يبات علي فايد - همهمات في لذة الابتكار والتوليد في الشعر العربي

إنَّ مما يُكسب الشعر جمالا وألقا، ومكانة فنًّا، منذ الجاهلية إلى يومنا هذا، مما يلي أحوال الشعراء، أسباب كثيرة، لعلي أجملها ما وُفقت في أسباب منها:
- التنافس لبلوغ رضا الملتقي، وأعني عامة الناس وخاصتهم، من مثل ما بلغنا من شعر في العصر الأموي من التنافس الحاد الذي كان بين الشعراء:
جرير، والفرزدق، والأخطل، وغيرهما، خاصة النقائض.
- ابتكار المعاني تفردا، وهو الإتيان بمعنى يبتدعه الشاعر، ويؤلفه على غير مثال سابق، بإعمال عقله، وجده، واشتهر بشار بن برد بابتكار المعاني التي تصرف فيها الكثير من الشعراء من بعده.
- توليد المعاني المبتكرة، وذلك بأخذ المعنى، والنسج على منواله، في محاولة لبلوغ شأوٍ أعلى من صاحب الابتكار، كما كان يصنع البحتري بأبيات لأبي تمام.
- إرضاء الممدوح، بغية أن يبلغ الشاعر منازل أعلى من منازل أقرانه، وبالتالي نوال الهبات والعطايا.
- المسابقات، وأرى أنها حلت في زماننا هذا محل مديح الملوك والأمراء، الذين كانوا يغدقون على الشعراء، لأسباب قد تختلف، فمنهم من كان يريد الخلود ذكرا، ومنهم من كان يحرض الشعراء طلبا للتلذذ بالشعر، وربما كان منهم من ابتغى بذلك حفظ العربية.
- إرضاء المحبوبة، ما كانت مدركة للشعر، وكم من شعراء ذهب شعرهم أدراج الرياح لعجز حبيباتهم عن إدراك معانيهم، وظني أن الشاعر ههنا إنما يريد إرضاء الناس عامة، وإن خصها بالشعر.
ولعلي أدلف إلى بعض الحوادث في هذا الشأن، شأن الابتكار والتوليد، فهذا أبوبكر الصولي، يقول في كتابه أخبار أبي تمام:
حدثنا قوم عن أبي الدَّقاق، قال: قرأنا على أبي تمام أرجوزة أبي نواس التي مدح بها الفضل بن عباس *"وبلدة فيها زور"، فاستحسنها وقال: سأروض نفسي في عمل نحوها، فجعل يخرج إلى الجُنينة، ويشتغل بما يعملُه، ويجلس على ماء جارٍ، ثم ينصرف بالعشيِّ، فعمل ذلك ثلاثة أيام، ثم خرَّق ما عمل وقال: لم أرضَ ما جاءني.
ومما يحكى عن بشار بن برد أنه قال: ما زلت، منذ سمعت قول امرئ القيس في وصف العقاب:
كأنَّ قلوب الطير رطبا ويابسًا
لدى وُكرها العنَّاب، والحشف البالي
لا يأخذني الهجوع حسدًا له إلى أن قلت في وصف الحرب:
كأن مَثارَ النقع فوق رؤسنا
وأسيافنا ليل تهاوت كواكبه
وحكى بعض أصحاب أبي تمام قال: استأذنت عليه، وكان لا يستتر عني، فأذن لي، فدخلتُ، فإذا هو في بيت مصهرج، وقد غُسل بالماء، يتقلب يمينا وشمالا، فقلتُ: لقد بلغ بك الحر مبلغًا شديدًا. قال: لا، ولكن غيره، ومكث كذلك ساعة ثم قام كأنما أطلق من عقال، وقال: الآن، وردتْ، ثم استمد وكتب شيئا لا أعرفه، ثم قال: أتدري ما كنت فيه مذ الآن؟ قلتُ: كلا، قال: قول أبي نواس: كالدهر في شراسة وليان، أردت معناه، فشمس عليَّ حتى أمكن الله منه، فصنعتُ:
شرستَ بل لنتَ بل قانيت ذاك بذا
فأنت لا شكَّ فيك السهلُ والجبلُ
وإن قول أبي نواس الذي عناه إنما هو
أَلِفَت مُنادَمَةَ الدِماءِ سُيوفُهُ
فَلَقَلَّما تَحتازُها الأَجفانُ
حَتّى الَّذي في الرَحمِ لَم يَكُ صورَةً
لِفُؤادِهِ مِن خَوفِهِ خَفَقانُ
حَذَرَ اِمرِئٍ نُصِرَت يَداهُ عَلى العِدى
كَالدَهرِ فيهِ شَراسَةٌ وَلَيانُ
ومن عجب، أن أبا نواس ذاته ينظر في بيته الثاني بعاليه، ويأتي به في صورة أخرى فيقول:
وأخفتَ أهلَ الشِّرك حتى أنَّه
لَتخافُك النُّطفُ التي لم تُخْلَقِ
ويروى أن العتابي لقي أبا نواس فقال له:
أما استحييت الله حيث تقول، وأنشده البيت،
وأخفتَ أهلَ الشِّرك حتى أنَّه
لَتخافُك النُّطفُ التي لم تُخْلَقِ
فقال له: وأنت ما راقبت الله حيث قلت:
ما زلت في غمرات الموت مطرحا
يضيق عنّي وسيع الرّأي من حيلي
فلم تزل دائبا تسعى بلطفك لي
حتّى اختلست حياتي من يدي أجلي
والبيتان، من شعر العتابي في الرشيد، حين غضب عليه معتذرا، وقد تشفع له الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي.
فقال له العتابي:
قد علم الله وعلمت أن هذا ليس مثل قولك، ولكنك قد أعددت لكل ناصح جوابا.
ومثل حكاية أبي تمام، حكاية جرير، حين صنع الفرزدق شعراً يقول فيه:
فإني أنا الموت الذي هو ذاهب
بنفسك، فانظر كيف أنت محاوله
وحلف بالطلاق أن جريرًا لا يغلبه فيه، فكان جرير يتمرغ في الرمضاء ويقول: أنا أبو حزرة، حتى قال:
أنا الدهر يفنى الموت والدهر خالد
فجئني بمثل الدهر شيئاً يطاوله


____________
هوامش:
* كان حاجب هارون الرشيد، ومحمد الأمين، وكان أبوه حاجب المنصور والمهدي.
** الحموي، بان حجة (2004). خزانة الأدب وغاية الإرب، دار ومكتبة الهلال، دار البحار، بيروت، 1/415.
*** قانيت: خالطت.
**** ابن رشيق، القيرواني (1981م). تحقيق محمد محي الدين عبدالحميد، دار الجيل، ط5، 1/209
***** ابن الأثير، ضياء الدين، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق: أحمد الحوفي، وبدوي طبانة، دار نهضة الطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 3/92.
****** ابن رشيق، القيرواني (1981م). تحقيق محمد محي الدين عبدالحميد، دار الجيل، ط5، 1/209 — avec ‎يبات علي فايد‎.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى