د. أحمد الحطاب - هل بإمكاننا، في ظلِّ التَّحوُّلات التي تحدثُ في العالم، الاستمرارُ في الحديثِ عن الحضارة؟

إنه سؤالٌ طويلٌ وعريضٌ يستحقُّ الطَّرحَ في زمانٍ يجد فيه الناسُ، سواءً عندنا أو عند غيرنا، أنفسَهم في حيرةٍ من أمرهم من جراء ما يشاهدونه حولهم من تغييرات و تحوُّلاتٍ، إن لم نقل انقلاباتٍ فكرية، اجتماعية، اقتصادية، علمية، تكنولوجية… و ما يثيرُ الانتباهَ، هو أن هذه التَّحوُّلات تتمَّ أحيانا بسرعة لا تُوفِّر لمَن يشاهدونها الوقتَ الكافي لاستيعابها والتَّأقلّم معها، أو بعبارةٍ أخرى، لدمجها في الإدراك والسلوك الجماعيين. فما أن نُباغثَ بتحوُّلٍ كبير إلا ويتبعُه تحوُّلٌ آخر، بدون سابق إنذار، أكبر منه قد يُزعزع ما تعوَّد عليه الناس في حياتهم اليومية.
وعندما نتحذَّثُ عن انقلاباتٍ فكرية واجتماعية، فهذا يعني أن هذه التَّحوُّلات قد تُحدِثُ، إن عاجلاً أو آجلاً، تغييراً في الثقافات وفي العادات والأعراف والقيم التي هي أساس التَّساكن والتَّعايش الجماعيين. وعندما أقول إن الناسَ يجدون أنفسَهم في حيرة، فإن الأمرَ يتعلَّق، في نظري، بتساؤلات مشروعة. من بين هذه التَّساؤلات، أخصُّ بالذكر، 1.هل هذه التَّحوُّلات نابعة من إرادة مُفكَّرٍ فيها مسبقا للانتقال من مستوى حضاري إلى مستوى حضاري آخر أكثر إنسانية وأكثر نفعاً للمجتمعات البشرية أم هي فقط تحوُّلاتٌ المقصود منها هيمنةُ مَن هم وراء إحداثِها على العالم؟ أو بعبارة أخرى، 2.هل بإمكاننا، في ظلِّ التَّحوُّلات التي تحدثُ في العالم، الاستمرارُ في الحديثِ عن الحضارة؟
للإجابة عن هذين التَّستاؤلين، لا بدَّ، في أول مرحلة، من توضيح ما هو المقصودٌ من مفهوم "حضارة". والمقصود من هذا المفهوم يمكن تلخيصُه فيما يحصل من ازدهار ورُقيٍّ في جميع المجالات التي يتأسَّس عليها وجودُ وحياةُ وتعايشُ وتعامل ومعاملات المجتمعات. وعندما نتحدَّثُ عن الازدهار والرُّقِيِّ، فالأمرُ يتعلَّقُ بالتَّطوُّر والتَّقدُّم اللذان يحصلان، بكيفية مسترسلة، في جميع المجالات، أو بعبارة أخرى، بالانتقال من وضعٍ اجتماعي حسن إلى وضع أحسن منه تطوُّراً وتقدُّماً. وعندما نبحثُ عن مرادفات "حضارة"، نجد، من بينها، كلمةَ "تمدُّن"، والتَّمدُّنُ هو الانتقال من حياة البداوة إلى حياة التَّحضُّر. وعندما نبحثُ عن مضادات "حضارة"، نجد، على سبيل المثال، بداوة، انحطاط، همجية، تخلُّف، تقهقر، جاهلية… وهذا يعني أن الحضارات قد تبلغ أعلى وأرقى الدرجات في الازدهار والتَّطوُّر. لكنها، في نفس الوقت، معرَّضةٌ للانحطاط والتَّقهقر. فكم هي عديدة الحضارات التي بلغت قمَّةَ القمم وفي نهاية المطاف، انهارت وأصبحب في خبر كان.
و ما ستتناوله هذه المقالة هو الحضارةُ من زاوية الازدهار والرقيٍّ. والحضارةُ، كما سبق الذكرُ، هي كل ما يحصل من ازدهار ورقيٍّ على مستوى قبيلة أو جماعة من البشر أو على مستوى مجتمع أو بلاد أو على مستوى مجموعة بلدان أو على مستوى قارة بأكملها. والازدهارَ والرُّقيَّ يمكن أن يكونا فكريين، وفي نفس الوقت، يمكن أن يكونَا ماديين. فإذا كان الازدهارُ فكريا، فإنه مرادف للنهوض بالثقافة بجميع تجلياتِها من أدبٍ وفنون. وإذا كان ماديا، فإنه مرادفٌ للعُمران، أي لتشييدِ المُنشآت البشرية. و المُنشآت البشرية هي كل ما يُنشِئه الإنسانُ، في نِطاق العُمران، من مدنٍ وقُرى وطرق وصناعة وفلاحة ومؤسسات اجتماعية وثقافية واقتصادية وتجارية و وسائل نقل…
غير أن ما تجذر الإشارةُ إليه هو أن جلَّ الحضارات القديمة كانت مشهورة ومعروفة من خلال مثقفيها ومُفكِّريها وفلاسفتها وأُدبائها وكُتَّابها وعلمائها وفنانيها ومآثرها… كما هو الشأن مثلا للحضارة اليونانية التي كانت معروفة من خلال أفلاطون وسقراط وأريسطو وهراكليت… أو الحضارة الرومانية من خلال Lucrèce و Cicéron و Sénèque… والحضارة الإسلامية من خلال ابن رشد و ابن سينا و الحسن بن الهيتم و ابن النفيس و عباس بن فرناس و ابن طفيل و البيروني… ولا يزال هذا الأمرُ قائما إلى يومنا هذا بالنسبة للعديد من البلدان التي تستمد إشعاعَها، بصفة عامة، من خلال ما وصلت إليه ثقافاتُها (فنون تقليدية، طبخ، أدب، مسرح، موسيقى، سنيما، رقص، لباس، تشكيل، رسم، نقش، هندسة معمارية، تراث، متاحف…) الرفيعة المستوى شكلا ومضمونا. وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن المفكرين والمثقفين والأدباء الفرنسيين… الذين عاشوا في أواخر القرن الثامن عشر، ساهموا، بقسط وفير، في إنجاح الثورة الفرنسية التي اندلعت سنة 1789.
بعد هذا التَّوضيح المقتضب لمفهوم "الحضارة"، سأعود للتَّساؤلين المشار إليهما أعلاه، أي : 1.هل هذه التَّحوُّلات نابعة من إرادة مُفكَّرٍ فيها مسبقا للانتقال من مستوى حضاري إلى مستوى حضاري آخر أكثر إنسانية وأكثر نفعاً للمجتمعات البشرية أم هي فقط تحوُّلاتٌ المقصود منها هيمنةُ مَن هم وراء إحداثِها على العالم؟ أو 2.هل بإمكاننا، في ظلِّ التَّحوُّلات التي تحدثُ في العالم، الاستمرارُ في الحديثِ عن الحضارة؟
في هذا الصدد، هناك ثلاثة ملاحظات أعتبِرها أساسية للإجابة عن هذين التساؤلين.
الملاحظة الأولى : جلُّ التَّحوُّلالت التي تحدثُ في العالم، مصدرُها الغربُ أو الدول الغربية، و بالأخصِّ الدول الأنݣلوساكسونية و بعض دول جنوب و شرق آسيا. لماذا؟ لأن التَّحولات مصدرُها فكر الإنسان. و فكر الإنسان يُبدِع من خلال البحث في المُختبرات الرفيعة المستوى. فما على البلدان التي ليس لها باعٌ يُذكَرُ في مجال البحث العلمي إلا قبول هذه التَّحولات و تَحَمُّلَها إن هي أرادت أن تستفيدَ، كمستهلكة، من الركبَ العلمي، التِّكنولوجي، الاقتصادي… و هذا هو ما أدى إلى تصنيف البلدان إلى "بلدان نامية أو سائرة في طريق النمو" و "بلدان متقدمة أو صناعية أو غنية" أو إلى "بلدان الشمال" و "بلدان الجنوب" أو "بلدان فقيرة". و هذا يعني أن نقطةَ ارتكاز العالم centre de gravité du monde لا توجد لا في إفريقيا و لا في العالم العربي/الإسلامي و لا في جل أقطار أمريكا الجنوبية و لا في جزءٍ كبيرٍ من القارة الأسيوية. نقطة ارتكاز العالم توجد في البلدان المهيمنة على العلم و التِّكنولوجيا و الاقتصاد.
الملاحظة الثانية : جل التَّحوُّلات التي تحدثُ في العالم تكتسي طابعا علميا و تكنولوجيا و تقترن بأهداف سياسية و اقتصادية. سياسية لأنها تدخل في نطاق تموقعٍ جيواستراتيجي و جيوسياسي. اقتصادية لأنها تدخل في نِطاق الهيمنة على الأسواق الدولية. و هذا يعني أن البلدانَ التي لا تُنتِج العلمَ و الـتِّكنولوجيا، ما عليها إلا التَّبعية و الرضوخ لما يفرضُه منطقُ الأعمال logique du business الذي لا يحتمل مزجَ هذه الأعمال بالتَّعاطف و المشاعر و الأحاسيس… منطق الإعمال وراءه الرأسمال و الرأسمال، عندما تحكُمُه الليبرالية (أحيانا متوحِّشة)، يكون اساسُه الربح و لا شيءَ غير الربح. و هذا هو الشيءُ الذي أدى إلى تصنيف بعض البلدان كبلدانٍ متخلِّفة لأنها لا تملك القدرةَ المادية والمالية للحصول على ما استجدَّ من علمٍ وتكنولوجيا. والبلدان التي تريد أن تستفيدَ من مستجدَّات العلم والتِّكنولوجيا، ما عليها إلا أن تدفعَ ثمناً باهضاً للحصول على هذه المستجدَّات. وذلك لأن البلدانَ التي تُنتِج هذه المستجدَّات تقوم بحِفظها من خلال الملكية الفكرية propriété intellectuelle. وحتى ما يُصطلحُ عليه ب"نقل التَّكنولوجيا" transfert de technologie، لا يكون، نقلا تاما. ما يتمُّ نقلُه، في غالب الأحيان، هي نتائج البحث العلمي أو التِّكنولوجي و ليس الأساليب و الطُّرق و المنهجيات التي أدَّت إلى هذه النتائج.
الملاحظة الثالثة : في هذا العصر الذي يسيطر عليه الفكر الليبرالي وطُغيانُ الماديات ومنطق الأعمال والربحية profitabilité، لا أحدَ يُنصِتُ للمفكرين و المثقفين و الفلاسفة وعلماء الاجتماع… بل ما يحصل، في بعض الأحيان، أن السياسيين واللوبيات الاقتصادية يلجؤون إلى خبرة هؤلاء المفكرين والمثقفين والفلاسفة وعلماء الاجتماع… لتمرير أفكارهم ومخططاتهم الاقتصادية. وما يجب الانتباهُ إليه هو أن التحولات التي تحدثُ في العالم، سواءً على المستوى العلمي أو التِّكنولوجي أو الاقتصادي أو الصناعي… لا تنبع من فراغ. إنه مخطَّطٌ لها وعلى المدى الطويل. وهذا التَّخطيطُ، غالبا ما يتم في غياب تام عن الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية. وحتى إن أُعطيَ بعضُ الاهتمام لهذه الاعتبارات، فليس إلا ذرُّ الرماد على العيون. لأنه، بكل بساطة، المنطق الاقتصادي يطغى على المنطق الإنساني والأخلاقي. والدليل على ذلك، لم تنفع تنبيهاتُ العلماء والعُقلاء وحركات الخُضر الفكرية والسياسية وتوصيات الأمم المتحدة و اللجان المتخصصة في المناخ والمؤتمرات الدولية وعلى رأسها مؤتمرات الأطراف COP في التَّصدي لتغيُّرِ المناخ رغم خطورة هذا الأخير على استمرار الحياة على سطح الأرض. كما أن الدولَ العظمى لم ولن تتوقف عن الإبداع في الصناعات الحربية التي تجني من خلالها هذه الدولُ أرباحا طائلة. بل إن الدولَ النامية، من أجل الحصول على السلاح، تضحي بالثقافة والتعليم والصحة!
فهل بإمكاننا، في ظلِّ التَّحوُّلات التي تحدثُ في العالم، الاستمرارُ في الحديثِ عن الحضارة؟ لا أظن. لأن القيمَ الإنسانية في تدهور مستمر. والقيم الإنسانية هي أساس الحضارة. والدليل على ذلك، هو أنه كلما نطقنا بكلمة "حضارة" كلما تبادرت إلى أذهاننا هذه القيم الإنسانية. والازدهارُ والرقيُّ اللذان تعرفهما الحضارات، سواءً بالامس أو اليوم، لا يمكن أن يتحققا في غيابٍ للقيم الإنسامية. اللهمَّ إذا جزَّأنا الحضارةَ إلى حضارة مادية و حضارة فكرية علما أن هذه الحضارة كلٌّ متكامل أجزاءُه مترابطة فيما بينها. وهذا شيءٌ يبدو لي مستحيلاً لأنه، من جهة، الحضارةَ كلٌّ متكامل أجزاءه مترابطة فيما بينها. و من جهة أخرى، الحضارة الماديةَ وحدها لا تستقيم بدون قيمٍ إنسانية، أي بدون أخلاق وقانون وتنظيم وعدل… بينما الحضارة الفكرية وحدها لا تستقيم، هي الأخرى، بدون عُمران.
و بصفة عامة، إذا كان الجانب المادي مهما في أية حضارة، فلا يمكننا الحديثُ عن الحضارة في غياب القيمِ الإنسانية و النهضة الفكرية التي هي أساسٌ العُمران. غير أنه ما يُلاحظُ اليوم هو أن البشريةَ تعيش أزمةَ قِيمٍ حادة وعلى نطاقٍ واسعٍ. تتمثَّلُ هذه الأزمةُ في :
1.عدم التَّسامح الذي قد يؤدي إلى تطاحُنات مميتة، غالبا ما يكون سببُها اختلافاتٍ دينية، إثنية أو ثقافية. وأمثلة التَّطاحن كثيرة في هذا الصدد أدَّت إلى إباذة أقوام بأكملها.
2.الجشع الذي هو ناتجٌ عن الفساد ومنتِجٌ للفساد. الفساد الذي بسببه تُعرقلُ التَّنميةُ بجميع تجلياتها وتُهضمُ الحقوق ويعمُّ الظلمُ و الطُّغيان.
3.سوء الأخلاق الذي عمَّ بالخصوص شبكات التَّواصل الاجتماعي ويتَّخذ أشكالاً مختلفةً منها الغشُّ، النفاق، هتكُ الأعراض، النَّصبُ، الكذبُ…
4.الإقبالُ على المخدٍّرات وما تتسبَّبُ فيه من كوارث عائلية، إنسانية، اجتماعية، اقتصادية…
5.عدم احترام الحياة بجميع أشكالها البشرية، الحيوانية والنباتية. البشرية بسبب الحروب. الحيوانية و النباتية بسبب الجشع و الأنانية الاقتصادية… و ما تغيُّرُ المناخ إلا مثالٌ حي لعدم احترام الحياة. أما ندرةُ الماء، فحدٍّث و لا حرج!
6.غيابٌ صارخٌ للروحانيات spiritualité في تعاملات البشر. الإنسان الذي خُلقَ عاقلا Homo Sapiens تحوَّلَ إلى إنسانٍ اقتصادوي Homo Economicus.
7.إفراغُ السياسة من معناها النبيل لتُصبحَ أداةً لإرضاء المآرب الشخصية و الحزبية و الفئوية…
8.نكرانُ الإنسان لإنسانيته حيث نجد أنفسَنا في هذا العصر الحديث أمام نوعين من البشر : بشرٌ يدعى "الإنسان" و هو في طور الانقراض و بشرٌ يُدعى "اللاإنسان" و هو في طور الانتشار كالوباء. فأينما حللتَ و ارتحلتَ، تجد نفسَك محاطا بهذا الأخير إلا مَن رحم ربي!





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى