محمد بشكار - خِطابُ الإدانة في زمن الإهانة!

أمّا عنِّي فلا يمكن أن أتنكَّر لسُخْرية عارمة تنْتابني كُلّما استعدْتُ بالقراءة كتاباتي الأولى، بل أكاد أُجلْجل بين سطر وآخر بقهقهة أستدركها بمنديل يُجفِّف دموعي.. ياه كم كنتُ مثاليا طيِّباً في كل ما كتبتُ، أغلِّبُ في نفْسي نزعة الخيْر وأُبَلْوِرها في أفكار أتوهَّمُها قذائف تعصف بالأشْرار، كنتُ مَزْهُوّاً ببطولاتي الوهمية وأنا أتمتْرس جندياً أخيراً في خنْدق الكلمات، تماماً كدونكيشوت صغير يخْتلق بخيالاته الجامحة الأعْداء من طواحين الهواء، والحقيقة أنَّ حرباً غير مُتكافئةٍ بين الواقع والخيال الآثم بشتَّى الظُّنون، حتماً ستنتهي بعواقب وخيمة أقَلّها الجُنون !
مَنِ الكاتب الذي يستطيع اليوم أنْ يُحافظ على جذْوة الحب في القلب ليبقى مندلعاً في وجه أشرار العالم، الجميع تغيَّر ولم يعُد ثمّة إلا من يصْنع البُطولات والأساطير ويُفبْركها من أجْل مَصْلحته الشَّخْصية، الجميع إلا في ما نَدَر منَ الزُّهَّاد النَّاسِكين بأعالي جبال الروح، أطفأوا الجذوة المُسْتَعِرة في القلب ووضعوا اليد التي تحمل القلم في ماء بارد، إلا واحدة في هذا البلد، أنَا نفسي لا أُصدِّق وأتجاوز بالدهشة أقاصي العجب، كيف استطاعت أن تترجَّل بالأفكار التي تُؤمن بِمثاليّاتها المُنْقرضة في زمن المستحيل، على أرض الواقع، بل من أين لفؤادها المُنْشرِح رغم كل الجراح، هذه القُوة الهائلة لتُقاوم القُبْح بجمال الأدب !
وَمَنْ سِواها الغنِيَّة باسمها الشَّاهق عنْ كُلِّ تَحْريف، إنَّها الأديبة والمُناضلة الكبيرة خناثة بنونة، وَحْدها امتلأت بالكلمة الصّادقة واستطاعت أن تمْلأها بالمعنى الحقيقي للفِعْل، لا أنْ تَترُكها مُجرّد فُقاعة للتَّباهي بالهواء، مَنْ غير هذه المُثقَّفة العُضوية في زمنٍ أصبح فيه أغلب الأعضاء المُنتخبين في مُؤسّسات سياسية، لا يَصلحون منْ شِدّة ما فسدوا، حتى للتَّبرُّع في الجسم المشلول للمُجْتمع، هي التي قالت للكلمة اخرجي من الورق إلى الشّارع لِنُحوِّل معاً التراب خبزا للفقراء، نُحوِّل العِلْم إلى سلاح في يد كل مواطن، عساهُ يتعلَّم كيف يستخدم عقله المُعطَّل، ليواجه المجهول القادم من المستقبل !
لقد اتَّضح بعد أنْ نزَّلْتُ أحْرُف هذا الحوار من آلة التَّسجيل على الورق، أنِّي كنتُ أدبِّج على طُول أسْطُره وعرْضِها المُتلاطمة بالأفكار، خِطاب الإدانة لِكل القِوى.. التي رغْم ثرائها الفاحش تُعاني عجْزاً مرضياً مُزْمِناً في البَذْل والعطاء، هل يجب أنْ تقوم خناثة بنونة بكل شيء كي تتَّضِح لَهُم الخارطة السليمة للنموذج التنموي، ولكن للأسف الأغلبية اليوم يفضلون خارطة القراصنة المُفْضِية إلى الكنز مِنْ أقْصَر الطرق، هل يجب أن تَبْني خناثة بنونة المدارس وتتبرَّع بالشُّقق وتُدعِّم مراكز البحث العلمي، كي تدرك بعض الجِباه أنَّها أعْرَض من اللازم بِتشوُّه أخلاقي ولَوْ أسْرَفَتْ في التَّجْميل، هل يجب في كلِّ مَرّة أن ينْبري بنموذج هذه المرأة الصَّامدة خِطاب الإدانة فقط دون احْتذاء، أو على الأقل ليتَّضِح الفرق الشاسع بين الكسول والمُجْتهد، وبيْن مَنْ يَهَبُ مِنْ حُرِّ ماله وإبداع فِكره بِحُرْقة وسخاء، وَمَنْ يُكبِّرُ كرْشه بِسعة المائدة وينْهَب خيْراتِ البلد !
لَنْ أُبالغ إذا قلتُ إن هذه الأديبة والإنسانة الكبيرة من فرْط ما هدَّمت أصنام الشمع المبثوثة من حولنا بدون فتيلٍ يضيء، سَتُوصي خشْية التَّماهي مع المُسْتَنْسخين من أسَاطين الإحتيال، أنْ لا يُشيَّدَ لذكراها بعد عُمْرٍ طويل تِمْثال !


..............................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 18 ماي 2023،. وهي تصدير لحوار أجريته مع الأديبة والمناضلة الكبيرة خناثة بنونة، ويوجد في نفس العدد في الصفحتين 8 و 9.




bachkar.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى