د. أحمد الحطاب - وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ

عنوان هذه المقالة هو، في الحقيقة، الآية رقم 7 من سورة الرحمن. اخترتُ هذه الآية كموضوعٍ لهذه المقالة لأن فيها كلمة أعتبِرها، أنا شخصيا، من الأهمِّية بمكان وهي : كلمة "ميزان". أول ما قمتُ به هو البحث عن ما قاله المُفسِّرون للوقوف على ما تحملُه هذه الآية من معاني. جلُّ المفسِّرين وخصوصا أولائك الذين أصبحوا معروفين لدى المهتمين بتفسير وتأويل القرآن الكريم، كالطبري والقرطبي وابن كثير والسعدي… فسَّروا كلمةَ "ميزان" ب"عدل" وهذا شيءٌ مهِمٌّ لأن اللهَ، من جهة، لا يمكن أن يخلقَ شيئا بدون عدلٍ، ومن جهةٍ أخرى، بدون تدبُّر وحُسبان. والعدل، حسب القواميس العربية، هو إِعطاءُ الشخصِ أو الشيءِ ما يستحق من حق.

وما لا يجب أن يغيبَ عن الأذهان، هو أن هؤلاء المُفسِّرين أبناءُ بيئتهم، أي أنهم لا يمكن أن يُفسِّروا القرآنَ الكريمَ أنطلاقا من فراغ فكري. كل مُفسِّرٍ من مُفسِّري القرآن الكريم، سواءً كان عالِما أو فقيها أو متضلٍّعا في أمور الدين، يفسِّرُ القرآنَ الكريمَ انطلاقا من خلفيتِه الفكرية، العلمية، المعرفية والثقافية. وهذه الخلفية لم تأتِ، هي الأخرى، من فراغ. إنها تمرة احتكاكٍ وتعليم وتعلُّم وتجارب وخِبرات وبحث وتفاعلات… متموقعة زمانا ومكانا. وهذا يعني أن المُفسِّرَ يُفسِّرُ القرآنَ الكريمَ انطلاقا من معرفتِه وثقافته المتموقعة زمانا ومكانا ولا يمكن أن يُربطَ هذا التَّفسيرُ بكون المُفسِّرِ وليٌّ من أولياء الله أو إيمانُه قوي أو فقيهٌ وَرِعٌ… عبادة الله شيءٌ وتفسيرُ كلامه شيءٌ آخر.

فحينما فسَّرَ المُفسِّرون كلمةَ "ميزان" بكلمة "عدل"، فإنهم، بالطبع، لم يُخطئوا. لكنهم انطلقوا من الثقافة التي كانت سائدةً في زمانهم والتي كان يتسيَّدها الطابعُ الديني إضافةً إلى أن معرفة الأرض، بسمائها وجميع مكوِّناتِها، الحية وغير الحية، من الناحية العلمية. كانت آنذاك ضعيفةً.

فإذا انطلقنا من كون أيَّ مفسِّرٍ للقرآن الكريم ابن بيئته وله خلفية فكرية وثقافية معيَّنة ومتموقِعة زمانا ومكانا، وإذا سلَّمنا أن القرآنَ الكريم صالح لكل زمان ومكان، كما يقول الفقهاء وعلماء الدين، فإن التَّفسيرَ، منطقيا، سيختلف من جيلٍ إلى آخر. لماذا؟

1.لأن الأزمنة والأماكن تختلف من جيل إلى آخر.

2.لأن كل جيلٍ ابن بيئته (زمانا ومكانا) التي ينهل منها خلفيتَه الفكرية والثقافية. ولهذا، فكل جيلٍ له تفسيرُه الخاص للنص القرآني. تفسير يتماشى مع مستوى الفكر والثقافة السائدين.

3.لأن المستوى الفكري لمن أراد أن يُفسِّرَ القرآن يتطوَّر ومعه يتطوَّر رصيدُه المعرفي، وذلك بالاحتكاك مع الوسط ومع الآخرين. وفي هذا الصدد، لا يمكن أن نقارنَ الرصيد المعرفي، الديني والدنيوي، الذي كان متوفِّرا في زمان الأجيال السابقة وذلك المتوفر في زمان الأجيالُ الحالية نظرا للتَّقدم الذي حصل في العلوم بمختلف مشاربها.

من بين العلوم التي حصل فيها تقدُّمٌ هائل، أذكرُ العلوم البيئية sciences environnementales وعلى رأسها علمُ البيئة écologie الذي بيَّن أن استمرارَ الحياة بالأوساط الطبيعية، منذ ظهور هذه الحياة على وجه الأرض، لم يكن ولن يكونَ ممكِنا دون وجود توازن بين المُكوِّنات الحية وغير الحية التي تتألَّف منها هذه الأوساط. وعندما نتحدث عن التوازن، فالأمرُ يتعلَّق بعدم طغيان مكوٍّن على المكوِّنات الأخرى. وهذا يعني أن كل مُكوِّنٍ من مكوِّنات الأوساط الطبيعية يوجد، في هذه الأخيرة، بقَدْرٍ أو مِقدارٍ معيَّن. وإن طغى أحد المُكوِّنات على المكوِّنات الأخرى، يختلُّ التَّوازنُ ويدخل الوسط الطبيعي في حالة اضطراب قد يكون له، إن عاجلا أو آجلا، عواقب على استمرار الحياة.

انطلاقا من هذا التَّوضيح، وبالأخص، من ما وفَّره علمُ البيئة من معارف لم تكن متوفِّرةً في عهد المفسِّرين الأوائل، من الممكن، اعتمادا على الخلفيةٌ الفكرية الثقافية والعلمية الحالية في مجال علوم البيئة، توضيحُ، واللهُ أعلم، ما ترمز إليه الآية رقم 7 من سورة الرحمن والتي هي عنوان هذه المقالة.

أولا، أريد أن أثيرَ الانتباهَ أن الفِعلين "رَفعَ" و "وَضَعَ" اللذين وردا في هذه الآية مستعملان في صيغة الماضي. وهذا يعني أن اللهَ سبحانه وتعالى يتحدَّث عن أشياء موجودة، وبالطبع، هي من خَلقِه. و"رَفَعَ" تعني، في هذه الآية، أن اللهَ سبحانه وتعالى جعل السماءَ محيطةً بسطح الأرض، أي فوق هذا السطح. أما "وَضَعَ"، فيمكن أن تعني "أوجَد" أو "خَلَقَ" أو "أحدَثَ".

ثانيا، السماء يمكن أن تكون المكان الذي تسبح فيه الكواكب والنجوم ويمكن أن تكون الفضاء المحيط بسطح الأرض. فعندما قال سبحانه وتعالى : "والسماءَ رفعها"، فكلامُه موجَّهٌ للبشر. والبشر موجودون على سطح الأرض. إذن، الرَّفعُ هنا هو جعل السماء تحيط بسطح الأرض. وفي كلتي الحالتين، السماء تحيط بالأرض، كجزء من النظام الشمسي، وبالنجوم وبالكواكب، بصفة عامة.

ثالثا، الميزان، وهي، في نظري، أهمّّ كلمةٍ وردت في هذه الآية الكريمة. فبشيء من التَّفكير والمنطق، الميزان كآلةٍ للوزن لا مكانَ له في الآية المذكورة. فما هو إذن المقصود من كلمة "ميزان" في هذه الحالة؟

المقصود من هذه الكلمة هو أن اللهَ سبحانه وتعالى، عندما قال "والسماءَ رفعها"، فإن الرفع لم يكن عشوائياً أو حدث صُدفةً. بل الرفعُ كان ولا يزال قائما إلى يومنا هذا. لماذا؟ لأن اللهَ سبحانه وتعالى "وَضَعَ الميزانَ"، أي أوجد كل الظروف التي تضمن استمرارَ الرفع ومُلاءمَتَه مع استمرار حياة المخلوقات التي تتواجد على سطح الأرض. وهذا يعني أن اللهَ سبحانه وتعالى، عندما رفع السماء، رفعها بتدبُّرٍ وحُسبان. وهذا هو الميزان، أي أن تكون الظروفُ السائدة في السماء (الفضاء المحيط بسطح الأرض) متوازنةً، أي متساكنة بحُسبان حتى تكون ملائمةً للحياة التي تترعرع على سطح الأرض. فما هي هذه الظروف التي لخَّصها اللهُ سبحانه وتعالى في كلمة "ميزان" والتي توفرها السماءُ (الفضاء المحيط بسطح الأرض) لتستمر الحياة؟

من بين هذه الظروف، أذكرُ، على الخصوص، تلك التي هي ضروريةٌ للحياة من منظورٍ بيولوجي كالهواء، الرطوبة، الضغط، الحرارة… علما أن هذه الظروف تضمن استمرارَ هذه الحياة وتحميها. وعلى ذكرِ الحماية، فإن الطبقة ما قبل العليا من السماء (الجو) المحيطة بسطح الأرض غنية بالأوزون ozone الذي هو أكسجين ثلاثي الذرة O3. دورُ هذه الطبقة من الأوزون هو مَنعُ الأشعة فوق البنفسجية rayons ultraviolets من الوصول إلى سطح الأرض علما أن هذه الأشعة مُميتة ومُسرطِنة.

الهواء مُكوَّن من غازات متساكنة في الجو بنِسبٍ مختلفة. أهم هذه الغازات الضرورية للحياة هي الأزوت N2 والأكسيجين O2 و ثاني أكسيد الكاربون CO2… وأهم هذه الغازات للحياة، من الناحية البيولوجية هما الأكسجين وثاني أكسيد الكربون CO2. الأكسجين يلعب دورا في التَّتفُّس، ومن خلال هذا التنفُّس، يلعب دورا في تنشيط أَيْضِ الخلايا déroulement du métabolisme des cellules. أما ثاني أكسيد الكربون الموجود في الهواء، فهو، أضافةً إلى ضوء الشمس، يُمكِّن النباتات الخضراء من صُنعِ المادة العضوية matière organique التي هي ضرورية لحياة جميع الكائنات الحية.

واختلاف نِسب مُكوِّنات السماء المحيطة بالأرض هو الذي يضمن استمرارَ الحياة. وهذا هو الميزانُ الذي وَردَ في الآية الكريمة السابقة الذكر. والدليل على ذلك، أن اختلالَ هذه النِّسب من نقضانِ أو زيادةٍ يُؤدي إلى اختلالِ التَّوازن (الميزان) القائم بين هده النِّسب، وهو الشيءُ الذي يؤدي، إن عاجلا أو آجلا، إلى إدخالِ اضطرابٍ على استمرارِ الحياة. مثلا، إذا تجاوزت نسبة وجود الأكسجين في السماء المحيطة بالأرض 21%، هناك احتمال وقوع حرائق قد تنشُبُ بسهولة في المواد العضوية. وزيادة نسبة ثاني أكسيد الكاربون في الهواء تؤدي إلى الاحتباس الحراري، الذي يؤدي، بدوره، إلى تغيير المناخ الذي يؤدي إلى زعزعة استمرار الحياة. أما الآزوت، فإنه لا يلعب أي دورٍ في التنفُّس لكنه ضروري للحياة من خلالِ تواجُده في التركيبة الكيميائية للبروتينات protéines. فالحجمُ الذي يدخل الرِّئتين هو نفسُه الذي يخرج منهما. فهو فقط حاملٌ للأكسجين وثاني أكسيد الكربون. لكن الحيوانات غير قادرة على تفكيكه وتسُدُّ حاجياتِها منه عن طريق استهلاك النباتات الخضراء أو لحوم الحيوانات التي تتغذى على النباتات الخضراء. والنباتات الخضراء ليست كلها قادرة على امتصاص الآزوت مباشرةً من الجو وإدخالِه في أيضها métabolisme. هناك نباتات مختصة في هذا الشأن كالبقوليات légumineuses.

الميزان هو ما يحصل من توافقٍ وانسجامٍ وتآلفٍ وتلاؤمٍ وتناسبٍ وتناغمٍ وتناسقٍ… بين مُكوِّنات الكون، وفيما يخصُّ السماء المحيطة بالأرض، فمُكوِّناتُها متناسقة فيما بينها نِسَباً ونوعيةً مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "…وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ (الرعد، 8) أو مصداقا لقوله جل علاه : "وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ (الحجر، 19).

الميزان، في نظري وعلى المستوى الكوني، هو ذلك الارتباط القائم بين جميع مكوِّنات الكون. وعلى مستوى الأرض، الميزان هو الارتباط القائم بين مكوِّنات السماء (الفضاء المحيط بالأرض) ومكوِّنات الأرض نفسها. لكنه ارتباط محسوب ومُقدَّرٌ تقديرا مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (الفرقان، 2). فعندما يتحدث سبحانه وتعالى عن "الميزان" في الآية رقم 7 من سورة الرحمن، فكانه، عند خَلقِ الأشياء، يَزِنُها بميزان الحُسبان والتَّقدير.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى