موسى مليح - متلازمة "BALALA".. تمرين سيميائي

تهتم السيميائيات بدراسة العلامة في سيرورتها المؤدية لإنتاج المعنى. بما أن العلامة لا تقتصر على اللغة وحدها، فإن مجالات الدرس السيميائي متعددة ومتنوعة. من الخطابات التي أولته السيميائية بالدرس نجد الخطاب السردي مع جوليان كريماس، تودوروف، ريكور، كرستيفا. استفادت السيميائيات السردية من مدارس علوم اللغة الحديثة كالبنيوية والتوليدية والتداولية، كما استفادت من تجارب الشكلانيين الروس وبالخصوص فلاديمير بروب صاحب كتاب "مورفولوجية الحكاية" الشهير.
في هذا التمرين السيميائي سأقرأ قصة "متلازمة بلالا" من المجموعة القصصية (الخرسان) للمبدع المغربي عبد الوهام سمكان الصادرة بتاريخ دجنبر 2022 عن دار النشر القصبة. سأسعى لمطاردة المعنى مستعينا بآليات التحليل السيميائي للنصوص السردية كما خطها كريماس.
أعلن منذ البداية أن بلوغ المعنى في كل حقل جمالي أدبي هو وصول للمتعة "لذة النص" بارت. وذلك من خلال الإجابة عن سؤال: ما الذي منح الكلام داخل هذا النص سرديته؟
من البديهيات المتعارف عليها سيميائيا أن الذهن البشري ينطلق من عناصر بسيطة لكي يخلق موضوعات ثقافية قد تكون أكثر تعقيدا، وهذا ما نأمل اكتشافه مستعينين بما قدمته وتقدمه السيميائيات السردية من انجازات في هذا المجال.
النص المحايث:
لقصة "متلازمة بلالا" مسار سردي عبارة عن نص محايث ذو بنيات سردية سابقة في الوجود عن النص المتجلي كخطاب. تلك البنى تشكل التنظيم العميق للنص وتمنحه جنسه الأدبي (قصة قصيرة، رواية، مسرحية) تشكل البنيات السردية أولى الأنواع الثلاثة للأهلية. إنها أهلية ترتبط بالمبدع القاص، وتمثل الخزان الثقافي الذي سيتحكم لاحقا في أشكال السلوكات التي اختارها عبد الوهام سمكان ضمن اختيارات متعددة كانت متاحة له قبل التلفظ. تشبه أهلية المبدع مفهوم القدرة التي قامت عليها المدرسة التوليدية مع نعوم تشومسكي" القدرة /الإنجاز" إنها قدرة تقوم بإنجاز عملية التسريد، إعطاء البعد السردي لكل مكونات "متلازمة بلالا". وتنظم هذه المكونات في قوالب مجردة قائمة على قواعد نحوية ودلالية أصولية، وعلى نحو سردي سيستند إليها عبد الوهام في تصريف مضامينه، وفي توليد بنية دلالية لها القدرة على تشكيل كل الكلمات في خطاب سردي ينتمي للقصة القصيرة. النحو الأصولي حسب كريماس هو "القاعدة الأساسية لكل سيرورة ديناميكية مولدة للتركيب السردي"1. أما الدلالة الأصولية فهي عبارة عن علاقة ثابتة يولد منها عدد لانهائي من الدلالات السردية وقد تكون عنصرا محسوسا كالخمرة في هذا النص أو الانعتاق والتحرر كعنصر مجرد. فالخمرة والحرية مادتان لتوليد عدد لانهائي من القصص والروايات والمسرحيات والأفلام. هذه العناصر الثابتة هي ملك للجميع، ولا يمكن إدراجها ضمن مسار سردي إن لم تخضع للتحول. تتحقق أولى مظاهر التحول في النحو الأصولي بفعل عمليتي الإثبات والنفي، أو الاتصال والانفصال، ومن خلالهما تتحقق العلاقات التحويلية المنتجة للمعنى والمثمتلة في الثلاثية السيميائية المشهورة "التضاد والتناقض والاقتضاء"2. إن هذا النسق العلائقي البسيط سينظم المعنى داخل المتلازمة، ويسمح لاحقا بالإمساك بالسيميوزات3. التي تحكم كل التحولات في "متلازمة بلالا". إن الوقوف على التضاد والتناقض والاقتضاء يفضي الى رسم المربع السيميائي للنص. فالخمرة تقتضي عناصر تشكل بنية خمرية تناقض عناصر بنية الصحو، وما يرافقهما من تضاد في السلوك والتلفظ، علما أن الخمرة ليست موضوعا وغاية في النص بل هي سميوز مخصب للمعنى. إن هذا النسق العلائقي البسيط سينظم المعنى داخل النص، وسيسمح لاحقا بضبط كل التحولات في قصة "متلازمة بلالة".
تنجز تحولات المسار السردي بواسطة أفعال سردية أو أفعال حدثية. والفعل السردي هو كل علامة "قد تكون اسما أو فعلا أو حرفا أو علامة ترقيم" تأخذ على عاتقها سرد مجموعة من الأحداث التي تشكل القصة وكمثال لذلك: القرون وشعيرات الذقن والشامة السوداء الكأس الثامنة العتروس** وانتقاء أمثال مغربية شعبية دون غيرها.
عملية التسريد والتنظيم السطحي:
تقع عملية التسريد بين المحايثة المرتبطة بالخطاطة الضمنية، والتجلي المتمثل في الخطاب. عملية التسريد جسر عبور من الخفاء إلى التجلي أي من العلاقات الأصولية إلى الملفوظ السردي.
ليست أفعال السرد كمكونات أساسية للنحو السردي كلمات معجمية ساكنة، بل علامات سيميائية تمنح للحدث ديناميته، كأن تقوم بالاستبدال، فالكأس الثامنة استبدلت الحدث من وضعية إلى أخرى، وكذلك الشامة السوداء، والمثل الشعبي " نهار يديرها بلالا"، والبحر والمرآة، و"عتروس يا فطوم وانا لست عتروسا"، كما قامت بتوزيع الأدوار بين كائنات الرايس وغيره. يتأسس بين الاستبدال والتوزيع النموذج العاملي للنص. يتحكم في النموذج العاملي لمتلازمة بلالا ثلاثة محاور هي:
محور الرغبة: انطلقت شرارة هذا المحور بالفعل السردي "إرادة التذكر" بعد الكأس الثامنة بواسطة الأفعال" تململت ـ تحرك ـ بدأ " وكلها علامات سيميائية مرتبطة بفعل التدشين التي حولت أنا الرايس بوالكرون إلى ذات تبحث عن موضوع لها معلنة الخروج إلى الذات المتحققة في سيرورة السرد.
المحور الثاني الإبلاغ: حولت الرغبة موضوع الذات إلى رسالة تتغيى تقديم موضوع إلى مرسل إليه، قد يكون الرايس نفسه أو فئة من الناس أو طبقة اجتماعية. المرسل هنا موسوم بالعلامات الرايس عباس بوالكرون بلالا العتروس. ومن هذه العلامات السيميائية يتضح أن كل الأفعال السردية ترتد نحو أعماق النفس، وتوجه إلى المتربص المحاور الضمني الكامن في الرغبة المكبوتة والذاكرة الشقية والمرآة.
شوف الفوق مازال... قاطع آخره المتربص في داخله سلاسة تأملاته وعذوبتها. "جاء في الصفحة28 ان كل تمرد على المكبوت سيؤدي حتما إلى امتلاك الموضوع.

في حين يتحدد المحور الثالث بالصراع؛ إن بلوغ الذات لموضوعها لا يتحقق بيسر وانسيابية، فهناك من ساعد الذات كالخمرة والحانة والرحلة إلى الهامش، وهناك من عاق ويعيق ككائنات الحمام والمدرس وفطوم والمتربص. إن الخروج من أنا المعاناة إلى تشكيل الذات المتمردة يحيل على طبيعة الخطاطة السردية في متلازمة بلالا القائمة على المقولات السيميائية لأربعة: " التحريك الأهلية الإنجاز والجزاء"4.
إن السير الخطي لهذا النص يحكمه منطق داخلي, تتناوبه الأفعال السردية التالية: "يدشن يحول ينهي..."، فالتدشين يرتبط بالحركة والتحويل يرتبط بالإنجاز بينما النهاية هي الجزاء.
فما تجليات الخطاطة السردية داخل متلازمة بلالا؟
جاء في السطر الرابع من القصة "تململت تلك الفكرة في رأسه هائجة كوجع مخاض". هنا تم الإعلان عن الانخراط في لعبة السرد, وفي تململت كانت بداية انتشار السرد، وهي بداية الإعلان عن مولود، وعلامة دالة على الفعل السردي النواة الذي سيفجر الأحداث لاحقا، والذي سيتحكم في عملية الانتقال من الاحتمال المرتبط بالتحيين، ارتبط الاحتمال بذات الرايس التي تملك الأهلية في تسريد الكلام وذلك عبر الانتقال بين الذاكرة المرتبطة بالماضي والحاضر. أما التحيين فمرتبط بسلسلة من الأحداث ستؤدي حتما إلى نهاية إلى إنجاز هو التخلص من المكبوت ومواجهة الآخر.
إن ما شكل أساس الأهلية في هذا النص هو ملفوظ الحالة المتخيلة في حالة التحريك. ويتحدد موضوع الأهلية في قدرة الذات كعامل نموذجي سردي على وجود فعل التذكر والتوتر النفسي، إرادة الفعل التخلص من الذكرى، وأن تخلق توازنا نفسيا. وتجلى ذلك عندما أعلن الراوي في الصفحة الاخيرة: "غادرها عائدا إلى مدينته الكبيرة وفي قراره تصميم على الصراخ في وجه زوجته أنا لست عتروسا."
بذلك امتلأت الدورة السردية المحررة للتوتر النفسي معلنة الإنجاز سرديا والخروج من دائرة المشمولين بعنوان المجموعة القصصية الخرسان.

هكذا تعرى البرنامج السردي لقصة متلازمة بلالا من خلال النموذج العاملي والخطاطة السردية واتضح أن البرنامج السردي خطوة منهجية إجرائية نكتشف بواسطته مصدر تماسك القصة المبنية على:
1 ـ تعاقد حدد نمط تداول الموضوعات داخل المساحة النصية الفاصلة بين العنوان ولحظتي البدء والنهاية، ومنه يخلق أفق انتظار النص تأسيسا على فرضيات تستبين دلالة المتلازمة ودلالة بلالا والرغبة المكبوتة والخمرة وقوتها الفاعلة في النص.
2 ـ حول البنية السجالية المؤدية إلي التوتر والصراع في هذه القصة؛ حيت أن الذات لم تستنجد بذات أخرى من أجل إلغاء النقص/ التوتر، بل اعتمدت على قدرتها، وهذا ما جعلها تعبر المحطات الثلاث للذات كمحطات تحدد نمط وجودها السيميائي داخل النص من ذات ممكنة قادرة على التذكر إلى ذات محينة قادرة على الحجاج والسجال إلى ذات محققة قادرة على مواجهة الآخر والخروج من دائرة بلالا العتروس الأخرس إلى دائرة الإنسان القابل لذاته الواثق من نفسه والمعتز بها.
3 ـ من السردي إلى الخطابي إن النحو الأصولي والدلالة الأصولية وعملية التسريد والتنظيم السردي بمكوناته الثلاثة: النموذج العاملي والخطاطة السردية ومنطق السرد، عناصر ضمنية تبرز القدرة على إنتاج نص سردي. أما الإنجاز فيحيل على تجليات تلك العناصر في خطاب سردي. إن الخطاب السردي هو تشخيص عيني وتجلي للمعنى. إن عملية التخطيب في السرد تمنح بعدا صوريا ومحسوسا للنموذج العاملي والخطاطة السردية المغرقتين في التجريد. في الخطاب لن نتكلم عن الذات والعامل والانفصال والاتصال بل سنقف على الشخصية ككائن ورقي، وعلى الزمن وترتيبه من حيث المبنى والمتن والفضاء كمنظم لمجال الأحداث.
في السطر الأول لمتلازمة بلالا تطالعنا العلامة السيميائية الرايس عباس بو الكرون كشخصية ورقية تجدب نحوها كل أحداث القصة؛ فهي الشخصية الوحيدة في النص التي تقوم بالاسترجاع والتحويل وإعادة الصياغة وفق الموضوع المحدد لها كذات. إنها شخصية تعيش انفصالا عن الواقع ولد لديها عقدة الدونية. ومن أجل إعادة الاتصال بواقعها خلقت سلوكا جعلها تدخل في تأمل بلالا أو بوالكرون كتجربة إنسانية جديدة وكعلامة سيميائية تحيل على الانحدار من عالم الإنسان إلى عالم الحيوان، من عالم المبادرة والفعل ورد الفعل إلى عالم الخنوع والاندماج القصري داخل القطيع، من عالم الناطق إلى عالم الأخرس الأبكم. اشتغلت هذه العلامة بكل ما تحمل من معاني كمركز ثقل لكل الأحداث وهذا يطابق قول كريماص "يقوم الممثل الشخصية الواحد بسلسلة من الأدوار العاملية ويشتغل كحامل لمجموعة من العوامل "وهو ما منح الخطاب بعدا ثقافيا إنسانيا.
إن شخصية بوالكرون كعلامة سيميائية احتاجت إلى أزمنة وأمكنة لتمتلئ دلاليا. بما أن الزمن جزء لا يتجزأ من المعنى, فقد وظف الراوي محورين زمنيين للتدليل هما: محور الاقتضاء ومحور التعاقب. اقتضى التذكر تقنية زمنية هي الاسترجاع والتنقل من سن الرابعة الى الرابعة عشرة الى حمل علامة الرايس والوصول إلى لحظة الكأس الثامنة تتطلب التعاقب وكلا المحورين عملا على الاجابة عن أسئلة تساهم في انتاج المعنى: لماذا الهروب من مواجهة الواقع؟ وكيف ستتم المواجهة؟ وما هي أول خطوة في الانجاز؟
الإيقاع الزمني لمتلازمة بلالا قصير، يناسب الجنس الأدبي الذي تنتمي إليه. وقد بني الزمن السردي للنص بواسطة كؤوس الخمرة؛ فالكأس الثامنة وحدة زمنية هي لحظة اطلاق سراح المكبوت واسترجاع الماضي البعيد والقريب المؤلمين. أما التاسعة والعاشرة فهما حد فاصل بين لحظتين لحظة الماضي والنسيان ولحظة التذكر والعصيان. ويبرز هذا الوظيفة التي يلعبها التوزيع الزمني في انتاج المعنى.
بالعودة إلى الفضاء كمظهر من مظاهر الخطاب السردي تؤكد السيميائيات السردية بأن الفضاء حامل لمجموعة من القيم التي تتعايش وتتصارع داخله. وأن الفضاء يؤدي وظيفتين هما الفصل والوصل. يعتبر فضاء مراكش كأيقونة واقعية مشهورة بالمغرب، فضاء للوصل. حسب غاستون باشلار في كتابه جمالية المكان كل ذكرى تمر على مساكن الطفولة هي مركز تكييف الخيال. وبالتالي فالعلاقة بين الرايس بولكرون ومراكش علاقة اتصال منذ طفولته، اضطر للانفصال عنها متنقلا بين فضاءات متعددة الصويرة أكادير كأيقونتين منحتا لبولكرون صفة الرايس وتلدة كفضاء رمزي مستمد من مشتقات فعل ولد ولادة، مما أضفى عليه معاني البعث أو الولادة من جديد. ولتأكيد ذلك، وظف الصراخ كأول اتصال بين المولود وعالمه الجديد: "غادرها عائدا الى المدينة الكبيرة وفي قراره تصميم على الصراخ". وظفت الفضاءات في القصة لنمو الحدث وتطويره حيت استغلت الأمكنة المغلقة لتأزيم الحالة النفسية لبولكرون كالحمام والمدرسة وبيت الزوجية والحانة والمرآة بينما الأمكنة المفتوحة وظفت لبناء الذات وتحريرها من المكبوت كالبحر ومن فوق التل حيث توجد المقبرة. ان الشخصية المحورية والأزمنة والفضاءات تحكم فيها قانون المَعاد أي العودة لنقطة البداية. مشكلة بذلك مسارا دائريا. والدائرة سيميائيا تشير إلى الكمال وتحبس ما بداخلها ليحول إلى مادة للنقاش والحوار, نقاش قضية ذات بعد إنساني.
تأسيسا على ما سبق يتضح كيف ساهمت العلامات السيميائية للشخصية والأزمنة والفضاءات في بناء المعنى وتوجيه القارئ إلي ما تحمله القصة من حمولة ثقافية نفسية واجتماعية تدعو للتحرر من عالم الخرسان وما يحمله من دلالات قدحية إلي عالم قبول الذات والثقة بالنفس ومواجهة كل أشكال الميز العنصري .

سيميائية الجسد واللون في متلازمة بلالا
منح كل من الجسد واللون الأسود لنص متلازمة بلالا بعدا تيميا. فقد قاما كلكسيمان بالتحكم في البنية السردية بكل عناصرها النحوية والدلالية والتلفظية مما منح الخطاب خصوصيته وتحققه وتفرده النوعي.
الجسد
يرى السيميائيون أن الجسد نسق تواصلي قادر على حمل رسائل تواصلية ذات وظائف متعددة. فالجسد منظومة لغوية له قوانين خاصة. تشتغل لغة التواصل الجسدية بطريقتين طريقة تقريرية مباشرة "طبيعية" وطريقة إيحائية مجازية
"ثقافية". بالرغم من أن الجسد في القصة حالة تحيل على واقعة اجتماعية. انه موضوع اشتغل في النص كعلامة نسقية ذات حمولة ثقافية ودينية ونفسية .
إن رهان القصة من خلال علامة الجسد وامتداداته هو إلغاء الصمت/ الخرس وإلغاء كل ما صيغ من معان حول جسد الرايس وتعرية الجسد من العلامة التحقيرية المكتسبة نفسيا واجتماعيا. لقد وظف الجسد في القصة كشاهد/كرسالة تعبر عن نوعين من المعاناة؛ المعاناة الخارجية وتمثلت فيما تعرض له من طرف الآخر والمعاناة الذاتية النفسية وهي المعاناة المهيمنة التي وجّه إليها عنوان القصة في مكونه الدلالي الأول بمتلازمة أي مجموعة من العلامات والأعراض الطبية المرتبطة مع بعضها والمتعلقة غالبا بمرض أو اضطراب معين.
إن الجسد في القصة قام بإلغاء نفسه كموضوع ذو بعد فيزيولوجي مشترك بين الناس، فقدم نفسه باعتبار ما أخبرنا عنه فهو حيوان ماعز: "بلالا العتروس بو لكرون". ان صراع الجسد مع الآخر في النص هدفه العودة إلى وضعه البدئي الفيزيولوجي." أنا ماشي بلالا أنا بنادم" اي جسد آدم العاري المتجرد من كل الصفات والنعوت، الجسد المتجرد من كل الأشكال، وفي ذلك دعوة إلى خلق اللامعنى "أنا لست عتروسا أنا مجرد إنسان" اللون الأسود.
للون دلالات ثقافية وفنية ونفسية واجتماعية ودينية ورمزية أسطورية. اللون فيزيائيا معطى موضوعي, عبارة عن موجات ضوئية اهتزازية تدركها العين. لكن الإنسان ومنذ القدم أسقط على الألوان مجموعة من الدلالات والمعتقدات والقيم الجمالية؛ مما ولد ردود أفعال مختلفة نحو الألوان كالتقديس والتدنيس والرفعة والانحطاط والفرح والحزن والتفاؤل والتطير وغيرها كثير. فأصبحت هذه الردود ردودا مكتسبة تنتقل من جيل الى جيل. من الألوان التي حملت الكثير من التصورات والمعتقدات اللون الأسود. الأسود في الثقافات الإفريقية لون الليل ولون التجربة والعذاب والأسرار الخفية والدسائس, أما في الديانات القديمة فالأسود دال على الخطيئة. فكان ارتداء الزي الأسود علامة للتوبة. أما العرب فقد تطيروا باللون الأسود. ورد في القرآن الكريم سورة النحل الآية الثامنة والخمسون "إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم". وعند العرب دعاء مشهور" سود الله وجهك". كما ارتبط بثنائيات الخير والشر الخير أبيض والشر أسود والظلمات والنور. في العصر الحديث دل الأسود على علو المكانة الاجتماعية وعلى الحزن والتشاؤم، البذلة السوداء السيارة السوداء حظ أسود الاثنين الأسود الخميس الأسود.
قصة متلازمة بلالا لوحة هيمن على ألوانها اللون الأسود، بدءا من العنوان بلالا فالشامة السوداء أو الخال العتروس الأمثلة الشعبية "نهار يديرها بلالا زينة يبول لمو في العجينة " "عيش متعوس وما تربط راسك بعتروس" الشعيرات الرهيفة، أسفل الدقن، كقرني ماعز، ديك الكحولية، زمر كحل. إن اللون الأسود في هذا النص له معنى ترابطي والنمط الترابطي حسب عالم النفس الانجليزي إدوارد بيلو, هو إدراك اللون الأسود مصحوبا بفكرة أو معتقد أو تجربة كل هذا حاضر في شخصية الرايس عباس بو الكرون. لقد نشأ هذا الارتباط بين الشخصية واللون منذ سن الرابعة في الحمام ثم في المدرسة وفي البحر إلى أن وصل إلى ذروته مع الحبيبة الزوجة فطوم, دون إغفال ما راكمه محيط الرايس من صفات ونعوت عنصرية لهذا اللون. كل هذا شكل عقدة نفسية تؤلم حامل اللون, فجعلت منه أبرز علامة سيميائية في النص. فقد أخذ الرايس في هذا النص على عاتقه تجسيد قيمة الميز العنصري بسبب لونه الأسود، وهي القيمة المتداولة في النص بكل ما تحمله الدلالات السيميائية من تضاد وتناقض واقتضاء. كما وجهت هذه العلامة القراءة من أجل إعادة بناء تصور جديد وفق رؤية جديدة لمعاناة إنسانية عرقلت ولازالت تعرقل كل تطور مبني على كرامة الإنسان وعلى محاربة الإقصاء والتهميش.
تلك حكاية من حكايات عبد الوهام سمكان، التي تراهن على المرافعة فنيا على قضايا إنسانية تخرجها من دائرة تكميم الأفواه الخرسان إلى الصراخ من أجل تغيير جذري لواقع نتقاسم مرارة العيش فيه.

الكاتب : موسى مليح
ايت اورير 3مارس 2023



الخرسان.jpg الخرسا.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى