ميلود خيزار - عن "منظومة القراءة"

"المنظومة" هي مجموعة مركّبة من عناصر و أجهزة و أدوات و نظام و مرجعيات و أهداف شاملة تريد تحقيقها. أما "القراءة" فهي السلوك الذهني حيال نصّ يتضمّن رسالة لغوية.
هذه المنظومة هي المتحكّم "الأبرز" بــ "مصير النصّ" و هي تسعى دائما إلى تسخير كلّ "أدواتها" بهدف "الترويج" لنصوصها المنتقاة (التي هي رسائل لغويّة حاملة لقيم و أفكار و تصوّرات "تناسب" قيمها و تخدم أهدافها). المسألة ليست متعلّقة "بفكر" بل "بقيم الكتابة" ذاتها التي تتضمّن "مقولات" هي في الأصل محلّ "جدل" و "اختلاف ثقافات" (الجمال، الحرية، الحق، العدل...إلخ).
يعتقد بعض "الكتبة" أنّهم بمعزل عن سطوة هذه المنظومة و أنّه بإمكانهم تجاوز "فخاخها" الأكثر شفافيّة و تعقيدا و إغراء، بل و "يتواقح" بعضهم الآخر بادّعاء تجاوزها "فعلا". بالنّسبة إليّ، أرى في ذلك "عدم وعي" كامل "بفعل الكتابة" ذاته.
- عندما "تسخّر" وزارة "تربية" في دولة ما "لجنة" ما "لانتقاء" نصوص "أدبيّة" لـفائدة مُقرّر دراسي لمرحلة تعليمية ما، فهي تفعل ذلك وفق شروط و معايير نصيّة قد يكون من ضحاياها "إبداعيّة النصّ" ذاته(لكون النصّ المنتقى يؤدّي وظيفة تعليمية/تطبيقية أكثر منها جمالية/إبداعية، هكذا يتمّ "تحييد" الجمال و صوره و الفنّ و أثره بنصوص "موجّهة" و "موضوعاتيّة"، بحيث "يستبعد" الشّرط الإبداعيّ فيها أو يصبح "ثانويّا للغاية". و عليه، "فانتقاء النصوص" غالبا ما يكون "عملا ضدّ "قيم الكتابة الإبداعيّة" ذاتها. و من الحتمي أن ينتج عن ذلك تردّي مستوى الذوق الجمالي و الإبداعي و التربوي و الفنيّ و ضيق الهامش اللغوي و الخيالي لدى الطلبة (بوصفهم قراء مفترضين و ربما مبدعين مستقبلا). بهذا "الجهاز التعليمي" يتم القضاء على "التربية الفنية" بتكوين جيش من المتعلمين "الجاهزين" لإعادة إنتاج "الرداءة" (الكاتب/القارئ الرديء هو نتاج منظومة رديئة)
- عندما تنتقي هيئة أو مؤسّسة ما "لجنة مسابقة" لجائزتها، فهي تفعل ذلك وفق معايير هي وحدها من تملك مبرّراتها، و لكنّ "المؤكّد" أنّها لا تفعل ذلك بشكل "اعتباطي". و قد تتضمّن هذه المعايير شروطا "تتجاوز" قيم الكتابة من كونها "فعلا حرُّا" إلى "فعل مراقَب"، فمن غير المعقول أن تغامر بصرف أموال باهظة و أن تسخّر أجهزة (إعلام و نقاد) لمجرّد "الاحتفاء" بعمل فنّي/ أدبيّ. و غالبا ما تكون هذه الجوائز "أدوات مراكز" ثقافيّة و فكريّة مهيمنة أو تسعى إلى صيانة هيمنتها، بحيث يصبح "الشرط الإبداعي" مجرّد "وسيلة ناعمة لتمرير "رسائل نقيضة" و لا تحمل أي قيمة فنيّة و جماليّة، الأخطر، هو أن تكون الجائزة طُعما "لتجنيد" الكاتب (الغرّ) مستقبلا، و توظيفه في أحد أجهزتها الدّعائيّة (الإيديولوجية، غالبا)، و هي من أحطّ "الانتهاكات" التي تمارسها "الجوائز" (و مؤسّساتها) في حقّ "النصّ الإبداعي" لتحييده عن كونه خطابا مغايرا يقاتل بدوره، على حقّه في الصراع على "عرش المعنى".
- "المحفل الأكاديمي"، هو أيضا "جهاز" في منظومة القراءة بوصفه "سادن معبد النصّ" و "حامل أختامه و مفاتيحه" (أو هكذا هي صورته التي ارتضاها لنفسه). نحن، و بالخصوص في مجتمعات "القهر السّلطويّ"، نعرف أن هذا "المحفل" مجهّز ، في غالبيته، من "جيش" تدرّب، ككلّ سابقيه، على "نصوص مرجعيّة" أثثت لوعيه و شكّلت ذوقه و مخيّلته، و لكنّه يحمل صفة "العلميّة" بكل صرامتها المفترضة و حدودها التاريخية و منجزها المفاهيمي و التحليلي "افتراضا" و ليس بالضرورة "واقعا" و إلا فكيف نفسّر "تسرّب" كثير من "النّصوص" المهزوزة "بنية و أسلوبا" من بين "أعين المحفل" بل و "احتفى بها" أكاديميّا في شكل بحوث و ملتقيات و دراسات و أطروحات و "منجزات نقديّة" ؟
- الخطاب السّياسيّ "الأرعن": غالبا ما يكون وراء الإشهار المبتذل لنصوص الرّداءة و قد عثر فيـها على "صورته". و من "الطبيعي" أن "يستثمر" هذا الخطاب في مثل هذه النصوص و الشّخوص لخدمة "استراتيجياته" و "مشاريعه".
- الترجمة: لطالما "اختبأت" نصوص رديئة كثيرة وراء ادّعاء "الترجمة" و للغات عديدة (و فسّر ذلك بأنّه "احتفاءٌ بالنصوص المترجمة") و لكن لا أحد تساءل عن "طبيعة و أهداف الأجهزة التي كانت وراء "فعل" الترجمة ذاته و لا عن أهدافه "الحقيقيّة" و لا عن "نصيب سعي الكاتب" ذاته في كل ذلك (و لا عن "الثمن الأخلاقي" الذي دفعه لأجل ذلك و تحت تأثير "هوس الترويج المتبادل")، ثمّ إنّ أغلب هذه الترجمات تمّ "بإيعاز" من الكاتب و من شبكاته الإيديولوجية و الزّبائنية المشروطة" من مراكز و أجهزة ليس "الإبداع" و لا "المثاقفة" و لا "الاختلاف" هو همّها، بقدر ما يهمّها "تكريس هيمنتها" و "تجنيد" بعض الأصوات بالترويج لنصوص تخدم خطاباتها و مضامينه من قيم فكرية و جمالية و أخلاقية. تماما كما تصنع "مراكز الإعلام" و "البحث الأكاديمي".
- الإعلام "المرهون": هو من أهمّ "أجهزة" الدّعاية "للنّصوص الرّديئة" و لأسمائها (و بالتالي، للقراءة الرّديئة)، و لذلك تلجأ إليه التجارب الأدبيّة "المحدودة" التي لا تراهن على "إبداعيّتها" بقدر رهانها على "أجهزة الدّعم الخارجيّ" و على "الدّعاية" تحديدا. إنه أخطر "الأجهزة"، إطلاقا، على "الكتابة الإبداعيّة و على "قيمها".
هذه المنظومة هي التي يجب أن تكون موضوع نقد "مستمرّ" كي لا يكون "جهاز التلقّي" لعبة في يد "المقامرة الدّعائية الرخيصة للرّداءة" و لكي تأخذ النصوص "الإبداعية بحقّ" حقّها من "ديناميكيّة التأسيس" لذائقة خلّاقة و منتجة "للمعنى بجمال".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى