خالد جهاد - الأبناء المنسيون

برغم جميع المشكلات والكوارث المتعاقبة على بلادنا وشعوبنا واحدةً تلو الأخرى، وبرغم السنوات التي عشناها ولا زلنا نعيش ألمها، وبرغم المبادىء والأخلاق والتدين الذي نصف به مجتمعاتنا إلا أن أي حدث ٍ عابر مهما كانت هشاشته وبساطته كفيلٌ بتعرية وجهها الحقيقي الذي نسعى دوماً إلى تغطيته واستبداله بوجهٍ صناعيٍ آخر، ولذلك تظل الشدائد والخلافات والمحن هي المقياس الأصح الذي يتباين عنده الأشخاص ويخرج معها ما يكنونه من مشاعر وقناعات، ولعل النزعات العنصرية في بلادنا ليست بالجديدة رغم ادعائنا لعدم وجودها من الأساس إلا أنها تتحول من وقت لآخر إلى موجة أو عدوى منتشرة في أكثر من بلد كما يحدث الآن مع المواطنين من ذوي البشرة السمراء..

فخلال الأيام القليلة الماضية شهد أكثر من بلد عربي على لسان عدة شخصيات معروفة تصاعداً في الخطاب العنصري ضد أصحاب البشرة السمراء أو المهاجرين الأفارقة في مصر أو تونس أو المغرب وكلهم بلاد تنتمي أساساً إلى القارة السمراء لتتناقلها صفحات مواقع التواصل الإجتماعي وتتلقفها بشهيةٍ كبيرة في نفس الوقت الذي واجهت أيضاً فيه رفضاً قاطعاً من قبل الكثير من المثقفين والحقوقيين وحتى المواطنين، لكن هذا لا يعني أن الوضع مثالي، ولا يعني أننا منسجمون ومتناغمون، ولا ينبغي أن يدفعنا أي ظرف إلى خلط الأوراق والمفاهيم ببعضها..

فهناك من يحمل رؤية مغلوطة للتاريخ من كل الأطراف وليس هناك من دليل عليها سوى كلام مرسل بلا حجج أو براهين دامغة وقوية مثل ما يشاع من بعض المغرضين الذين يحاولون الإيقاع بين مصر والسودان من خلال أشخاص لا وزن لهم ولا يحملون أي صفة كما اعتادوا على خلط مشاكلهم ومشاعرهم الخاصة والتي تنضوي على خللٍ شخصيٍ ما أحياناً بالقضايا العامة عدا عن أنهم لا يتجرأون على تصدير هذا الخطاب إلى الخارج، وأيضاً هناك خطاب يتحرك ضد أصحاب البشرة السمراء في عدة دول مغاربية بهدف زعزعة استقرار المجتمع رغم وجود الكثير من الوجوه المعروفة منهم على صعيد عربي ودولي، وكل الدعوات للتفرقة هي دعوات مشبوهة ومسمومة خاصةً تلك التي دعت إلى عدم التزاوج والمصاهرة بين أبناء المناطق المختلفة، فهل هناك ما هو أجمل من الحب ليتوج هذه العلاقة ويظللها ويقهر معه العنصرية المقيتة في حضرة العاطفة والعقل والإرادة..

وبالطبع فإن الوضع ليس وردياً في معظم بلادنا فقد تحدثنا على سبيل المثال في مقالات سابقة عن وجود الفلسطينيين الأفارقة ومن أصحاب البشرة السمراء والذين يواجهون أيضاً نوعاً من التمييز داخل المجتمع الفلسطيني ولكن دون أن يتم الحديث عنه وسط المشاكل الكارثية التي يعانيها الجميع تحت نير الإحتلال لكنها في النهاية حقيقة وواقع ملموس، وقد قامت إحدى الممثلات الكوميديات في الداخل الفلسطيني المحتل بتصوير فيديو تسخر فيه من استياء العالم من فظاعة صورة المواطن الأمريكي جورج فلويد فيما قالت وقتها أنا سوداء وأتعرض للتمييز داخل مجتمعي دون أن يلتفت أحد إلي فيما أخفي ذلك وراء قناع من الكوميديا والضحك.. وتشهد تجارب العديد من الوجوه الفلسطينية على التمييز الذي واجهوه بسبب سمرة بشرتهم مع اختلاف وضع كلٍ منهم مثل الممثل القدير الراحل محمود سعيد والذي عاش وتوفي في لبنان، والممثلة ياسمين المصري التي أطلت في عدة أعمال سينمائية عربية وغير عربية.. وينسحب ذلك على الكثير من التجارب والمواقف في بلادنا والتي يجب أن تتوقف ويتم تجريمها ووضع نهاية لها..

فنرى جميعاً أن أصحاب البشرة السمراء حتى على صعيد التمثيل والتقديم عبر الإعلام لا يحظون بفرص حقيقية أو أدوار هامة بل يظل معظمهم محاصراً في قوالب درامية وإعلامية ضيقة وثانوية وهامشية ولا استثناء فيها سوى لإسم وحيد هو الممثل المصري الراحل أحمد زكي والذي لم يسلم من العنصرية في حياته وحتى بعد مماته، وبشكلٍ عام كانت القارة الإفريقية رغم كل ما تعانيه في صف القضايا الإنسانية العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية وماحدث منذ بضعة أيام عند طرد الوفد الصهيوني الذي أراد الحضور بصفة (مراقب) لقمة الإتحاد الإفريقي دليل على ذلك رغم ممارسته لضغوطات كبيرة وتقديمه لإغراءات مادية لأكثر من دولة تعاني أوضاعاً بالغة الصعوبة، إلى جانب شخصيات معروفة عالمياً وسجلت موقفها بشجاعة رغم الحملات الممنهجة ضدهم مثل الروائية الأمريكية أليس والكر التي ساندت فلسطين مراراً وزارتها وحازت عام ٢٠١٦ على جائزة مؤسسة محمود درويش للإبداع ورفضت ترجمة روايتها للغة العبرية، الممثلة ڤيولا داڤيس والتي ساندت فلسطين بعد تصدر صور نهب البيوت في حي الشيخ جراح في مدينة القدس المحتلة ودعمت لبنان أيضاً، إضافةً إلى الممثلة والمذيعة ووبي غولدبرغ التي يذكر أنه تم إيقافها عن الظهور ضمن برنامج (ذا ڤيو) ومنعها من الظهور على شاشة قناة (abc) الأميركية بسبب تصريحاتها وآرائها المناهضة للصهيونية والتي رفضت التراجع عنها رغم الضغوطات الكبيرة ضدها، لذلك علينا أن نراجع حساباتنا لأن مجتمعاتنا اعتادت على التنكر للكثير من أبنائها حيث لا تعترف بهم إلاّ بعد أن يحلقوا وينجحوا بعيداً عنها، وحينها فقط ستذكر وتتذكر أن هذا الشاب أو تلك الفتاة كانوا (ذات يوم هنا)..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى