محسن الطوخي - الحلم سبيلا للانعتاق.. قراءة في القصة القصيرة "رؤيا خروج" لـ ناصر الحلواني

"عندما يكون الحلم هو سبيل الانعتاق، ويصير بديلا للفعل، يعني هذا انسداد الأفق."

تعرض التجربة المطروحة رؤية مستقبلية ترهص بقدوم المخلص ليمحو الظلم، ويحقق العدالة بقوة فوقية تأتي من الغيب.
أو رصدا لحالة تواكلية تلقي عبء التحرر على قوة خارجية، وتلغي إمكانية تغيير الواقع بقوة الفعل.
يحتمل النص أن يتفاعل معه القارىء مستخلصا التجربة وفقا للمسار الذي يتوافق مع قناعاته، وموقفة من الحياة.
يهيمن المناخ السياسي على أفق التجربة. فنحن بإزاء جماعة من سجناء الرأي. يتأكد ذلك من خلال تصوير المعتقل النائي، الملقى في فضاء رملي مترامي الأطراف.
ومن خلال الأنشطة المسائية التي تعقب غلق ابواب الزنزانات. فتخرج الأوراق المخبأة، والأقلام المدسوسة في أرغفة الخبز، ويشرع السجناء في مجاهدة النسيان، والغربة بكتب يحفظونها في صدورهم. فالأوراق، والأقلام، والكتب أقانيم تؤكد الهوية الثقافية للمجموعة. ولعل في هذا مايفسر غياب شخصية محورية تضطلع بحمل التجربة القصصية، وهذا الغياب أعطى للنص زخما ذهنيا يفترض أنه يرفع من قيمة الفكرة، إلا أنه من ناحية جعل التجربة نخبوية.
تقع الرؤيا في مركز التجربة القصصية. كل التفاصيل تؤدي إليها، وترهص بها. وليس من المناسب مناقشتها
وما ترتب عليها من نتائج بمنطق العقل. يمكن فهمها فقط بمنطق العاطفة والوجدان. فطبيعة (الرؤية)، ومغزي ظهورها للسجناء دون الحراس، ورسوخ الإيمان بها حد شروع السجناء في لملمة أغراضهم والاستعداد للرحيل. كلها عناصر يمكن استقبالها باعتبارها الحلم الإنساني الأزلي بالتخلص من مظاهر القمع، وكبت الحريات، وعلى راسها الأسر، والنفي الجسدي الذي يبتر المفكر الفاعل من محيطه وواقعه. وما يؤيد كونها تجربة إنسانية شاملة لا تقتصر على مجموعة معينة من السجناء هو سرد التجربة على لسان راو عليم يستخدم لغة الإضمار. فهو ليس واحدا من أولئك المعتقلين، لكنه يحكي عنهم من برج عاجي، لذلك غابت اللمسة الإنسانية، أو توارت في تضاعيف التيمة التي تخاطب الذهن اكثر مما تدعو إلى التعاطف. وفي ظني أن الكاتب قد أدرك ذلك، فلجأ إلى المعالجة الشعرية للسرد، فحقق قدرا من التواصل الوجداني مع التجربة.
- المعالجة الشعرية:
لم يصرح الراوي بطبيعة المرئي الذي التقطته أعين الجماعة، وطوت عليه صدورها، وتبنته كحلم بالخلاص. غاية الأمر أن أعطانا بعض من ملامحه. ف "هي" تطفو فوق سطح الماء مثل زهرة ليلك. يرفرف شراعها الكتاني متالقا في رمادية الأفق الأسمنتي. وهي بوسعها أن تحملهم والخروج بهم إلى خارج الأسوار. لا تتفق الصورة الذهنية مع المنطق المادي للأشياء. فكيف تتسع عائمة يحتويها حوض محدود لحمل جماعة السجناء؟.. وبالتالي كيف يمكن للعائمة أن تعبر بهم الفضاء إلى رحابة الحرية؟. صورة شعرية غرائبية. فقد جسد صورة مركب. بيد أنه يحلق في الفضاء بدلا من أن يمخر عباب الماء. صورة مركبة تترجم أفقا يسعى الكاتب إلى بلوغه، وهو إيمانه بحتمية تحقق المستحيل. صورة تتخطى توقعات الشابي " فلابد لليل أن ينجلي ". فالشابي يتوقع ماهو مؤكد الحدوث. بينما القاص هنا يرهص بوقوع المستحيل. إنها المعالجة الشعرية، أي محاولة المبدع الاستعانة بآليات الشعر لخلق رابط وجداني بين النص وبين المتلقي. فالروح التي تسري في التجربة هي روح الشعر. ولنا في الواحة تجارب شبيهة أذكر منها: عشتار للأستاذ سليمان جمعة، و "فراشة البوح" للصديق عمر حمش ، و" الليلك الموؤدة" للصديقة سماح عثمان . هذه تجارب قصصية تغلب عليها روح الشعر ومنطقه الذي يتعالي ويتسامى فوق المنطق .
------------
لا تقتصر الشعرية في القصة على المعالجة. بل أرى الكاتب محتفيا بالبلاغة، يبدو هذا في ثراء الصور والأخيلة التي عمر بها النص. وتتجلى الحنكة في القدرة على توظيف الإزاحات اللغوية بحيث لا تشكل عبئا على السرد، فكل إزاحة هي إضافة للمعني، وتوسيع للدلالة:
- المحيط الرملي.
- البحر اللاهي.
- تجبر الخدوش الماء على الاستسلام.
- تتماهي قطرات الماء في خضوع الى سائر الماء.
- طحالب مجهدة.
- ينحت الموت المحيط صخور صبرهم.
- حراس يمسحون غبار الدهشة.
- كزمان يمر إلى طحالب الصحراء.
هذه المقتطفات وردت في النص بترتيب عرضها. والمتأمل يلاحظ انها لم تصغ عشوائيا لمجرد التوشية. إنما اختيرت ألفاظها بوعي لتعبر عن مسار التجربة القصصية. فيبدا بالمحيط، والبحر، واللهو. الفاظ تدل على الإقبال على الحياة. ثم ترد ألفاظ الخدوش، والاستسلام، والخضوع والإجهاد، دلالة المحنة والمعاناة. تتلوها الفاظ النحت، الصخور، الصبر، تعطي معاني الصمود، والتحدي. ثم تتوج التجربة بصورة الحراس الذين " يمسحون غبار الدهشة". وهي لوحة مفعمة بالحركة، والدلالة. وكأنما رسالة النص موجهة لأولئك الحراس بالتحديد أكثر مما هي موجهة للأسرى المعتقلين.
--------
بقي ان نستعرض دلالة استخدام الطحالب كمعادل موضوعي. فقد وردت الطحالب بذكرها صراحة، أو بالإشارة اليها ثلاث مرات.
- ...طحالب مجهدة، ترعى خيوط الماء الهارب
- ...وبالكائنات المخضوضرة النابتة في صرامة الأرض، تصارع سواد العفن، وجفاف الريح.
- ...وصوت قطرات ماء، تهبط كثيفة، كزمان يمر، إلى طحالب الصحراء.
وهذا يدعونا إلى تأمل دلالات إلحاحها على مفاصل التجربة.
لنستعرض أولا دلالة اللفظين:
" المعادل الموضوعي".
تتمثل البلاغة کما يقول إليوت في أن يخلق الکاتب شيئا يجسم الإحساس، ويعادله معادلة کاملة، فلا يزيد أو ينقص منه حتى إذا ما اکتمل خلق هذا الشيء استطاع أن يثير في القارئ الإحساس الذي يهدف إلى إثارته. ما يحقق له إمکانية التخفي والهروب من طغيان عواطفه وأحاسيسه على التجربة. ( هذا كلام الدكتور/ رشاد رشدي.
الطحالب:
كائنات حية تمتاز ببساطة التركيب، وتحتوي على الكلوروفيل. لا يمكن تمييز جسم الطحالب نسبيًّا، ولا توجد لها جذور أو أوراق. ذاتية التغذية دائمًا؛ فهي تستمد "غذاءها" أو طاقتها مما يحيط بها من ضوء الشمس، وتلعب دورًا هامًّا في الشبكة الغذائية، وفي الحفاظ على نسبة الأكسجين على كوكب الأرض.
-------
لا جدال في وضوح الربط بين الطحالب وبين المعتلقين، بحيث يمكن اعتبارها معادلا موضوعيا لتصور الكاتب لهم. ولا عبرة هنا لنية الكاتب، فالمنبع الأساسي في الإنتاج الأدبي هو لا وعي الأديب. والطحالب وإن كانت مرتبطة في الوعي الجمعي بالهشاشة والتطفل. إلا أن هذا ليس صحيحا على الإطلاق. فهي كائن بارع، ومستقل تماما، وامتلك القدرة على أن يبقى صامدا عبر ملايين السنين بينما بادت وانقرضت كائنات حية عملاقة. لكنها أيضا تعد هامشية رغم انتشارها الهائل بحيث أنها لا تحظى بوعي وتقدير لتأثيرها البيئي الهائل. فهي حلقة هامة في سلسلة الغذاء للكائنات الحية. وتنتج وحدها قدر ما ينتجه مجموع الغابات على سطح الكوكب من الأكسيجين.
هي إذن كائن يجمع العديد من الصفات
- القدرة على الصمود.
- الاستقلال التام في اكتساب مقومات وجوده.
- المنح والعطاء بلا حدود.
- الضآلة المتناهية، فهي لا تملك ساقا، ولا تعطي أزهارا. ولا يرى أغلبها بالعين المجردة.
فهل تختلف تلك الصفات عن صفات المناضل في عالمنا المعاصر؟.. تكاد - في ظني - تتطابق الصفات الأساسية للمناضل اليوم مع صفات الطحالب. فهو عنوان للصمود، والتحدي. وهو مستقل تماما، لا ينطوي تحت راية، ولا يزيف مواقفه، ولا يسعى لغنيمة. وهو يمنح بلا حدود، فيتخلى عن أمنه وسلامته دفاعا عن الناس الذين - في الأغلب - لا يقدرون عطاءه، بل قد يسلمونه لأن وجوده يزعج أغنامهم. وهو رغم وجوده منذ الجماعات البشرية الأولى، إلا أنه الطرف الخاسر على الدوام، لأن الطغاة يملكون عتادا، وعدة لا تتوفر له. فما الذي يعين المناضل على البقاء كفكرة عبر الأزمنة؟... إنه الحلم ... الحلم بعالم أفضل. لن يتحقق فيما أظن على هذا الكوكب لاتساع الفتق على الراتق.
تحياتي وتقديري للكاتب المبدع الجميل. ناصر الحلواني، ولإبداعه المميز.


*************


"رؤيا خروج"
قصة قصيرة
ناصر الحلواني | مصر
.
البحر صامت، يخيم عليه الهدوء حتى الأفق. هكذا يكون الأمر في موسم الصهد المشمس.
وفي قلب المحيط الرملي، المترامي الأطراف، بين المدن الصاخبة بهمومها، ووشيش البحر اللاهي، يقبع السور المغبَّر بأزمان الوحشة والوَحدة، يرتفع فوق المار حيث يلامس السماء، ويمتد حتى يكون كذؤابة نصل يطعن في الأفق، ويرسم تخوم سجن، ملقى في فضاء رملي متماهي الحدود.
وفي جوفه لم يكن صوت، سوى رقرقة ماء يتساقط بطيئا، من صنبور وحيد متعلق بالجدار الصلد، تهبط القطرات في ثقل، تغيب كتلتها في البركة الصغيرة المشكولة من قطرات سابقة، فتنشط موجات ماء تبدأ دائرية، ثم لا تلبث أن تنكسر هرمونيتها بالاصطدام بجوانب الحوض الإسمنتي الممتلئ إلى حافته، فتفر إلى شقوقه حيث تجبرها الخدوش على الاستسلام فتتماهى في خضوع إلى سائر الماء.
تنشق الأرض، ذات الصفرة الترابية المكتومة، حول الحوض، عن خضرة شاحبة، تميل إلى السواد، لطحالب مجهدة، ترعى خيوط الماء الهاربة.
ومن الزنازين، التي تنغرس قضبان نوافذها في صلادة الجدران، يخرج كل رجل في دوره، يحمل دلوه المعدني الصدئ، يفتح الصنبور لآخره، يضع دلوه في الحوض، يتأرجح لبرهة، طافيا على سطح بركة الماء القاتمة، وما إن يسكن ممتلئا، وتغيب جنباته المتعرجة في قتامة الماء، حتى يحمله صاحبه، ويمضي، ويجيء آخر، وآخر، وآخرون.
بعدما تنتهي نوبة النظافة، ويأفل نهار آخر، يعودون ليملأوا لحياتهم، نفس الدلاء، ونفس الماء، الذي لا يعلم أحد من أين يجيء، ويعجبون لسيولته برغم كل ما يحمل من أشياء لا يعلمون كنهها.
ويذهب كل إلى زنزانته، يضعون الدلاء في الزوايا، كذخائر ثمينة، ويبدأون نشاطهم المسائي، الذي يحفظون به بعض ما لديهم من وجود إنساني، فيستخرجون الأوراق المخبأة في فراغات الأبواب السفلية، والأقلام المدسوسة في أرغفة الخبز المركونة بإهمال، وكتبا يحفظونها في صدورهم، ويشرعون في مجاهدة النسيان والغربة، حتى لا ينحت الموت المحيط صخور صبرهم، وفي ترطيب نفوسهم، وعقولهم، وأرواحهم، حتى لا تؤدي شدة الوحشة إلى تيبس وجودهم، ويتهيأون ليوم الخروج، سواء إلى أرض، أو إلى سماء.
وتبقى القطرات الثقيلة مستمرة، تملأ الحوض بإصرار، يسمعونها في عمق الليل، تُذكرهم بالزمن الماضي فيهم، وبالكائنات المخضوضرة النابتة في صرامة الأرض، تصارع سواد العفن، وجفاف الريح.
وذات ليل، رآها الجميع، ناشرة أشرعة لها لون غريب عن ألوان حياتهم، قاموا، وكل يرمق عين صاحبه، فعرفوا، دون أن ينطق أحدهم، كانت رؤياهم جميعا.
وذات صباح، كان يمكن لكل من يذهب إلى الحوض أن يراها، مثل زهرة ليلك، تطفو في ماء الحوض، ومشرعة للشمس الجهورة، ولعيونهم.
رأى جميعهم شراعها الكتاني مرفرفا، متألقا، في رمادية الأفق الإسمنتي، بادية كالحلم الهائل في عقل طفل صغير، لم يتحدث أحد، لم يكن أحد يقدر على الكلام، كان لعيونهم الصوت الأعلى، وقالت كل عين كل شيء، لكل واحد.
ملأوا دلاءهم في حرص، وملأت التساؤلات رؤوسهم:
” كيف يمكن لها أن تحملنا!”، “كيف ستخرج بنا”.
ثم طرحوا عن أذهانهم الأسئلة، وغامروا بقبول وجودها.
وغادر كل في دوره، إلى زنزانته، لمُّوا أوراقهم المخطوطة، شروحهم، أذكارهم، كتبهم، وخطابات لم تُرسل بعد، وما كانت، وبضعة أشياء، ورؤيا واحدة، تطوف بالأنفس جميعها، الكامنة في معاقلها، ترقب الفجر، ولا تنام.
وفي غداة اليوم التالي، كانت قد غادرت الحوض.
وفي قلب السور البعيد، في الصحراء البعيدة، لم يبق سوى زنازين خاوية، وحراس يمسحون غبار الدهشة عن عيونهم الخشنة، وبضعة أقلام متناثرة، وورقات بيضاء تحملها هبات ريح هادئة، وصوت قطرات ماء، تهبط كثيفة، كزمان يمر، إلى طحالب الصحراء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى