوب والتشهير بها، بل تدل على استعراض الشيء والوقوف على محاسنه ومساويه.

وقد تستعمل في معنى الذم والعيب خاصة، ومنه حديث أبي الدرداء: (أن نقدت الناس نقدوك، وأن تركتهم تركوك) فاستعمل الكلمة بمعنى العيب والذم.

وهي بهذا المعنى ضد التقريظ، فالتقريظ مدح الشيء والثناء عليه، مأخوذ من قرظ الجلد دبغه بالقرظ، وقرظه بالغ في دباغه. وسموا المدح تقريظاً (لأن المقرظ يحسن ويزين صاحبه كما يحسن القارظ الأديم) وبهذا المعنى يستعملها الكتاب المحدثون فيعنون بالنقد ذكر المساوئ وبالتقريظ ذكر المحاسن.

ولست أعرض في مقالي هذا للكلمتين من الناحية الأدبية، فلا أعرض لمذاهب النقد الأدبي ومقاييسه، كما لا أعرض لأساليب التقريظ وألوانها، وإنما أعرض لظاهرة نفسية تلفت النظر: هي أن الناس على اختلاف درجاتهم في البداوة والحضارة، والرقي والانحطاط، مولعون بالنقد أكثر من ولوعهم بالتقريظ، ومولعون بالبحث عن العيوب وإظهارها والمبالغة في تصويرها اكثر من ولوعهم بالبحث عن المحاسن وإظهارها وتصويرها، وهم في ذلك بين اثنين: أما ممثل على المسرح يمثل دور الباحث عن العيوب المتجسس على السقطات، يستبشر كلما عثر على خفايا الزلات، ويقيس نجاحه بمقدار ما كشف من أخطاء، وأما مشاهد لهذا المنظر، أكثر ما يهتم له العيب الفاضح والسقطة الشنيعة، يطيل التصفيق لكاشف الزلل ويمنح الإعجاب من أصاب من آخر مقتلا.

ومظاهر ذلك في الحياة كثيرة، فلا تكاد تجد عظيما بأجماع، ولكنك كثيرا ما تجد أصاغر بإجماع، لأن النفوس ترتاح لمنظر الحقير إذ خرج من ميدان المنافسة، ونزل عن مستوى المقارنة، ويضنيها العظيم فتتلمس وجوه النقص فيه، وتخلقها إن لم تكن، وتبالغ فيها إن كانت، لأن العظيم يكلفها العناء في إدراك شأوه وبلوغ منزلته.

ومن مظاهر ذلك أن مجلات عديدة في العالم كله تعيش على النقد، وليس (فيما أعلم) مجلات تعيش على التقريظ، وقد أدركت هذه المجلات إدراكا صحيحاً هذه الظاهرة النفسية، ورأت أن رواجها يكون أتم كلما ارتفعت نغمة هجوها، وكلما كان نقدها أقذع، وسهامها أنفذ، والجرائد في العالم تبذل المدح بالحبة، والنقد بالقنطار، ومن آية ذلك أن الناس في كل أمة يقدرون (غالباً) جرائد المعارضة أكثر من قدرهم جرائد التأييد، فإذا تغيرت الحكومات وأصبحت جرائد المعارضة بالأمس جرائد تأييد اليوم، نزلت قيمتها من ناحية أنها لم تعد تروي رغبات الناس وشهواتهم.

ثم، مالنقد الأدبي؟ أليس هو الغالب إرضاء لعاطفة البحث عن الغلط والتشهير به؟ إذا مدح النقاد فبحذر وقدر أكثر مدحهم (طعم) يستدرجون به القراء لإقناعهم بأنهم عدول في تقديرهم، منزهون في ذمهم ومدحهم، حتى إذا اطمأن لهم القارئ بالغوا في النقد وأسرفوا في اللوم، واكثر الناشئين من الأدباء يتطلبون الشهرة من طريق مهاجمة النابغين والتعرض لهم، والتسميع بهم، حتى إذا تصدوا للرد عليهم رفعوا من شأنهم إذ جعلوهم في منزلتهم، وقديماً حكى لنا (بشار بن برد) أنه (وهو ناشئ) هجا جريراً فأعرض عنه واستصغره، ولو أجابه لكان كما يقول أشعر الناس. قد يكره الناس الناقد الجريء، ولكنهم يهابونه ويلتفتون إليه ويشجعونه على أن يبني نفسه من أنقاض ما هدم من غيره.

ومن اكبر مظاهر هذه الظاهرة ارتياح الناس للهازئين الساخرين، وما يصدر منهم من هزؤ وسخرية، على شرط ألا يكونوا هم موضع الهزؤ والسخرية، فأوسع أبواب الظرف والكياسة، وأشد ما يستخرج الضحك والإمعان فيه ما لذع به الناس في أعراضهم وأخلاقهم وملكاتهم، والذي يعدّه الناس لطيف الروح خفيف الظل، بارع الظرف، هو من يومئ الإيماءة الفاتكة ويرشح لسانه باللفظ يقتل به البريء الغافل، ويضحك به اللاهي الماجن.

وقد تقام حفلات التكريم للإشادة بصفات عظيم، أو التنويه بما قام به من عمل جليل، ولكن أكثرها حفلات تأبين، تقام بعد أن اختفى المحتفل به عن المسرح وغاب عن الآنظار، أو بعد أن أعجزته السن وخرج من ميدان العمل والمنافسة، أو هي حفلات تجارية أقيمت لمنفعة المحتفلين لا المحتفل بهم. الحق أن هذه العاطفة، عاطفة البحث عن الخطأ وإذاعته والولوع بالنقد أكثر من الولوع بالتقريظ عاطفة تشارك الإنسان في جميع أدواره.

وتعليلها (على ما يظهر) يرجع إلى غريزة الأثرة وحب النفس، كأن الإنسان يرى أن القول بعيوب الناس يتضمن القول بتفوقه، والتشهير بأغلاطهم إقرار سلبي بنبوغه، والعمل على تحقيرهم قد ينتج مع الزمن انفراده بالعظمة، والسخرية منهم تستتبع الاعتراف بجلاله وحده.

ولكن المدنية والحضارة، والرقي العقلي والخلقي، تهذب من هذه العاطفة، كما تهذب من سائر العواطف، فالناقد المهذب يكتفي بالتلميح دون التصريح، وبالإشارة دون التجريح، يقول ما في نفسه ولكن يتخير الألفاظ ويتخير المواقف، ويترفع عن ألفاظ الغوغاء وأساليبهم، والمقارنة بين الجرائد والمجلات وأساليب النقد في الأمم المختلفة تؤيد هذا كل التأييد.

ولو سار الأمر على المعقول لخف كثير مما يصدر من لوم ونقد، لأن أساس اللوم إمكان المسئولية، فإذا لم تكن فلا لوم، فلسنا نلوم المرضى إن لم يأتوا بأعمال الاصحاء، ولا نلوم البدوي كما نلوم الحضري، ولا نلوم الجاهل بما نلوم به العالم، ولا نلوم الطفل في المدارس الابتدائية إذا لم يحل معادلة جبرية أو نظرية هندسية.

إنما نلوم الإنسان عندما يكون في الإمكان أن يفعل خيرا مما كان، ولو قدر اللائمون تقديرا حقا ما يحيط بالملوم من حالة عقلية وجسمية وبيئة اجتماعية ومن عوامل حفية معقدة يصدر عنها العمل لخففوا من غلوائهم، ولطفوا من لومهم، ولعلموا أن استحقاق اللوم نسبي يرتبط بالسن وبدرجة الثقافة والمدنية وحالة الفرد في أمته وموقف أمته في العالم.

ولو سار الناقد على المعقول، لوقف موقف المصلح لا موقف الجاسوس، إن الجاسوس يهمه أن يرى الخطأ ليبرهن على كفايته، ويسره أن يرى العيب ليقبض على فاعله، وكلما أوغل في استكشاف العيب الدفين، وتعمق في إظهار جريمة مستورة، كان أدل على قدرته ونبوغه، ويأسف إن لم يكن عيب. كأنه يشعر شعوراً باطنياً أنه إرهاص بأن لا حاجة إليه، والمصلح يستكشف العيب لا ليشهر به، ولكن ليعالجه، وأقصى أمانيه ألا يكون عيب، وإذا كان فأن يداوى، ويعتقد أن مهمته تتم، مع السرور، يوم يزول المرض ويتلاشى النقص، وأنه بنقده ولومه إنما يصف دواء يستأصل الداء، ويأتي عليه.

أسوأ ما نرى أن يكون الناقد كالفرس الجموح ينال من الناس بهوجه وخبطه، أو أن يقف في نقده موقف الغر يداعب بالنار، أو الطفل يلعب بالسكين.



مجلة الرسالة - العدد 20
بتاريخ: 01 - 11 - 1933

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى