إبراهيم محمود - مساءلة الطغيان.. "قراءة في كتاب نبيل سليمان: طغيانياذا"

نبيل سليمان( 1945-...)، الناقد، الروائي، والباحث العربي السوري المأهول بالهم الثقافي، يقتفي أثر الطغيان، في المرئيوالمسموع، في المكتوب والشفاهي. ليستشعر قارئه أنه ما كان في مقدوره أن يمضي متعدد المسارات في تعقب أصول الطغيان، أو ما يراها هكذا، إلا لأنه يكابده. كيف للثقافة أن تكون ثقافة وهي هنا تنسكن بشبح أو أشباح الطغيان، وهي مهدَّدة به، وهي في بعض منها تأتمر بأمر من يجسّده واقعاً، لينال من البعض الآخر الذي يحاول فك ارتباط به ؟

1678792689229.png


في كتابه الذي يصادِق عليه الواقع المعيش كثيراً كثيراً: طغيانياذا " حفريات في التاريخ الثقافي للاستبداد " 1 " ولو أنه ليس حديث العهد، يؤكد حيوية محتواه، ورعب المسمى فيه طغياناً !

1678792770838.png


هذا الكتاب الذي صدر قبل خمس سنوات، وقبل ذلك، يعرَف ببعض من أجزائه، فالجانب المقالي البحثي لا يخفى فيه، وهو مخاض تجربة مركَّبة، كما المعرَّف به، الجامع بين الحسنيين: الكتابة الأدبية: رواية ومتابعة رواية، والكتابة النقدية – الثقافية، والاثنتان توأما معرفة تسهما في إضاءة واقع معين، يتم تعيينه من خلال طريقة السرد في الرواية، والمقاربة النقدية في المقال/ البحث، كما لو أن كلاً منهما تشد الأخرى: شقيقتها إليها، وتصلان به، والإقبال على إحداهما سرعان ما تمضي به إلى تسمية أو استدعاء الأخرى، حيث لكل منهما لغتها في تمثيل الواقعة ونوعيتها.
وأحسب جازماً، لو أنهباشر بتأليف كتابه راهناً، بمختلف أقسامه أو فصوله حديثاً، لكان هناك تصريف آخر لكل من المتابعة النقدية الأدبية، وأمثلتها الحسية جهة الرواية، والمكاشفة النقدية الثقافية، وأمثلها الفكرية والدلالية، وتلك بداهة، جرّاء تنامي أهوال المعيش اليومي، وما انطلق منه روائينا وناقدنا نبيل سليمان، في : طغيانياذه:ه، لا أراه بعيداً عن التأثير به، بوصفه أكثر من كونه اختزالاً لما هو إنساني، ولحظة عتوّه يبلغ الذروة: التصفية، بصيغ شتى.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنني أستطيع القول، أن ما كتبه سليمان، ودون استثناء، منذ نصف قرن ونيّف، وهو بعمره المتقد اشتعالاً بالهاجس الأدبي- النقدي، حيث تعمَّد روائياً: من رواية ( ينداح الطوفان- 1970 )، إلى روايته( تحولات الإنسان الذهبي- 2022 )، يستحيل الدفع به خارج هاجس التفكير بما هو طغياني، أو ما له صلة نسَب بصورة أو بأخرى بالطغيان، فأعماله بالصيغة هذه تتنادى وتتثاقف وتتفاعل وهي تصعّد في نبرتها الفنية، أو النقدية، بمقدار ما يكون تبيّن لجانب الطغيان. بصيغة أخرى، إن كل كاتب، سواء اعترف أو لم يعترف، أو سمّى محتوى ما ينشغل به أو لم ينشغل، هو أشبه بـ " مشروع مقاومة " ضمني، لتسمية المجهول لدى المحيطين به، وهو الطغيان، قبل حضوره ونفاذ أثره، وإيقاظ من هذا الجانب، لأن الكاتب، بوصفه مثقفاً من نوع مختلف: مجتمعي، دون أن يكون مجتمعياً، بالمفهوم " المذوّب داخله، تكون ذاكرته المستقبلية معنية بتقديم أي جواب على سؤال مستخلص مما كتبه أو ألَّفه.
وهو في تقديمه لكتابه، يضعنا في سياق ما هو معروف به، ككاتب مخضرم، وفي لعبة الإمتاع والمؤانسة مع الحرف، يناوب بين حرارة الصورة وانثيالاتها التخيلية، وصواب التعبير عن الفكرة، وتجلياتها الاجتماعية وثقافية ...إلخ، كما هو المقروء في متن التمهيد للكتاب، بفصوله الأربعة والتي تتمحور حول الطغيان: تأريخاً، وأخيولات، وتفكيكاً وألواناً، ليتداعى كل من أشير إليه بالبداية: الجينالوجيا، والتنوع وتحرّي البنية،وكما هو معروف به، في المنادمة الفنية للنص الروائي، واللعبة الإعلامية وتأثيرها على ما هو ثقافي، وانشغال الكتاب بالموضوع وومدى ارتباطهم بما يكتبون، وبما يعيشونه، وما يفصحون عنه جهة الواقع، ومآل الكتاب....
عند هذه النقطة، يمكنني التأكيد على أن الرصيد الجمالي البحثي وتردداته الإشهارية، يحتفظ بأهليته لأن يقرَأ فيه ما هو مستجد حديثاً، وما يمكن أن يتحول إليه من خلال مأثوره الكتابي .
وعلي أن أشير إلى أنني بمقدار ما أجدني متفاعلاً مع كتابة سليمان في بداية كتابه، سيكون هناك نوع من التسارع في القراءة، شعوراً مني، أن الذي يثار في البداية يشد إليه تاليه، ويعمّق أثره، وأن الذي يمكن قوله على خلفية القراءة هذه، ليس من داع لأن يتكرر، ويسيء إلى فكرة الكتاب.

الكتاب الذي ينتبه وينبّه
لا شك أن ليس من كتاب يكون في عداد اسمه، إلا حين يجمع بين أمرين اثنين: أن يقوم على دعامة معرفية بصدد موضوعه، وفيه ما فيه ما يشتهيه، ويعرَف به، وأن يتجه إلى خارجه، كما لو أنه بانتظار قارئه، ليجد فيه ما يشغله، بصورة ما، أي ما يوسّع نطاق أنا الكاتب دلالة.
أي حيث ينتبه وينبّه . ولا بد أن سليمان، منذ السطر الأول تنبه ونبّه ضمناً إلى هذا الشاغل ما قبل المسطور تاريخياً، طي " التمهيد "بقوله:
( هل كان الشاعر اليوناني أرخيلوخوس ، حقاً ه، هو أول من استخدم كلمة ( طاغية ) عندما أطلقها على ملك ليديا، جيجز ؟
هل كلمة الطاغية كلمة ليدية ؟)
ولئلا يقلق القارىء، ويضيّق واسعاً، يمضي به إلى حِمى " لسان العرب " ليتلمس فيه ما يعزّز مفهوم الكلمة خارج التأطير(يقال طغى فلان، أي أسرف، في المعاصي والظلم ..)، ولئلا يمتعض قارىء آخر، جرّاء الشعور بقصور معين، يمضي إلى الفرس، وتسميتهم لبلاد القبائل التركية القديمة " تركستان الحالية ": توران، وقد تحوَّر الاسم عند اليونان فغدا: تيران، ومعناه طاغية ..ص 5 ) .
طبعاً، لم يحسم سليمان حقيقة نسب الكلمة، وإن كان هناك من يمكنه التساؤل عن هذا التوقف، أي بوصف تركستان: الرحم الذي خرجت منه الكلمة تلك، وصرَّفها اليونان، وكأن لا يد لهم فيها.أي حيث يجري الربط بين أصل الكلمة اللاحق" اللاتينية" والسابق" اليونانية (من اللاتينية tyrannus ("الطاغية ، المستبد") ، المستعارة من اليونانية القديمة τύραννος ، týrannos ("السيد"). " 1 "
وما يدفع بنا إلى مساءلة مفهوم الطاغية وحقيقة نسبها الليدي، لأن ذلك يضعنا في مواجهة تاريخ لا يمكن التأكيد منه بسهولة، فلدينا ما هو ملتبس جهة التدافع التأريخي والجينالوجي، ومكانة المرأة في كل ذلك، حيث تضاء شخصية جيجز ومن وراءه (قتل جيجز الزوجَ وأصبح طاغية. هذه الحكاية ختمت اتحاد المرأة والطغيان. لكن صورة المرأة لا يمكن حصرها في صورة محرض ، ولا في صورة ضحية عنف استبدادي. تسمح لنا إعادة القراءة المفتوحة للنصوص القديمة بملاحظة ظهور دور جديد لها: دور الرسول ، ناقل الاتصال بين الطاغية والمدينة.) " 2 "
ولعل حساسية الكلمة وهي في تردد أصدائها السياسية كما هو مقروء فيها وعنها، هي التي تحفّز- ربما- كل من له انشغال بما هو بحثي من هذا النوع، إلى محاولة تصفية مناخ ثقافته التاريخي- السياسي، وإزاحة كابوس الكلمة المتخوَّف منها جانباً، وما في ذلك من تحميل للمعتقدي .
وسليمان يُسمّي ما هو تاريخي في مصدره المأخوذ به هنا وهناك، ولأن الذي يهم هو هذا التجذر الاجتماعي للكلمة في التاريخ، وكيف انقسم الناس تراتبياً، وهي تميّز بين من السلطة المحتكرة لصالح طرف أو شخصية، وباسم القانون: قانون القوة، وحيازة قوى الآخرين لها.
سليمان يحيل الآخرين، في مختلف أسمائهم ومسمياتهم، واختلاف كتاباتهم إلى " منصَّته " القرائية فالنقدية وبطابعها المسحي الميداني أو البانورامي أحياناً، لتكون الفكرة أكثر قابلية للأخذ بها، والمثال أكثر حمولة بالمعطى المطلوب أو المتوخى، إنما دون أن ينسى " الآخر " في ذاته، أي جهة الإحالة إليه، أو التذكير، بما أسهم في وضعه روايةً أو كتاباً نقدياً أو ثقافية، ما يشبه السرد التاريخي، من جهة، وما يعزّز مكانة المكتوب لدى قرائه، حيث المعيش الواقعي بتشظياته له ما يمهّد له، على صعيد الطغيان، أو التوجه صوبه، وكأنه كاتبان هنا: كاتب الشهادة، وكاتب النقد المركَّب بين الأدبي والثقافي،لتعميق الأثر الاعتباري لمقول قوله.
وهو ما انشغلت به في مساحات متباينة على صعيد الاهتمام، ونوعية البحث، جهة استشعار رعب المفهوم: الطغيان أو الاستبداد الذي يتداخل معه، وفي أكثر من كتاب " 3 " :
سليمان، في التشديد على خطورة الواقع وتأزماته ومخاوفه، يريد من قارئه أن يكون مضاعفاً وعيه، وهو يقبل على قراءة كتابه، لأن الموضوع لا يقتصر عليه، إنما يشمل الجميع !
تأكيداً على أهمية الكلمة ورهانها في البداية، لا يخفي الكاتب" حديثاً خاصة " مدى إدراكه لما يأتي في مستهل الكتاب، أو يُكتب على ظهر غلافه، تحفيزاً للقارىء وقواه النفسية.
على سبيل المثال، حين نقرأ مستهل كلمة غلاف جاك دريدا " قوة القانون " بالفرنسية("الطغيان " ، هذه الكلمة القديمة التي تأتي إلينا من اليونان ، كيف نسمعها مرة أخرى ، وبأذن أخرى؟ ماذا سيكون الطغيان اليوم؟ ) " 4 "
أو حين نقرأ لجاك أتالي، المفكر الفرنسي المعروف، في كتاب " انفجاري " معرفي مكثف له، التالي(سيكون القرن الواحد والعشرون، في آن واحد، قرن التفجر والبهجة والهمجية والسعادة والغرابة والبشاعة، والتحرر، والرعب والتدين والعلمانية والحياة التي لا تطاق..) " 5 " .
وقبلهما، ما تفتقت عنه قريحة بورخيس من رؤى إنسانية، بخصوص هذه الجينة التي تستولد ميتاتها الاجتماعية في الجسد والروح، أي الطغيان، أو الاستبداد، والإجراءات المتبعة لجعله مسلكاً معمماً ومتوقفاً على شخص الحاكم المطلق، وأعني بذلك، قصته " السور والكتب "إذ يسرد بوخيس من متخيله المركَّب ببراعة، التالي( قرأت، منذ أيام مضت، أن الرجل الذي أمر ببناء سور الصين اللانهائي تقريباً كان ذلك الإمبراطور الأول، شيه هوانج تي، الذي أصدر مرسوماً أيضاً بإحراق كافة الكتب الصادرة قبل عهده..)" 6 "
هوذا الطاغية الذي يحيل الزمان، كامل الزمان إليه، ويمركز اسمه دون سواه، ويكون هو جوهر كل عقد اجتماعي، سياسي، تاريخي، وثقافي. أي يخاف فيخيف، ويرى الآتي متصرَّفاً باسمه، ويلغي ما قبله: الماضي، لأنه مبعث الأشباح والتهديدات: ما لا يدوم لأحد، فيلتقي التاريخ، من خلال مسح ما سبقه تأريخاً، والجغرافيا" بتقطيعها، لعزل عالمه عن الخارج، وما في ذلك من وهم ينتشي به هذا الإمبراطور، وهو يتعالى على منبته البيولوجي المحدود زماناً ومكاناً .
عربياً، يمكنني الإشارة إلى القلق البحثي والفكري الذي تملَّك واعية السوسيولوجي العراقي الراحل فالح عبدالجبار، وهو يعاني من لوثات الاستبداد عربياً، وفي العراق بامتياز،ليجد في بلده ذلك النموذج الذي يقاوم كل تصنيف، توازياً مع الجاري في مجتمعه المهدور إنسانياً، وتحت وطأة السياسة الشديد التمركز، أي وهو يدرس المجتمع العراقي الحديث، ومن زاوية الدولة العراقية الحديثة وكيفية إدارتها لهذا المجتمع، وكيف أنها في سيرورتها انحصرت في مسار مسدود، وفقدت اسمها كدولة، على وقع النظام الاستبدادي لها ( فالدولة الشمولية ( توتاليتاري ) على مدى قرن، من نهاية التنظيمات ( الإصلاحات ) العثمانية في سبعينات القرت التاسع عشر، إلى إرساء أسس نظام شمولي ( توليتاري ) في سبعينات القرن العشرين ) " 7 "
هنا، لا بد من الإشارة إلى نقطة في غاية الأهمية، وقبل الدخول إلى الفضاء الرحب لكتاب( طغيانياذا )، وهي أن بين سلوك الطاغية، أو ما يندرج في سياق الطغيان، وسلوك الكاتب المأهول بما هو مجتمعي، أو كوني، أنّى كان نوع شاغله: الأدبي، النقدي، والفكري، تناقض تام، حيث إن الطغيان يضيّق العالم، ويضع حدوداً مميتة بين منطقة انتشاره وما يُعَد خارجاً، بينه وبين الآخرين، وإن كانوا من أهله، جرّاء رهاب الآخر، بينما الكاتب فعلى العكس تماماً، إنه لا يُسمّي واسعاً، أو رحباً، إلا لأنه مصدوم بالضيق أو المؤطَّر كثيراً. الكاتب عدو الحدود ومتاريسها، عدو الطرق ونقاط التفتيش فيها، خلاف الطاغية أو المستبد، إن حرية الكاتب تعني في الحال: رفض الآخر، لأنه يختزل العالم، وكل من يحاول التماهي معه، استجابة لمصلحة ما تسلبه حريته .
ربما تتنوع الألقاب، إنما المحتوى يكون واحداً، كما في الحديث عن " نقض ثقافة الطغيان ". في الطغيان يستدعى ألوانه ( الديكتاتورية والاستبداد والثيوقراطية والأوليجاركية والأوتوقراطية، لا فرق في ذلك بين حزب أو رأي عام أو نظام أو شخص مفرد بصيغة الجمع، لأنه قائد و/ أو رئيس / مرشد / أمين عام ...
أما الثقافة فهي هنا بخاص روح الحضارة من علوم وأفكار وآداب وفنون...ص 11 )
ولحظة الدخول في المعمعة، نستشعر سخونة التحدي في استبدادية الجاري( بقيامة النظام العربي الشمولي ( الثوري والقومي والعسكري، المقتدي بخاصة بالشمولية السوفياتية المنهارة)، قامت اتحادات الكتاب العرب، وبخاصة في سورية والعراق والجزائر وتونس وما كان بُعرَف باليمن الجنوبي، قبل قرابة نصف قرن ومضت تلك الاتحادات من دغدغة النخبوية لدى الكتاب، إلى حشدهم في إطار مغو ٍ يلوّح بالتمايز، ويرمي بالفتات عبر النشر أو الضمان الصحي أو السكن التعاوني ..ص 12 ) .
ويمكن لأي قارىء أن ينفخ في الكلمات هذه، ليراها تشمل كل أصناف الكتاب الذين يحتشدون في مربع أو ضمن دائرة واحدة، مختومة رسمياً، والغرض: كيفية حجب الرؤية عن المختلف، وكما يريد أو يرسم من يكون الطاغية أو شبيهه، وكل ما تقدّمه يد هنا لا يعدو أن يكون صفعة مكهربة في الصميم بالنسبة للكاتب، وتجريداً من قيمته كشخص، حيث ( لا قيمة لإيجابيات الطاغية- يقول إمام عبدالفتاح إمام- بالغة ما بلغت، لأن الثمن باهظ جداً، وهو ضياع الإنسان ..ص 17 ) .
ذلك ما يستدعي النظر فيه من جوانب مختلفة، وبالنسبة لمحترف الكلمة ومعتاد معانيها . وتحديداً في جو الإرهاب المتباين في أسلحته، أقلها أنه نزّاع للأمان ومهدد بالموت، وهو الذي ملأ الدنيا وشغل الناس منذ عقود زمنية، بحيث تشكلت خلطة كبيرة، لا يعود في مقدور أي كان، وبسهولة، الوقوف على مكونات هذا الإرهاب وفي مهب رياح العولمة واستتباعاتها القانصة، و(يبدو أن لا منجاة لأحد من العصف الإعلامي المعنون بالإرهاب، والناشب منذ أحداث 11 ايلول سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، كما الحال عند الروائيين، وفي محور حول دوستويفسكي..قول البريطاني مارتن إيمس : الإرهاب هو تبادل رسائل سياسية بوسائل أخرى. الرسالة التي بعثت بها حوادث 11 أيلول سبتمبر كان محتواها كما يلي : يا أميركا، حان الوقت كي تعلمي كم أنت مكروهة... وقول سلمان رشدي: الإرهاب هو قتل الأبرياء..وقول أورهان باموق: فيما يتردد في أرجاء العالم صدى صرخات تدعو إلى حرب بين الشرق والغرب، أخشى أن يتحول العالم إلى مكان مثل تركيا، يخضع بشكل دائم للأحكام العرفية...الخ.) " 8 " .
وماذا عن السوسيولوجي العراقي الكبير شأناً: علي الوردي الذي نقّب في هذا النوع المحلي، المجتمعي من العنف والذي تنامى ليكون جرثومة الإرهاب فيما بعد؟ إنه العنف الذي يعرّي المعتبَر مفكراً أو كاتباً، وهو في المسار الذي يمضي بنفسه إلى التهلكة، أي ما يخص عبودية الذات(إن أكثر مفكرينا اليوم يتبعون، ذلك الأسلوب الذي يصفق للظالم ويبصق في وجه المظلوم....وشر المجتمعات هو ذلك المجتمع الذي يحترم طريقاً معيناً في الحياة في الوقت الذي ينصح الواعظون فيه باتباع طريق آخر معاكس له.) " 9 "؟
كثيرة هي الأمثلة، وسليمان، حين يسمّي جوانب حية وكاتمة للأنفاس، فإن في ذلك ما يحفّز على المزيد من المتابعة، اعتماداً على آلية قياس ثقافية، تحيل إليها مختلف الكتاب والمثقفين، وكيف أن هذا الواقع المرصود والمشار إليه، قبل حلوله بكامله، كان يشكل أكثر من مادة دسمة وفاعلة فنياً وفكرياً، من رواية: شرق المتوسط، وتالياً: الآن هنا " شرق المتوسط، مرة أخرى "، وكتاب: الإنسان المهدور، لـ مصطفى حجازي، وكتاب: أوهام النخبة، علي حرب، أفصح عن المشئوم من غده، اعتماداً على قراءة استباقية كان للمتخيل الطليق والجامع دوره في فعل الكشف هذا .
وعلي أن أنوّه هنا، إلى أنه من المستحيل بمكان، تسمية كل ما هو متضمن في الكتاب، جهة أسماء الكتاب في تنوع مقاماتهم، أو الجهات الثقافية، أو المناطق الجغرافية، حيث يترافق المحلي مع الإقليمي، مع العالمي، وبالعكس، وفي نطاق العولمة، تحديداً، ورعب الإقامة في حاضنة العولمة، كما أفصح عن ذلك جون بيرجر، وهو يعترف، كما يتتبع سليمان تدفق أفكاره المكثفة والدقيقة، وهو يفكفك الطغيان ( ليس من اليسير الإمساك بطبيعة هذا الطغيان، لأن بنية سلطانه الممتد من أضخم مئتي شركة متعددة الجنسيات إلى وزارة الحرب في الولايات المتحدة الأمريكية ( البناتوجون ) ، هي بنية مترامية ومنبثة في كل مكان . ص 23 ) .
وما يترتب على معايشة من هذا النوع، من تغيير في الأرضية التي يقف عليها المثقف، وكيف يكون في علاقاته، وطرق تفكيره، ووجوب التيقظ إزاء مقولاته ، استناداً إلى تحذيرات بول جونسون في كتابه ( المثقفون )، حيث يجب أن ( أن يكونوا دائماً محل شك)...والأكثر تركيزاً( ... لا تثق بالبيانات التي تصدر من بين صفوفهم المسننة. لا تصدق شهاداتهم عن القادة السياسيين أو الأحداث المهمة ..ص 27 ) .
طبعاً، يمضي سليمان بكلمة جونسون إلى نهايتها. نهاية كتاب جونسون بالذات، ونبرة التحذير من المثقفين، وهم يسكنون إلى أفكارهم أكثر م الناس الأهم من الأفكار، حيث ( الناس أولاً، وأن أسواء أنواع الاستبداد هو استبداد الأفكار الذي لا يرحم . ) " 10 "
واللافت أيضاً، أن سليمان يسائل جونسون عن مغزى كلامه، وما إذا كان هناك من تعارض بين ما يذهب إليه تحذيراً من المثقفين، وما يكون عليه الناس، لأنه من خانتهم، وكيفية تقويم كلمته، ومتابعته تستوقفنا، وتدعونا لأن نتصرف بالمثل، جهة ما يذهب إليه سليمان، فإذا كان المحذّر مثقفاً، ويطالب الآخرين بوجوب الحذر منهم، ففي ذلك ما يستوجب المساءلة، إنما في الوقت نفسه ما ينشّط قوى النفس، واعتماد ميكانيزم التفكير وليس التلقي الآلي، وهو المتوخى هنا، كما أرى!

الصورة التي تترجم الإعلام
تمارس ثقافة الصورة اليوم، أكثر من أي وقت مضى دورها، في الزج بالحقيقة في خضمّ مواجهة الواقع المنقسم على نفسه، وضبطه بالطريقة التي تتناسب وما هو منشود منها، لتصبح الصورة بخاصيتها التقنية، وهي في لعبتها الإعلامية، الواقع، والإعلام عبْرها تمثيلاً له.
لا غرابة أن يرتقي الحديث عن الصراعات التي تتخذ من الفضائيات: العربية وفيها الكثير مما هو مشكلٌ غزواً افتئاتياً من الداخل، حلبات تتقاسم المجتمع ومن فيه، والدفع به إلى الهاوية.
سليمان، لا يخفي هذا الانهمام بما هو " فضائي " وتحرّي الحراك الثقافي النافذ الأثر سمّياً في الجسد المجتمعي، ولا أكثر من الفضائيات العربية المتأسلمة، أو التي ترتدي القناع الديني، ومنه وإليه تبث خطابها المفعَّل ، حيث العنوان " فضائيات للطغيان " يفي بالغرض. والمثال الحي يتمثل في شخصية الداعية الحموي " عدنان بن محمد العرعور " حيث إنه كان عبر " فضائيتي: الوصال- صفا، يمارس دوره " النجمي " في خطابه التديني الطائفي، وأنا أستعيد صورته جيداً، في نبرة صوته، سيماء وجهه، حركته الجسمية، قيامه أحياناً، وما للحركة من خطاب لافت، في ( بداية الزلزال السوري ) بتعبير الكاتب وهو الأثير والمعهود لديه، توصيفاً لما جرى في سوريا قبل اثني عشر عاماً. و( بتحول الأداء الإعلامي لفضائية الوصال وضبهها، إلى منبر تحريضي عصبوي ومتطرف، تمزّق، أو على الأقل، تبقّع الإهاب الديني لهذه الفضائية أو تلك ، بالاطراد مع هيمنة السياسة على الخطاب الثقافي أو الإعلامي أو الديني . ص33 ) .
طبعاً، سيكون مملاً تعقّب الوارد، وهو بصنافته المتعلقة بأسماء الفضائيات و" عرائياتها " المدروسة والموجهة، وإداءاتها الشعبوية التي تمنح الكارثة فرصة تسميم الذهنية المتلقية للصورة وهي تقابل جانب التوتر، وتنامي دور المشاعر والهواجس إجمالاً لدى المتلقي، ولتكون العبرة في مأثرة النظرة ولقطة الفكرة ف، ( في ( السرطنة) الفضائية، فاق عدد الفضائيات العربية الثلاثماية قناة، منها ما هو ملك حكومات، أو أفراد أو شركات خاصة مرتبطة بحكومات، أو دول غير عربية. وكما ربط الفيلسوف الألماني هابرماس بين تقدم الأمم ومن يسيطر على الفضاء العام، بدا سريعاً جداً كيف يرتبط الشطر الأكبر/ أو الأخطر من تخلفنا بمن يسيطر على الفضاء العام، ممن تنقبوا زوراً وبهتاناً بالنقاب الديني...ص36 ) .
في هذا المسار الزلزالي ببروقه وردّاته، إن جاز التعبير، يمكن تبيّن الخريطة النفسية للذين عاشوا ولازالوا يعيشون ثقافة الصورة هذه، والفيض الهائل من الصور التي تحول الثقافة إلى لعبة إعلامية، والإعلام ليس الصورة إنما ما يجعل من الصورة تجسيداً ناطقاً ومغوياً للإعلام، ليكون الإعلام واقعاً ضحية لعبته، وما في ذلك من فساد وإفساد. وما يخص " ذهنية الإرهاب ".
ذلك يذكّرنا بالعبارة الصاعقة والعابرة للقارات للمفكر الفرنسي جان بودريار( حرب الخليج لم تقع ) توصيفاً لحرب الخليج، ودور الصورة الرهيب في التصعيد بما هو واقعي إلى نقيضه، فـ( نحن نعيش في عالم تزداد فيه المعلومات أكثر فأكثر، بينما يصبح المعنى فيه أقل فأقل.) " 11 "
يصبح الحديث اليوم عن الفعالية التسونامية المبرمجة حيوياً، لقلب الصورة على وجوهها، استنطاقاً لحقيقتها، وكيف أنها بجمعها بين الحسي والحركي تغذّي العقول .
وللعولمة أن تقول كلمتها، وهي تطلق أسماءها المعولمة والمتعولمة على الأشياء وقد تم تجريدها مما هي فيه محتوىً، وعليه شكلاً بالمقابل. وللكاتب والباحث والمعني بما هو إعلامي والمترتب قيمياً على الإعلامي إبراز المأساوي المنسوب إليه، والتأكيد على أنه ( لم تقم نهضة في أمة إلا وكانت الثقافة في قلب مشروعها، كما لم تتعثر أمة أو تتخبط في حالات الانتكاس والتقهقهر إلا وكان السؤال الثقافي في محاولة الجواب عليه في قلب جهودها للخروج من عثراتها واستعادة مكانتها وانطلاقتها، وبالتالي فليس عجيباً أن يتراكم هذا الكم الهائل من الأسئلة ومحاولات الإجابة في الإنتاج الثقافي العربي المعاصر ) " 12 "
ذلك يفتح أكثر من جرح في الخاصر، أكثر من صدع في النفس جرّاء هذا التكثيف الإعلامي وصراع تأويلاته، وحيث إن الطغيان يتنوع، ويتعدد في ألسنته، ونبرات صوته، وممثليه، إضافة إلى وارده من الشعارات والعبارات ذات الصلة، ومؤثراته، وكيف أنه يلغي الحاجز المسرحي، ويحيل " الجمهور " المشاهد " فاعلاً ومنفعلاً ومفعولاً به، خلاف المستهدَف:حيث الرفع من سوية الوعي هنا، ينقلب إلى الدفع بسوية الوعي إلى نعي للسوية تلك، وفي ( الأغنية في زمن الطغيان ) أكثر من مطل متحرك يكاشف تنوع الأغاني التي تتحرك في فضاء لطغيان. ومسار الأغنية وتحولها مما هو وطني إلى تمزيق له، من اعتبارها علامة فنية على إثراء متخيل المتلقي وتربيته من الداخل، في ( خمسينيات القرن الماضي ) مع نجم جمال عبدالناصر، كمثال حي هنا، إلى إيقونة كارثية، وهي تمارس تفتيتاً للذاكرة المكانية تلك، ولا أكثر من الأمثلة للتأكيد على ما تقدم، في البلاد العربية حيث يتحرى خطوطها الكاتب، وفي سوريا المثال البليغ. إذ إنه ( في زمن السلمية السورية القصير الذي أخذ يتبقع بالدم مبكراً، وأعنف فأعنف، صدحت الحناجر السورية..ص 46)، ويظهر مدى اهتمام سليمان بفتنة الأغنية واعتمادها في أمكنة كثيرة، كما يشير إلى خاصية استقدامها ومنحها حضوراً جديراً بها، في عنف مردودها أو تصارعاتها في روايته( جداريات الشام- نمنوما ) والأخرى ( ليل العالم )، وما يخص( نصيب داعش من الأغنية السياسية المعارضة كما في :" يا سوريا ويا أحرار/ غير الدين ما نختار..)، وما بلغته الأإنية السورية المعارضة هو ما صدح به سميح شقير مع عوده، كلمات ولحناً وغناء، ومن ذلك أغنيته الشهيرة المبكرة والموجعة : ( يا حيف ). وقد انسرب من هذه الأغنية إلى رواية ( جداريات الشام- نمنوما) هذا النص من أيام وليالي 2011: " سمعت هالشباب يما الحرية ع الباب/ طلعوا يهتفولا/ شافو البواريد يمّا قالوا: إخوتنا هن: ومش راح يغدرونا/ ضربونا بالرصاص الحي/ متنا/ بإيد إخوتنا/ باسم أمن الوطن/ وإحنا مين إحنا ؟ "..ص 49 ) ..
لا أكثر من الأمثلة، كما تقدم، وما يستحق النظر فيه، هو السعي إلى مكاشفة المثال في الصورة، حيث العين تحضر، وفي الأغنية، حيث الأذن تحضر، وبهما تحضر الحاستان، وهما اللتان تؤديان مهمة حيازة الجسد الناقل والمنقول إليه الأثر المسجّل باسمه واقعاً .
ذلك ما يواجهنا بما نحن فيه وعليه وفي قلب التيار الفائض على " متنه " النهري أو البحري، وما للإعلام من دور في بلبلة الذهنية المتلونة بالآتي من الخارج، وجعل الداخل مركَّباً تبعاً لسيستام الخارج وقد أريدَ منه وله أن يكون داخلاً، كما هي العلامة الكبرة لـ" المتلاعبين بالعقول " حيث ( إن المجال الوسائطي ينظّ واقعاً مكانياً/ زمانياً خاصاً، أي أنه يتميز بنظام سرعات محدَّد تقنياً ولكنه حاسم فكرياً واجتماعياً. ) " 13 "
وفي معاينة صلة النسَب بين كل من الصورة والأغنية والأداء الحسي الانفعالي والتعبوي لهما، في مخاض الأزمة السورية، وما كان يتردد خارجاً، تسهل عملية القبض على الحقيقة المرّة كما في استتبعات الحادث تفعيلاته المعتقدية، ووضعية " السرنمة " لمجتمع بكامله تحت التأثير الذي يُرى، ويُسمَع في جسده الجاري تحريكه وقد جرى تفكيكه ليعود هو وليس هو .
ذلك ما يضعنا في وضعية المصدوم بما هو معلوم في ضوء الحادي، أي حيث يستولد المسطور، وهو في سياق المعبَّر عنه، ما أراه جديراً بالتثبيت: اللقيط الي يعدَم أبوَّته الفعلية، فينتقم من كل من يقوم في مقام الأب، ويحقد على أمه، وربما ليستحيل طاغية من نوع آخر .
ربما هكذا أمكن النظر فيما حضر من القول وهو في محتواه الثقافي المعمول، وذلك في عهدة " الجهل المقدس "، حيث (إن المجتمعات التي تبتغي أن تكون دينية في المقام الأول تقرّر تقليص الهوامش والانحرافات، فهي إذاً محكومة بعدم استقرار دائم، لأن مطلب الطهارة يضع كل إنسان في موقف مشكوك فيه ولا يُحتمَل.) " 14 "

في سياق التسامح: لا تسامح
في الوقت الذي انتقل سليمان من مساح ميداني لكل من الصورة: عمودياً، والأغنية أفقياً، هوذا ينتقل إلى مساح تاريخي ثقافي لمفهوم التسامح، وذلك على خلفية من الطغيان. ماالذي يكون في مقدور التسامح أن يقدّمه ليشكل واء لداء مستفحل ؟
ثمة التاريخ الذي يعايَن بالتاريخ، إنها تجارب قائمة، ولها دلالتها، أوربية التجنسية، وقبل ذلك، في الأدبيات العربية الإسلامية " ص 59 " وهو يعطي قيمة ملموسة، معتبَرة لتقديم الباحث والمترجم المغربي سعيد بنكَراد في ترجمته لكتاب فولتير( قول في التسامح ) بما ( هو نص في التسامح، يبدأ بالتأثيل المعجمي المختصر، ومنه ( السماح رباح) أي مصدر لراحة النفس والعقل. ص 61). في التسامح نقف إزاء وضعية الخطر المحدق بنا مجتمعياً والتسامح يكون مطلوباً لمواجهة الجاري فـ( في التأسيس الفلسفي للتسامح يرى بنكَراد أن الحاجة إلى الآداب والأخلاق والمشاعر الخاصة هي الحاجة إلى ضوابط تحد من فوضى الانفعالات والأهواء.ص 62).
سليمان يثّمن جهد بنكَراد مترجماً ومقدّماً لترجمته، لأن في ذلك ما ينفعنا إن أردنا خروجاً من هذه الفوضى أو البلبلة الرهيبة، ويمضي مع بنكَراد ما مضى إلى قوله هذا في مختتم تقديمه( وقد نكون نحن، في عالمنا الإسلامي، أول وآخر من يلتقط النبتة ويعتني بها، فقد تعطي ثماراً تجعل حضارتنا قادرة على احتضان كل أبنائها باختلاف ديانتهم ومذاهبهم وطوائفهم . ص 69 ).
إنها رغبة في رغبة في رغبة: رغبة فولتير في تحقيق التجاوز لما كان مأساوياً في مجتمع، بتجاوز الطائفي وإحلال الائتلافي، ورغبة بنكراد في تجاوز النظير في مجتمعه، بطرح الخلافي جانباً، لأن ثمة ما يُتَّعظ منه في تاريخ يمضي إلينا بمأثرة منجزه الأخلاقي، ورغبة سليمان في توسيع النطاق القيمي والرمزي لما أفصح عنه نظيره الثقافي، بتجاوز الزلزال السوري، ونحن نعاين " العصف المأكول " أنّى اتجهنا ..
ذلك مؤثّر، وليس بالمسألة السهلة، وإزاء مفهوم التسامح، وحقيقة أمره واقعاً في بلادنا، وما هو شديد الصعوبة جهة التركيب، وأطرافه، جهة التقابل بين الذين يُشهَد لهم بطول باعهم في إيذاء من حولهم وفي تاريخ طويل، والذين يُشهَد لهم بمدى تعرضهم للعنف بعائده الطغياني، وما يجعل من مفهوم التسامح أشبه بصوت يوحنا المعمدان في البرّية، و (إن أخطر أشكال اللاتسامح هو لاتسامح الفقراء، أول ضحايا الاختلاف- حيث- لاوجود لعنصرية بين الأغنياء: إنهم قد ينتجون عقائد للعنصرية، ولكن الفقراء ينتجون الممارسة، وهي أخطر من العقيدة.) " 15 "
إنه التحدي الذي يجدر بالمثقف التوقف عنده، وهو مع نظيره، مختلفاً، مؤالفاً، بين بين، وفي مجتمع لم يعد كما كان في طبيعته الاجتماعية، وعالم التنقلات الكبرى، وفي مناخ ملتهب مما هو سجالالي ومساق بما هو طغياني، وموقع المثقف في كل ذلك، وحتى على صعيد عالمي، أي ما يدفع بالمثقف: كاتباً، ناقداً، مفكراً وفيلسوفاً، لأن يصعّد من مهمته للحيلولة دون وقوعه ضحية إرهاب أو طغيان، ومشروعية التركيز على هذا التوتر العالمي، وما لأجله يكون السعي الثقافي والسياسي في آن طبعاً( بعد العديد من الاغتيالات التي استهدفت الكتاب والمترجمين والناشرين وضحايا التعصب الديني والأنظمة الشمولية أو الاستبدادية ، قرر المثقفون ، في تشرين الثاني 1993 ، تأسيس البرلمان الدولي للكتاب. ويجمع بشكل خاص بيير بورديو ، وجاك دريدا ، وإدوارد غليسان ، وتوني موريسون ، وسلمان رشدي.) " 16 "
إنه التحدي المضاعف في ضوء المستفحل واقعاً، ومن جهة الذين يعانون من العنف وألوانه. وهو يدفع بنا لمعاينة ما هو تاريخي واجتماعي، أي ما يأتي لنا به التاريخ قمعاً وعنفاً بالمقابل.
وهو ما ينتقل بنا إلى الموقع الهش للمثقف، وتحديداً في المعتبر ( زمن البلطجية والتشبيح ) كما شاء قلم سليمان أن يخططه. أي سلاح لدى المثقف في مواجهة هذا الوباء المستطير؟ حيث إنه ( بفضل الفضائيات دوَّمت كلمة الشبيحة. ص 79)، وللتنوير الدلالي ( في اللغة يتعالق البلطجي بالبلطة، فهو حاملها. وقد كانت البلطة سلاح الحرس الشخصي للحاكم التركي في العهد العثماني. ص 80)، وهناك ما يناظره واقعاً ( يقترح ممدوح عدوان أن يقال للشبيح أو البلطجي: المتسلط والمتنمر. ص 81)، وهكذا نشهد( أن الشيخ المتعلم أو الشيخ المثقف ملكي أكثر من الملك . ص 82)، و( غير أن الشبيح المثقف يشارك مع صنوه غير المثقف في صفان جمّة، فواحدهما ذاكرته ضحلة، وقه وحسود، ناكر للجميل، وبليد، متقلب المزاج والرأي، بهلوان وعاجز عن الاعتراف بالخطأ أو الاعتراف بالآخر، إلا أن يكون سيداً له..ص83).
تلك مفارقة، ولكنها واقع حال، لا يعود الموصوف هنا بعيداً عن دائرة الضوء، ومن خلال صلاحيات القوة الممنوحة له، في سياق: الجهل المقدس، والإرهاب المقدس، والضعف المقدس، إن أردنا تأصيلاً، ولو إلى حين، لهذا البلطجي المعدوم القيمة موقعاً، ولكنه الملغوم مسرحاً متحركاً لعنف مستشر ولا يكف عن ملاحقة ضحاياه أو إيجادهم، لأن هناك ما ومن يهيء له.
وهكذا هو حال المثقف أو زعم كونه مثقفاً، وفي عالم اليوم، ودوره في الرفع من رصيد الجهل المقدس، والإرهاب المقدس. وما يلحق بكل كلمة من عبارات تعميقاً لأثرها، وحتى ما يدخل في إطار حديث سليمان عن ( السربستية ) ممن يتفاخرون بما يقومون به، أو يتنشطون باسمها. حيث دعوى الحرية وربطها بالكرامة والعدل والصحافة، وتفسخ المفهوم واقعاً. وسليمان يذكر بأن كلمة ( الحرية ) تقابل هنا الكلمة التركية ( السربستية ) . ص86 )، وهو غير صحيح طبعاً، إذ إن " سربست " كلمة كردية في الصميم، واعتمِدت في التركية، شأنها شأنها مئات الكلمات، كما هو الحال مع العربية لحظة القيام بجردة حسابية للمأخوذ بلسان تركي، وهو ليس تركياً .

توسيع الدائرة وهي واسعة
سليمان ، كما يبدو، لديه الكثير مما يكتب فيه، وأقدّر في هذا المنحى، أنه يكابد غزارة المطروح أمامه، وما يراه في محيطه، وهو يتنقل، كما أسلفت بين ما هو بحثي، لغوي، تاريخي، نقدي اجتماعي، وسياسي، وما هو أدبي، وفي بعض الحالات، يعطي السرد التاريخي وبنوع من التبسيط، حيث الهدف هو الوقوف على حقيقة المعلومة، كما هو المقروء في بنية توزيع عناوينه، حيث يلتقي ما يقرّبه من الصحفي، وما يقصيه عنه، وما يظهِر في شأنه من مكابدة، كما في فقرة ( يا سورية ) وتوقفه عند ديوان الشاعر الراحل رياض الصالح الحسين ( بسيط كالماء، واضح كطلقة مسدس )، وهو يرى في قصيدته ( سورية ) وكأنها ابنة يومها( ابنة ما تحياه سورية منذ الخامس عشر من آذار 2011...ص 88 )، وثمة مساحات واسعة تعطى لمقتبسات من نصوصه الشعرية، إضاءة للعنف المعتمد في سورية، كما في هذه المفارقة:
" بين يديك أيها العالم
نحن لا شيء
نردد الكلمات
الحرية.. الحرية., الحرية
الحرية أيتها الأصفاء والأسلاك الشائكة ". ص 92 ).
أترانا في قبضة " مستوطنة العقاب " لكافكا ؟ ربما!
وبالتوازي مع المذكور هنا، وما يجعل من الاسم ( سورية " أكثر حضوراً بطابعها الخرائطي الممزق منذ أكثر من عقد، وفي إهاب الشعري، ثمة الكثير الممكن قوله تنويعاً وتفريع أثر، حيث يُذكَّر هنا سليم بركات السوري الآخر، في مجموعته الشعرية ( سوريا ) رفعاً للألف تعبير عن رؤية أخرى لمختتم الاسم، وتجاوباً مع ذائقة الكتابة في رسم الكلمة، وما هو لافت في العنوان نفسه، وهو غير معهود في " العرْف " الكتابي جهة عناوينه إجمالاً، وما يمكن اقتباسه تعبيراً عما يشغل السوري داخلاً وخارجاً، ولكل نظرته ونوع تفاعله مع الجاري سوريا:
أيها البلد. عمركَ عمرُ ما لم تُعطه أحداً. عمرك السنونُ لم أعرفْكَ فيها إلا بلداً في زقاق بلد. لا عمر لكَ. هبنيه عمرك يحصى حزناً على كتف الحزن، وأوجاعاً على سلالم أوجاع، وخيبة في أثر الرجاء الخيبة، أيها البلد. المناحِل ذي، والعسل الجحيمُ ذا، ركبتاي خارتا. ما أملتُ خار..) " 17 "
وفي سياق الحديث عن المثقف الأديب والتهديد بالتصفية، حيث يلتقي الشعري بالروائي، في مواجهة الاستبداد، يزداد المناخ سخونة، والمأساة السلبية في التاريخ تعاظماً وتفاقماً. .
لنكون هنا إزاء تاريخ المثقف الأديب والروائي ضمناً طبعاً، في تنوع كتاباته، تاريخ معايشة الخوف من الذي يسوس مجتمعه، ويتربص به الدائر: من جاره الذي يلاصق بيتُه بيتَه، من أخيه، من أبيه وأمه، في بيته، لحظة التباين المعتقدي سياسياً، وللسلطة مأثرة التجسيد لكل أوجه العنف المحضَّرة والمشتغَل عليها، لجعل المثقف مؤمَّماً عليه لصالحها.
غير أن التاريخ يقول شيئاً آخر، مع الطغيان تحديداً، كما في ( ثقافة القصْل ) وهو عنوان لا يكف عن بث الخوف بدلالته فـ( القصل هو القطع، وقصَل فلان عنقك: ضربها، أما النحر فهو الذبح، ومنه: النحر في اللبّة مثل الذبح في الحلق..ص 97). ماالمستجد هنا
( لقد تطاول علينا ليل الدكتاتوريات من كل صنف ولون، مما جعل ثقافة الخوف المكينة في تراثنا ونفوسنا، تزدهر..ص 97 ).
وللرواية شهادتها في نطاق ما سماه سليمان ب، ( المسلخ السوري)، وهناك أكثر من مثال، حتى قبل الزلزال السوري، وللتعبير عن أزمنة متفاوتة :المسلة " 1980 " لنبيل سليمان، الإصيع السادسة، لخيري الذهبي، حارس الخديعة، لخالد خليفة، وما يوسّع حدود الدائرة خارج نطاقها العربي، كما في رواية السلوفاكي مناتشكو( ما لذة السلطة ). " ص 102 ".

مع أخيولات الطغاة
إنها لعبتهم الواقعية، وليست التمثلية، لاحتواء المجتمع في قبضة الدكتاتور بالذات، وفي أمكنة مختلفة من العالم، تأكيداً على أن اسم الدكتاتور مجاز، كما يظهر، عالمياً، وله نسخ وأشبه نسخ.
كما في الحديث عن الدكتاتورية العسكرية في الأرجنتين " 1966. ص 107 " والخلاف الدائر بين الكاتب البيروفي المعرف يوسا،وهو يخفف أوزار النظام في الأرجنتين، ليرد عليه مانغويل مفنداً وجهة نظره، ومنتقداً إياه في موقفه، كما تصرف الكاتب الأرجنتيني الآخر خوف خوسيه ساير، وجانب تماهيه مع السلطة في الأرجنتين " ص 108 "
طبعاً، يوسا كاتب كبير، من خلال رواياته، كما في رواية " التيس " حيث يتجسد الطاغية، كما توقف عندها سليمان مدققاً في حيثياتها الفنية الكبرى، ليرى التيس تمثيلاً للطاغية " ص 109 ". وهناك ما يتتيس عربياً( للتيسة العربية كما للتيسة الدومينيكانية ألأقابها الفخيمة، فهي السيدة المهيبة الرهيبة المنتقمة التي صدقت أنها شاعرة.ص 110).
نعم، يكن العمل البحثي والحفري في " بانوبتيكون " ميشيل فوكو، بجلاء، حيث القوة اللامرئي تبث مؤثراتها الضاغطة في جهات شتى، وتختزل الحياة اليومية بكائناتها المختلفة.
وربما أمكن التحرك إلى الأمام لنجد أنفسنا إزاء كشكول ثري من الأمثلة الروائي، وكيفية الاشتغال على كلمات والتصرف في بنيتها، كما في عنوان ( الجملكي، ويليه اللوليتاري )، في : الجمهوري الملكي، ومع رواية الجزائري واسيني الأعرج " المخطوطة الشرقية )، وروايته " أصابع لوليتا " حيث الحديث عن الاستبداد لا يتوقف، وما في الرواية من سحر يُسمي أصابع الكاتب: الأعرج، كما يرى سليمان " ص 118 " أي ما يعزز مكانتها لأنها تستحق ذلك.
وهو في متابعة ما يعنيه ويراه مؤثراً في كتابه، يتنقل بين ما يستفيد منه أدبياً وروائياً، وما يمنح قوله مكانة أكثر صلابة، جهة الاقتباس والاستشهاد، كما في حال فالنتين ستراسر ، دكتاتور سيرليون، وكيف استلهم شخصيته ، لبناء شخصيته الروائية، في رواية ( دلعونة ) أو في رواية ( جر السرائر ) " ص 119 " وهو يمضي في تنوير العلاقة بين الحالتين.
ولأننا بصدد الطاغية، يرى سليمان في صديقه المفكر الراحل بوعلي ياسين نموذج المثقف المقتدر والمعتد بنفسه، والضليع في مقاربة حقيقة ما يكتبه، كما في تناول ياسين لشخصية شهريار في " ألف ليلة ولية "في كتابه( خير الزاد من حكايات شهرزاد)، والتركيز على ( الدكتاتور الشهرزادي . ص 123 ).
وربما أمكن التأكيد على حديث سليمان عن محمد رمضان البوطي، وإشكالية علاقته بالمجتمع، بالسلطة، وبالكتابة، في فقرة معنونة بـ ( بدَد العمامة )، وشعبويته بالمقابل ، ومأساة نهايته، وهو في ورعه المرسوم وتدينه المعلوم " ص 130 ". وربما هكذا الحال، بصدد توليفات الطاغية، ومن يعملون لصالحه، أو باسمه، أو لأنهم ينتشون بالطاغية في داخلهم، يمكن قراءة " أحفاد الحجاج "، حيث يبرز صدام حسين في محاكمته، وأبو بكر البغدادي، وتباهيه بنفسه. وتلك القراءة السريعة والمظهِرة لطيات الطغيان، إن جاز التعبير، جهة التمثيل الأدبي والفكري في الواقع، كما في حال " أبا الذي .." مع أمل دنقل ةقصيدته " لا تصالح " " ص 146 "،وهستيريا النشوة لمعمر القذافي، وكيف سيَّد نفسه، على " رعيته " والتعامل معه في " هلوسات المندسين " والسردية المتشكلة مما هو مأساوي على خلفية من هذه المتابعة للطغيان، وفي ضوء السردية الليبية.( وعلى أية حال فقد شهدت الليالي التي تلت العشرين من شباط- فبراير 2011 ما هو أدهى وأدمى، مما سوف يعرَف بالليالي الليبية، والتي ستكون لها شهرزاد، أين منها شهرزاد ألف ليلة وليلة . " ص160 "

إلى عالم الطغاة والوصل بينهم وبين رعاياهم
في " أصناف الطغاة " يكون القاسم المشترك واحداً، بالنسبة للطغاة، في نظرتهم إلى أنفسهم، واحتكارهم للعالم من حولهم، وحيازة قوى المجتمع وتصريفها في مصلحتهم، ما يصلنا بما تقدم ذكره، أو النظر فيه ذكرَ أمثلة وتحليلاً، وربطاً بين عناصر كل فكرة. والطغاة هؤلاء يظهرون ويختفون، وفي نهايات لا تخفي فجيعتها ومهزلتها، كما في قول محمد الماغوط الذي اقتبس سليمان منه عنوان الفقرة هذه( الطغاة كالأرقام القياسية، لا بد أن تتحطم في يوم من الأيام. ص 165). وثمة ما يحفر في القاع، جهة " لسان العوام " في كلماتهم المتداولة، حيث تقول الموسوعة العامية السورية، إزاء ذلك( إن الطاغية أو الدكتاتور ( عنطوز ) و( عنقوص ) ، أي من أخذته العنطزة، وهي التعاظم والزهو بالنفس، وهو ( الطرماذ ) أي الصلف المفاخر النفّاخ. ص 167).
ولإثراء المعنى، ثمة ما يفصح عن ذلك، في نطاق الذاكرة الجماعية الشعبية والتي ترصد تاريخاً لا يقرَأ هنا، بقدر ما يجري افتراضه وتوقعه، على وقْع مفردات مشابهة في أمكنة أخرى، كما في كلمة " المكرود"، وهي المتداولة في العراق، ما/ من هو المكرود:
(والمكَرود، أيها السادة، من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، وليس لديه سوى انتظار فرج قد لا يأتي ومنقذ ربما يتأخر، ويجمع " مكَرود " على " مكَاريد "، ويصغًّر على " مُكَيريد "، لا تحبباً ولا تدليلاً، إنما استهانة بأمره، فهو إذا حضر لا يُعد، وإن غاب لا يفتقد، إلا في المناسبيات المليونية، حيث المكَاريد ينتظمون حشوداً لانتخاب القائمة الفلانية أو يخرجون إلى الشارع جماعات خلف جماعات لتأييد تلك الجهة أو معارضة هذه ) " 18 ".
وهذا يتطلب دراسة مركَّبة تصل ما بين المأخوذ بها شاهياً وكتابياً، وكيف تتشكل صورة الطاغية.
وهناك ما يحفّز على المتابعة تنويعاً وتنويراً، كما في تناول الكاتب شخصية " شجرة الدر " واستبدادها، بقوله الافتتاحي في الحديث عنها( لا أظن أن أحداً سواي أطلق على شجرة الدر لقب الديكتاتورة. وقد جعلني ذلك أبحث من حين إلى حين عن قرينات لها، ثم نسيت الأمر إلى أن أذكرتني به منذ سنوات ديكتاتورة الأرجنتين ( القديسة ) إيفيتا، التي أوقف لها الروائي الأرجنتيني العبقري توماس إيلوي مارتينيث روايته ( سانتا إيفيتا). ص 169).
هكذا الحال مع طاغية هاييتي ( الرئيس دوفالييه . ص 173).
طبعاً، وكما أفصح سليمان، فإن للطاغية حضوراً متعدد الأبعاد والصيغ في الأدبيات العربية- الإسلامية، في الشّعر وخلافه،وما يمارس تعرية للطاغية وهو ينوع في إيلام معارضيه. وأنا أشير هنا إلى العمل الأثير للباحث العراقي عبود الشالجي " موسوعة العذاب "، ومن ذلك:
(م1: العذاب شعبة من شعب الظلم، والظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه، وفي الاصطلاح: إيذاء الناس وانتقاص حقوقهم، وهو خلاف التقوى التي هي مخافة الله، والعمل بطاعته.ص 5-6 فصول: الشتيمة، شتائم غير موجعة، المعايرة، ألفاظ مختلفة في الشتم، الرفث في الشتيمة، طرائف في الشتم. م2: الضرب، الصفع، الركل، الرجم، التعذيب بالنطح-م3: الحبس والقيد.م4: التعذيب بالطعام والشراب: بسقي الدواء المسهل، والمقصود منه الإهانة والإيذاء ، لا القتل..ص 11- بالملح: رشه على الجرح..ص13-، بالحلق والنتف، التعذيب بالخصاء..ص 55-بالتعرض للعورة، بالسمل، بألوان من العذاب: حمل الأثقال،بإرسال السباع والحشرات، بقرض لحم البدن بالمقاريض...الخ. م5: القتل في المعركة، القتل غدراً،القتل بالشدخ بالعمود: القضيب من الحديد" البغداديون يسمونه كراز.ص 510- والقتل بالطبرزين: تبرزين من الفارسية، بمعنى فأس، وزين: سرج، حيث الأداة معلقة بالسرج..ص525- وبآلات غير معدة للقتل: المنشار، الرحى، السيخ الحديد، البارود..ص 543- م6: كتم النفس، الشنق، القتل بالسم، الإحراق والتعذيب بالنار والماء المغلي. م7: القتل بالجوع والعطش، القتل بصنوف العذاب ألوان من المثلة: سحب الجثث، صلب الجثث، المرأة: قتل المرأة بالسيف، تعذيب المرأة بالنار، بالضرب، بالحبس، إشهار النساء.. ) " 19 "
وما يصل بأمر المصلوبين في العصور العربية، بالنسبة للذين أبوا أن ينحنوا للمستبد " 20 "
وما نوَّه إليه باحث ومترجم عربي سوري، ومقيم في باريس، بقوله مستغرباً (يقال عن أن العرب لا يعرفون ولم يعرفوا محاكم التفتيش، ولكن: توجد في الإسلام مئات محاكم التفتيش وليس محكمة واحدة.. كما جرى مع محمود محمد طه في السودان، وفرج فودة في مصر، وآلاف المثقفين في الجزائر والعراق وإيران وأفغانستان وباكستان..ص 179، وما نشره الداعية السعودي الأصولي عوض القرني في " الحداثة في ميزان الإسلام " عام 1988 إشارة إلى أكثر من مائتي كاتب وشاعر وباحث وفيلسوف وناقد وصحافي عربي بإدانتهم وتكفيرهم، ومع السعودي الآخر سعيد ناصر الغامدي مكفراً الحداثة في العالم العربي ومن معها..) " 21 "
....
ما يهم هنا، هو هم الطاغية والذي يجعل مجتمعاً بكامله في قبضته، متحكماً في مصيره، وهو ما يبقينا أكثر يقة تجاه الذي نعيشه، ومن هم الذين " يعكّرون " علينا " عيشتنا " ليل نهار.
وأحسب أن عنوان الفصل الرابع يثري المدون هنا، أي " ألوان من الطغيان " وهو مؤكَّد، طالما أن كل طاغية يتفنن في رسم سلوك مختلف له، يميّزه عن غيره، ليُعتد به . حيث يريى الكاتب أن كلمة الطغيان تقابل الدكتاتورية، والطاغية الدكتاتور " ص 181 "، وما أكثر ما قيل في هذا الجانب في الشعر العربي من كيل مديح، وثمة ما يفي بالغرض في هذا السياق" صص 182-185".
وليعزز من مكانة الاسم تنويراً وتدبير أثر وتفكيراً، يرى في الذي كتبه بوعلي ياسين مهماً، وفي أكثر من كتاب: عين الزهور: سيرة ضاحكة- أهل القلم وما يسطرون، حيث إن الكاتب يتحرى طبيعة علاقة الرقيب الاجتماعي بالكاتب ومعاناة الأخير منه،وفي أمثلة كثير، وفي إطار ما سمّاه بـ " الرابوق والروبقة "، ومن خلال نماذج مذكورة: فارس زرزور وهاديا سعيد وعبدالمعين الملوحي وعلي فرزات وفدوى طوقان وفتحي غانم وكاتب هذه السطور وسواهم ( لكن كلح صور المعاناة مع الرابوق الرسمي أو الدولتي أو المؤسساتي أو البوليسي أو السياسي، هو كلح أكبر وأمرّ..ص 187 )، ويمكن التذكير بأمثلة ومنها ما هو روائي، كما في رواية " النهر المحول " لرشيد ميموني، و" يانا عليّ" لمحمد الأصفر، و" الرجل العاري " لـ أبو بكر العيادي، وما يخص مفارقات الكاتب المبدع وطبيعة علاقته بالسلطة، كما في حال زكريا تامر، وتقليد النظام له وساماً، وقد احتفى به الإعلام السوري، وموقعه في عالم الكتابة والكتابة، حيث يخاطبه الكاتب: سليمان، مذكراً بعمله في الرقابة على الكتب، وحديث تامر عما ينبغي أن يكون عليه الكاتب، ويظهر أن تامر في مقابلة له حول ذلك غمز من سليمان، ونقد الأخير له( فالكتب الممنوعة منذ عهدك في الرقابة، وإلى يوم غير قريب، مسألة بالغة الجدّية...ص 206 )، ولعلها مأساة مضاعفة في الحالة هذه، مأساة، لأن الذي يعيشه الكاتب هو مناخ مأساوي، وليس من ضمان لأن يعيش آمناً على روحه، سالماً من يد آثمة، أو ضربة مباغتة، ولأن الذي يأتي إيلاماً ومضايقة من نظيره الكاتب، يعمق في جرحه النفسي، ويعرّضه لمكابدات أكثر، خصوصاً وأنه يدرك جيداً أن الآخر: خصمه، والمتحّل عنه شريكه في أصل المأساة الأولى.
وثمة ما يضيء صفحة الطغيان، جهة المرئي والجاري واقعاً، كما في عنوان " في البذل والبرطلة والشفط " حيث يجري ابتزاز الكاتب، ومضايقته في نفسه وفي كتبه، ويرى في كتاب عبدالرزاق محمد( البذل والبرطلة من المماليك ) اكتشافاً مبهجاً، حيث التأريخ للشفط ومن باب الرشوة تاريخياً، ويعترف سليمان بما هو مرغَم عليه، ليس تباهياً أو تألماً ( بالطبع، واجهت الرشوة وجهاً لوجه بعد المرة الأولى مراراً وتكراراً، كأي مواطن يؤمن بسيادة قانون الرشوة ( أو الشفط ). ص 219).
وهذا يدفع بنا إلى الالتفاتة قليلاً إلى الماضي القريب، وكيف كان الكاتب يتنفس بحرية أكثر، وعلى أعلى مستوى مقارنة بالجاري، حيث حضور الطاغية أقل، أي قبل ظهور ما يُسمى بـ " الأنظمة الوطنية "، ومن مواقف الكتاب المعروفين في الشأن الديني، كما يشهد كاتب عربي ومعاصر على ذلك، بقوله عن رمز من رموز المسلك الديني قولاً وكتابة(عندما كتب سيد قطب، في الأربعينات عن نجيب محفوظ، يتساءل في النهاية: إن الذين حاولوا اغتيال نجيب محفوظ قد قرأوا بدون شك " معالم في الطريق " لسيد قطب، ولكن هل قرأوا لنجيب محفوظ بالذات؟ بل هل قرأوا ما كتبه سيد قطب عن نجيب محفوظ في الأربعينات؟ ربما عندما تتحقق أمنية سيد قطب القديمة بأن تصبح قصص نجيب محفوظ في يد كل فتى وفتاة، يكون ذلك مؤشراً على انتقالنا من عصر الإيديولوجيا إلى عصر الثقافة.) " 22 "
هذا يقودنا منطقياً، إلى " حيونة الإنسان " كتاب متعدد المواهب الراحل ممدوح عدوان، والذي أثار لدى سليمان الكثير من التخيلات في بدعته، حيث ( تتسرطن الأسئلة مثل الأجوبة في كتاب( حيونة الإنسان ) كما في الروايات والقصائد واللوحات والأغنيات والأبحاث والمنشورات وكل ما أبدعه الإنسان وهو يواجه تحوينه، حاكماً ومحكوماً، جراء الديكتاتورية أو الطغيان أو الاستبداد أو العنصرية أو الصهيونية أو النه أو الإيديولجيا أو..ص 223 ).
و" أو.." لا تعني النهاية، وإنما ما هو أوفر وأغزر حضوراً، وما يعبّر عن سلسلة الاستيلادات ذات النشأة الطغيانية، وفي مجتمع يستمر في إيجاد أنواع الطاغية المختلفة أكثر من أي دواء يتم البحث عنه لمواجهة مرض عضال، أو وباء مستفحل، كرمى بقاء الطاغية بالتأكيد.
وما يصل الكاتب ويصلنا معه بما يخص ( المحظورات في الكتابة والحياة . ص 229 ) تحت عنوان " أبو اللوكنة "، وكيفية التصدي لهذه الظاهرة، ومن يسخّر نفسها من أجلها.
وهكذا الوضع جهة مقام الكاتب بين المحنة والمنحة، وفي الأولى أكثر ظهوراً وسفوراً، ولو أن المنحة جِدت، ولو في حدها الأدنى، ربما لما قرأنا كتاب : طغيانياذا، وما يصلنا بالكتاب وسردياتهم القائمة على ضمير المتكلم " حال غالبا هلسا وبعض أعمال ادوارالخراط " ناحية مكابدة السجن وقد ( بلغت المدونة الروائية العربية المتعلقة بالسجن مبلغاً عظيماً، ليس في العدد، وإن يكن العدد هائلاً، بل في الإنجاز الفني . ص 234).
وما يواجهنا بالأكثر توتراً وتميزاً بالإرهاب في تسعينيات القرن الماضي، مع ظهور ما يُسمى بـ " ثقافة المسدس " وشغف هذا الكاتب/ المثقف، أو ذاك به، وهو يتنفس في ظل الطاغية :
(ظهور ثقافة المسدس في التسعينيات حيث يحمله المثقف: لم يكن الأمر آنذاك غريباً بالمرة، فالعراق الذي استغرق في لون الخاكي، أثناء حرب السنوات الثماني وبعدها، كان متخماً بمثل تلك الرموز، المسدس، الرشاش، الحرية، السيف، الحذاء المقوس، النطاق، بدلات الزيتوني الأنيقة، وحتى أجهزة اللاسكي..) " 23 ".
وبالطريقة هذه يبلغ العنف أوجه في التعبير عن " نفسه " وتسميه جلاديه وضحاياه، وفي سياق تنامي التدين ومظاهره لدى مختلف الشرائح الاجتماعية، وما في ذلك من إمكان الحديث، وبثقة، عن ذلك الخط التاريخي الماراتوني الطويل لهذا النوع من العنف المهدد للإنسان في قواه النفسية وإمكاناته الثقافية، وحياته الفعلية، فـ (في الحديث عن الدين والتديّن، الدين والعقل، الدين والواقع، الدين والعلم، الدين والقانون، مازالت الحقبة المظلمة التي يقابلها في أوروبا القرون الوسطى تسكن الكثير من عقولنا وتعشش في لغتنا السائدة والمستخدمة بقواميسها ومفرداتها واشتقاقاتها وأحكامها وتتحكم في سلوكنا وتهيمن على عاداتنا وتقاليدنا لتفرض الركود والرتابة والنمطية والشكلانية على حياتنا وتفرش جناحيها على نمط تفكيرنا لتجرّنا إلى الماضي بدلاً من التطلّع إلى المستقبل..) " 24 "
لنكون إزاء التمييز المطلوب بين " أديب وأديب، فالأديب اللاطغياني نقيض الطغياني، وهو( الذي ليس ببوق ولا ملحق، فليس له من موقع اليوم إلا على الهامش. ص 236)، وليكون للكاتب وقفة معتبرة، رغم إيجازها مع رواية روزا ياسين حسن " الذين مسَّهم السحر " وصلتها بالزلزال السوري، وتلك التحويرات في بعض الكلمات، حيث إن تعبير" الحفلة " هنا، كان يدل على الاشتراك في المظاهرة " ص 242".
ويبدو العنوان الأخير" هذيان بانتظار الموت " نعياً لما تقدم، واستفظاعاً له، وتخوفاً من الآتي:
( هذا محشر جديد ما عرفت مثله محشراً.
هذا محشؤ يضيق بصخب المثقفين والساسة وأشباههما، وليس بينهم من يرضى بأقل من أن ينطق باسم الشعب..ص249)، وما يترتب على كل ذلك من انتظارين بينهما غاية الخلاف فيمة وأثراً( بانتظار الموت، أو بانتظار الحياة . ص 251 ) .
ينتهي كتاب " طغيانياذ " في مكتوبه دون أن ينتهي في منكوبه ومحسوبه، لأن الطغيان منتشر ومتجذر هنا وهناك في النفوس والرؤوس، على الألسنة وفي الكتب، سوى أن المعطى هو شهادة من كاتب، لا بد أن هناك بصم عليها بالعشرة، ومن سحب العِشرة، ومن حسبها شهادة لا تخلو من إشكال، ولا أكثر من المسوغات الدافعة إلى هذا الموقف، ومن يبهم إزاءها، لأنه مأهول في نفسه بما يخيفه، أو يقيّده بين انتظار الموت وانتظار الحياة، حيث الطغيان مرئي ومسموع ومعاش نفسياً، وهو ما يمكن تأكيده، بشهادة الشهود، أو بشهادة الواقع وإحداثياته اليومية الصادمة.





مصادر وإشارات
1-https://fr.wiktionary.org/wiki/tyran
2- Claire Jacqmin: La femme entre le tyran et la cite” Réflexions sur le ole de la femme dans les régimes tyranniques”
كلير جاكمين: المرأة بين الطاغية والمدينة " تأملات في دور المرأة في الأنظمة الاستبدادية "
3-ربما كان كتابي: الحنين إلى الاستعمار " قراءات في أدبيات عصر النهضة " دار الينابيع، دمشق،تموز 2000، أهم كتاب في هذا المضمار. وتالياً: الثقافة العربية المعاصرة " صراع الإحداثيات والمواقع "، دار الحوار، اللاذقية، 2003، وفيه جملة موضوعات تصلنا بالراهن...
4-Force de loi: Jacques Derrida, Réédition de 2005.
5-جاك أتالي: معجم القرن الحادي والعشرين، تعريب: يوسف ضومط، دار الجيل، بيروت،2000، ص 5 .
6-بورخيس: مختارات الفانتازيا والميتايزيقا ، ترجمة وتقديم: خليل كلفت، دار شرقيات، القاهرة،ط1، 2000، ص 133.
7-فالح عبدالجبار: كتاب الدولة " اللوياثان الجديد "، نقله إل العربية: فريق ترجمة، منشورات الجمل، بغداد- بيروت، ط1، 2017، ص 12 .
8-نبيل سليمان: الإرهاب في الخطاب الروائي العربي تونس- السعودية- سوريا، مجلة فصول القاهرية، ع 61 شتاء 2003 ، ص 206 .
9- د.علي الوردي: وعاظ السلاطين" رأي صريح في تاريخ الفكر الإسلامي في ضوء المنطق الحديث" ،دار كوفان، لندن، ط2، 1995.ص 13-18 .
10-بول جونسون: المثقفون ، ترجمة: طلعت الشايب، منشورات رؤية، القاهرة،2018 ص546. واللافت، أنه يخصص الفصل الأول عن جان جاك روسو، وملحقاً إياه بتوصيف: ذلك المجنون الممتع . ص5 .
11-جان بودريار: المصطنع والاصطناع، ترجمة: د. جوزيف عبدالله،ترجمة: د. سعود المولى، منشورات المنظمة العربية للترجمة، بيروت،ط1، 2008، ص 147، وجهة عبارة بودريار المذكورة، ينظَر في تقديم المترجم للكتاب، صص 7-43.
13-ريجيس دوبريه: محاضرات في علم الإعلام العام – الميديولوجيا- ترجمة: د. فؤاد شاهين- د. جورجيت الحداد، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1996، ص152.
14-أوليفييه روا: الجهل المقدس" زمن دين بلا ثقافة "،ترجمة: صالح الأشمر،دار الساقي، بيروت،ط1، 2012، ص 180 .
وهو ما نتلمسه لدى باحث عربي معاصر، وهو حميد زناز، في كتابه ذي الدلالة النقدية: فصل الكلام في مواجهة أهل الظلام، دار الساقي، بيروت، ط1، 2009 ، كما في قوله:
عبر نافذة الجهل والتجهيل خُلقت شروط معنوية وتعبئة نفسية ضخمة لمحاربة الحس السليم. وهكذا غزت الظلامية كل القطاعات المجمعية وتسللت حتى إلى مخدع المؤسسات الرسمية وأصبحت العقل المدبر في كثير من البلدان ص20..
15-- امبرتو إيكو: دروس في الأخلاق، ترجمة: سعيد بنكَراد، المركز الثقافي العربي، بيروت،ط1،2010،ص 144.
وقد آثرت نقل هذه الكلمة لإيكو، ومن ترجمة بنكَراد نفسه، تعزيزاً لفعالية النقاش وتعميق أثره .
16- Jacques Derrida-Edouard Glissant” Dialogue entre Édouard Glissant et Jacques Derrida”
جاك دريدا إدوارد غليسان "حوار بين إدوارد غليسان وجاك دريدا"
17-سليم بركات: سوريا، منشورات المدى، بيروت- بغداد، ط1، 2015، ص124.
18- محمد غازي الأخرس : المكَاريد ودفاتر خُرد فرّوش : حكايات من سرداب المجتمع العراقي ، منشورات سطور، بغداد، ط1، 2018.ص 47.
19- عبود الشالجي: موسوعة العذاب، الدار العربية للموسوعات، بيروت، ط2، 1999، وقد أوردت أرقام الصفحات في المتن من باب الإيجاز .
20-ينظر كتاب،خازن عبود: المصلوبون في العصور العربية، دار الحرف العربي، بيروت، ط1، 2004 ، وما يأتي في أهداء الكتاب:
إلى الأجيال الطالعة على أمل أن لا ترتكب الأخطاء والمثالب التي ارتكبها الأجداد.ص5.
21- هاشم صالح: الانسداد التاريخي : لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي؟ دار الساقي، رابطة العقلانيين العرب، بيروت، ط1، 2007 .ص 179-180.
22- محمد الحداد: مواقف من أجل التنوير، دار الطليعة،بيروت، ط1، 2005.ص 63.
23- محمد غازي الأخرس: خريف المثقف في العراق " 1990-2008 "، دار التنوير، بيروت، 2011.ص 101.
24- الدكتور عبدالحسين شعبان دين العقل وفقه الواقع : مناظرات مع الفقيه السيد أحمد الحسني البغدادي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2021 .ص 9 .


1678792635364.png

نبيل سليمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى