أ. د. عادل الأسطة - الأدب والشتائم والألفاظ البذيئة

بعد أن انتشرت شعارات مظاهرات اللبنانيين واحتجاجاتهم في وسائل التواصل الاجتماعي ، أرسل إلي الصديق رياض عواد يسألني عن رأيي في الظاهرة ويستفسر إن كان الأدب العربي القديم عرفها .
لقد أثار ما كتبه على صفحته ، وما سألني عنه في البريد الشخصي ، أثار لدي سلسلة من التداعيات حول ظاهرة الشتائم والألفاظ البذيئة .
في ٨٠ ق ٢٠ أخذت أدرس في الجامعة مساق النثر الأدبي في العصر العباسي ، واضطررت لهذا أن أقرأ في كتب الجاحظ وأبو حيان التوحيدي وأبو العلاء المعري ، فعدت - إلى جانب اعتمادي كتاب وداد القاضي "مختارات من النثر العربي" - إلى المصادر الأصلية ومنها " الإشارات الإلهية " و " الإمتاع والمؤانسة "لأبي حيان التوحيدي ، وباشرت القراءة فيها ، ولفتت الليلة الثامنة عشرة من " الإمتاع والمؤانسة " نظري وقرأت فيها ما لم أكن ، من قبل ، قرأته في كتب التراث ، وقد حفظت بعض ما ورد في تلك الليلة من أسطر وتذكرت كتاب "رجوع الشيخ إلى صباه بالقوة على الباه " للقاضي ابن كمال باشا ، وهو كتاب تداوله المراهقون في نهاية ٦٠ ق ٢٠ وفيه من الحكايات ما فيه.
في ٩٠ ق ٢٠ حدثت معي قصة طريفة .
كتب المرحوم الروائي عزت الغزاوي مقالا أدبيا أتى فيه على حركتنا النقدية وعدد أسماء النقاد ولم يرق رأيه لي ، فرددت عليه بمقال لم ينشر ولكنه شاع ، وقد جعلت عنوانه شطر بيت الفرزدق :
" قل للأخيطل لم تبلغ موازنتي " ،
ولم يعرف المرحوم الشطر الثاني من البيت فسأل أساتذة في قسم اللغة العربية عنه ، وغضب غضبا شديدا وشكاني إلي إدارة الجامعة .
الشطر الذي لم أورده فيه كلمة بذيئة نترفع عن ذكرها غالبا ، وهي كلمة كتبها اللبنانيون ، في لافتاتهم التي رفعوها ، بالخط الأحمر .
اللبنانيون الذين طفح بهم الكيل لم يتوانوا في التعبير عن غضبهم من استخدام شتائم لا تخلو من الألفاظ البذيئة ، ومرة قال لي الصديق فتحي البس إن الشتيمة ، واستخدام الألفاظ البذيئة فيها ، أمر عادي لدى اللبنانيين ، فهم يتداولونها ببساطة متناهية ، ليس بين المتخاصمين وحسب ، بل بين الأصدقاء .
وأنا أقرأ رواية الكاتب اللبناني الياس خوري " أولاد الغيتو : نجمة البحر " ٢٠١٨ توقفت أمام ظاهرة الشتيمة فيها تجري على لسان الإسرائيليين الذين استعاروا من العرب مفردات شتائمهم وأخذوا يشتمون بها حتى صارت عادة مألوفة . هل خلت روايات الياس خوري التي كتبها عن الحرب الأهلية اللبنانية ، مثل " يالو " و " سينالكول " من الشتائم ؟
هنا يمكن مراجعة أدبيات السجون والمعتقلات في الأدب العربي الحديث لملاحظة ما يخاطب به السجانون السجناء .
يجدر التوقف أمام بعض قصائد مظفر النواب وما مهد هو لها به .
في العام ١٩٨٢ صدرت للشاعر عن دار الفنار في عكا مجموعة عنوانها " سفينة الحزن " وقد صدرها بالآتي :
" هذي القصائد لم تكتب لمناسبة - كتبت لدهر من الحزن والتحدي - لا خوف أن يطول ما دام دمنا ينبض ... والأفضلون يحملون السلاح ...
اغفروا لي حزني وخمري وغضبي وكلماتي القاسية ... بعضكم سيقول بذيئة ... لا بأس ! أروني موقفا أكثر بذاءة مما نحن فيه ..." ، وكان مظفر قد كتب في بدايات ٧٠ ق ٢٠ " وتريات ليلية " وأتبعها ب " أربع قصائد " وفي الوتريات والقصائد الأربعة استخدم الشتائم والألفاظ البذيئة ، ما شكل لقراء ومستمعين كثر ظاهرة لم يألفوها ، ولكنها على أي حال لم تكن جديدة كل الجدة على الشعر العربي .
مرة درست قصيدة أبو نواس التي مطلعها :
" دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
وداوني بالتي كانت هي الداء "
واتكأت في تحليلها على كتاب الناقد ايليا حاوي " نماذج من النقد الأدبي " ولفت نظري أن الناقد حذف البيت الآتي من القصيدة :
" من كف ذات حر في زي ذي ذكر
لها محبان ؛ لوطي وزناء "
وهو البيت الثالث في الفصيدة والبيت الرابع يعتمد عليه ، فلما حذفه عاد الضمير في البيت الذي يليه على البيت الثاني وفيه يتحدث الشاعر عن الخمر لا عن ساقية الخمر ، وهكذا اختل المعنى .
ايليا حاوي لبناني لم يستسغ كلمتي " لوطي وزناء " فحذف البيت كله وأربك القراء ، فماذا كان سيقول لو قرأ اللافتات التي تدوولت في مظاهرات الاحتجاج ؟
هل ينسى قاريء الشعر الفلسطيني قصيدة ابراهيم طوقان في شهر آيار وما ورد فيها من مفردات ؟
لا أعرف حقا سبب انتشار هذا اللون من الشعر وشيوعه وتسابق الناس إلى حفظه وروايته ؟
في أميركا هناك شعر أدرج تحت مدرسة " الواقعية البذيئة " وجلنا يعرف الشاعر الأميركي ( ألن جينسنبرغ ) وقصيدته "عواء " التي كتبها في ٥٠ ق ٢٠ ومنعتها الحكومة الاميركية . لقد ترجمت " عواء " إلى العربية ترجمتين ونشرت في ٩٠ ق ٢٠ .
وماذا عن نجيب سرور وقصيدته الطويلة ذائعة الصيت " ك .. أمياتنا " ؟ وماذا عن النكت الشعبية المصرية بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧ ومنها ما يخص شخصية جمال عبد الناصر ؟ هل أورد قسما منها أم أن المقام لا يسمح ؟ ويروى أن الرئيس عبد الناصر طلب من مكتبه أن يجمع له نكت الشارع المصري فيه وفي رجال حكومته ، ولا أنسى كتاب صلاح عيسى "شهادات من أجل خدمة تاريخ زماننا " الذي كان فاتحة لكتابات تلتفت إلى صحافة الحائط والجدران والأماكن المغلقة التي يفضفض الناس فيها عن أنفسهم ويفصحون فيها عن رغباتهم .
شعارات مظاهرات اللبنانيين والصور التي اقترنت بها وطريقة المشاركين فيها ولباسهم كانت لافتة ومختلفة ، ولهذا تدوولت عبر وسائل التواصل الاجتماعي تداولا فيه من الدهشة ما فيه .
في مكتبتي الخاصة الكتب الآتية :
- المتعة المحظورة:الشذوذ الجنسي في تاريخ العرب لابراهيم محمود .
- الوشاح في فوائد النكاح لجلال الدين السيوطي .
- النكاح والجنس في التراث العربي للراغب الأصفهاني.
- رشد اللبيب إلى معاشرة الحبيب .
وكلها لا تخلو من مفردات استخدمت في المظاهرات .
الظاهرة تستحق التفكير فيها أكثر ، ومن المؤكد أن قسما من القراء سيقول لي: لقد نسيت هجاء المتنبي لكافور !

الجمعة والسبت ٢٥و ٢٦ تشرين الأول ٢٠١٩ .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى