د. خالد محمد عبدالغني - الجنون في رواية "مواسم الإسطرلاب" لعلي لفتة سعيد

يعتبر أرسطو أول من طرح التطهير بمعنى الانفعال الذي يحرر من المشاعر الضارة ، وذلك في كتبه "فن الشعر" وقد حدده كغاية للتراجيديا من حيث تأثيرها الطبي والتربوي على الفرد. فقد ربط أرسطو بين التطهير والانفعال الناتج عن متابعة المصير المأساوي للبطل، واعتبر أن التطهير الذي ينجم عن مشاهدة العنف يشكل عملية تنقية وتفريغ لشحنة العنف الموجودة عند المتفرج مما يحرره من أهوائه وقد حافظ التطهير في التراجيديا على نفس المنحى الإيديولوجي، فالبطل فيها هو الضحية ، والعقاب الذي يحل به ، هو خلاص مما هو استثنائي وطارئ على الجماعة وبذلك فإن التطهير الذي يشعر به المتفرج، يدعم انتماءه كمواطن فرد إلي الجماعة المترابطة . ولقد حلل علم الجمال وعلم النفس الحديث التطهير وتناوله من موضع التأثير على المتلقي، فقد تم ربطه بالمتعة، واعتبر أن انفعال المتفرج عندما يشاهد انفعالات الآخر على الخشبة هو متعة نفسية تنجم عن التمثل والإنكار، وتتأتى أصلاً من اكتشاف أن المسرح هو وهم واصطناع وليس حقيقة .
ومن الجدير بالذكر أن سيجموند فرويد هو أول من استخدم عام 1895 مصطلح التطهير بمعنى التفريج – من فرج الله كربتك - الانفعالي، وذلك عندما وصف طريقة علاجه لمرضاه المصابين بالهستيريا حيث اعتبر فرويد أن المرضى أثناء التحليل يميلون إلى تنفيس صراعاتهم بدلا من تذكرها- . قهر التكرار- وكانت المهمة التحليلية هي "مساعدة المريض الذي لا يتذكر أي شيء من ما قم بنسيانه أو قمعه، ولكنه قام بتنفيسه ليحل النشاط الحالي محل الذاكرة الماضية. وأضاف أوتو رانك أن التنفيس في بيئة التحليلي يحتمل أن يعرض أفكار قيمة بالنسبة للطبيب المعالج. لكنه كان الرغم من ذلك مقاوم من الناحية النفسية بقدر تعامله فقط مع الحاضر على حساب إخفاء التأثير الكامن في الماضي تحدث جاك لاكان أيضا عن " القيمة التصحيحية للتنفيس. كما اعتمدت السيكودراما التطهير كغائِيّة ، وذلك في توجهها لاستخدام المسرح كوسيلة علاج تقوم على إخراج ما هو مكبوت في داخل المشارك ، واستحضاره على مستوى الوعي، وهذا هو التطهير فيها . ويمكن إعادة النظر بقدرة المسرح على التطهير، ومحاولة البحث عن هذا التأثير في أشكال فنية جديدة كالسينما والتلفاز، ذلك أن هذه الفنون، لها قدرة على المحاكاة والإيهام، وتبدو أقرب إلي واقع المتفرج أكثر من المسرح " الآن.
ويُعرّف التطهير العرقي بأنه الإزالة الممنهجة القسرية لمجموعات إثنية أو عِرقية من منطقة معينة، وذلك مِن قبل مجموعة عرقية أخرى أقوى منها، غالباً بنيّة جعل المنطقة متجانسة عرقياً، وتتنوع أساليب القوى المُطبقة لتحقيق ذلك، كأشكال التهجير القسري (مثل الترحيل أو إعادة التوطين)، والترهيب، بالإضافة إلى الإبادة الجماعية . ويترافق التطهير العرقي عادة مع جهود مبذولة لإزالة الدلائل المادية والثقافية على وجود المجموعة المستهدَفة، من خلال تدمير منازلها، ومراكزها الاجتماعية، ومزارعها، وبُناها التحتية، وكذلك بتدنيس آثارها، ومقابرها ودور عبادتها.
وفي هذه الرواية - مواسم الإسطرلاب للأديب العراقي - علي لفتة سعيد التي ليس فيها اسم لمكان أو لشخصية أو لزمن محدد لكنها مفهومة للقارئ الذي سيعي إنه المعني بصناعة الدكتاتور. محاولة صناعة واقع ثقافي واجتماعي محدد على أرض غير محددة وسط جماعات من البشر غير محددة أيضا باعتباره "تطهير ثقافي اجتماعي"، وهذه الجماعات استطاعت صناعة ديكتاتور في تلك الأرض ولهذا فشخصية بطل الرواية من مرضى فصام البارانويا والنرجسيين في آن الذين صنعوا مجتمعا وفق ثقافة محددة أرادها تقوم على عبادة الفرد البطل الممتلك لكل أدوات القوة السحرية . وكان من الواضح منذ الفصل الأول أنه صنع عالما خياليا عاش فيه منذ أن هبطت عزيمته مع زوجته وقرر هجرها وكل ما كان منه سواء بناء القصور والسيطرة والحكم والسلطة وما كان متشابها مع كل ذلك، ما هو إلا من صنع العالم الوهمي المتخيل الذي عاش فيه والرغبة في امتلاك القدرة المطلقة ، ولما كانت نرجسيته عالية فكان ولابد أن تتحقق كل معالم الأسطورة من حيث عشق الذات والعزلة والموت لتحدث الإبادة – التطهير العرقي الفعلي – للديكتاتور كدلالة على أن التطهير الثقافي عقلا ومنطقا لابد وحتما أن يؤدي بأصحابه للإبادة والتطهير العرقي، إنه شكل مغاير في شكله لمفهوم التطهير العرقي التقليدي ولكنه في آن قد يكون من المقبول في مستوى "السطحي" أن تقول إنها رواية سياسية واقعية تشير إلى العراق في شخصية الزوجة التي انتصرت في النهاية على حاكمها الديكتاتور.
فمن تداعيات المؤلف الذي يقول هذه الرواية إنهاك عقلي وضرب في أعصاب الوقت والخوف من تالي الانتهاء منها.. المواسم أخذت مني تسعة أعوام من الكتابة التي بدأت بسؤال.. من يصنع الدكتاتور؟ كنا نعيش في وسط مزدحم بالخوف والموت والرعب والحروب ونحن نصفق ونهتف كأنما نستجدي الحياة.. ولكن كيف السبيل لإنتاج رواية تجيب على هذا السؤال.. فكانت مواسم الإسطرلاب التي أعدها الرواية التي تحكي كل شيء دون أن تشير إلى أي شيء وعلى القارئ أن يفهم وهو يفهم.. والمواسم تعني التحول من فصل إلى فصل مع الحكم والسلطة التي تعبث بنا وتحولنا إلى مسالك لها ومهالك من أجلها.. مواسم الإسطرلاب الرواية التي ليس فيها اسم لمكان أو لشخصية أو لزمن محدد لكنها مفهومة للقارئ الذي سيعي إنه المعني بصناعة الدكتاتور ومن أقصده في الرواية.. حتى أن خبيرا في الشؤون الثقافية كان أكثر خوفا مني حين وصفها بالقصة وقال إنها لا تذكر اسم الدكتاتور ولا المدينة ولا الدولة ولا القارة التي ينتمي إليها لذا فاقترح عند الموافقة على القصة.. وهذا الأمر تكرر معي حين قدمتها للطبع على حسابي الخاص لأحصل على موافقة وزارة الثقافة فكان خبيرها الناقد حسب الله يحيى الذي كتب عنها اعتذر وحين التقينا قبلني وسألني.. هل دخلت السجن؟ قلت له لا.. قال أنا دخلته 12 مرة ولا أريد أن ادخله مجدا.. وحين سقط النظام كتب عنها مقالا قصيرا في جريدة المدى ذكر فيها إن الروائي كان شجاعا في سرده لأجرأ رواية لو طبعت في حينها كما أخبرني لكانت تهز الوسط الأدبي.
ومن المقبول في مستوى "السطحي" أن تقول إنها رواية سياسية واقعية تشير إلى العراق في شخصية الزوجة التي انتصرت في النهاية على حاكمها الديكتاتور كما يختم المؤلف الرواية، وأن تقول أن الحكيم هو الشعب المثقف المستنير الذي يتمتع بالوعي والمعرفة والحكمة هو من ساعد العراق وصبر على أزماتها وواقعها حتى تحقق له الهناء مع العراق – الحكيم والعراق :" رفعوها وحملوا معها الرجل الحكيم. وبقي القصر والقصور الأخرى تحت رحمة المعاول. هربت الأشياء وسط الريح وتحوّل المكان إلى شاهدة صغيرة لا معنى له.. يبصقون على ما يذكرهم به ويرمونه بالأحجار، كل عام. بينما ظلّت المرأة نائمة على صدر من حسبته ذات يوم أكثر الرجال ثرثرة.(ص 302).
ولكن من الجائز قبول إن العالم الروائي لعلى لفتة سعيد مؤلف رواية مواسم الإسطرلاب مسكون بعالم الأساطير بلا جدال فها نحن أمام أسطورة أو أكثر مع توظيفات متفقة معها واحيانا مخالفة لها، وثمة استحضار لعالم الفصام البارانوي – جنون الإضطهاد والعظمة – وهذا ما يمكن رؤيته في "مواسم الإسطرلاب". حين نجد عملا روائيا رمزيا فلا اسم لأي من شخصياته ولا اسم لأي مكان، كأننا أمام أصول الحياة ومفرداتها المعقدة فليس من المهم أن يكون للشخصية اسم لأن المهم هو وجود الشخصية بأفعالها ومعتقداتها ومكوناتها وتأسيسها النفسي والاجتماعي ، وهذا أيضا ردنا لعالم الأسطورة الذي عنى بالحدث الأسطوري أكثر من اسم الشخصية وما الاسم إلا لتيسير التعامل معها .
ولهذا فشحصية بطل الرواية من مرضى فصام البارانويا والنرجسيين في آن. وكان من الواضح منذ الفصل الأول أنه صنع عالما خياليا عاش فيه منذ أن هبطت عزيمته مع زوجته وقرر هجرها وكل ما كان منه سواء بناء القصور والسيطرة والحكم والسلطة وما كان متشابها مع كل ذلك ، ما هو إلا من صنع الخيال والعالم الوهمي الذي عاش فيه والرغبة في امتلاك القدرة المطلقة ، ولما كانت نرجسيته عالية فكان ولابد أن تتحقق كل معالم الأسطورة من حيث عشق الذات والعزلة والموت.
البطل البارانوي:
عندما هجر البطل البيت خلف وراءه رسالة عثر عليها الرجل الحكيم ، وأود أن نقرأها لنرى ماذا كتب فيها البطل لنكتشف أنه مصاب بالبارانويا فقد كتب يقول:
((أنا الهارب من جور زمنٍ ملعون. ومكانٍ موبوء بالموت وصدورٍ يملؤها الحقد والضيق. وأفواهٍ غاب عنها الصدق، وأيادٍ استأنست لعبة الخمول، وعقولٍ تعودت الخدر وأرجلٍ راكضةٍ خلف اكتناز الأشياء.. وأنفسٍ بلا حلم.. متصورين أن ما يجري من أحداث وويلات لا علاج لها. إلا في السباق نحو الصمت دون أن يفكّروا بجدوى وجودهم أو يفهموا كيف يغلبون الموت. معتقدين انه الغاية الأخيرة والهدف الذي لا يحتاج إلى تخطيط.. لم يحركوا ذرات عقولهم أبداً. ولأنني مولود لأنبش في الصحو. منذ لحظة معرفتي بوجودي على وجه الأرض . رحت أصارع أفكاري التي تأتيني عنوة وبلا مقدمات حتى صارت جزءاً من تكويني. وكان واجبي هو أن أشذّب الفوضى لأُمنح الاستقرار الأبدي ولأنني منساق خلف الأقدام التي تقودها الأفكار التي تقودها أيضاً تأملاتي وتفسيراتي الخاصة. فلم أجد من يصغي إلي حتى ضقت ذرعاً وضاق صدري حد الاختناق من هول ما رأت عيناي وسمعت أذناي حتى داخ رأسي. ولم يعد ينفع الاستمرار مع الوجود المستلب . فأنبأتني الأحلام برؤياها العظيمة أن لا نفع من المكوث في نفس المكان. والدوران حول الزمن ذاته. لماذا لا أكون أنا من يمسك بصولجان الأمر؟أريد أن أكون عظيما . لأنني هنا كطير كُسرت جناحاه. فأنا أختلف عن الآخرين في كل شئ. حتى لكأني لا أنتمي إلى عالمهم الخاص. لذلك قررت الرحيل والبحث عن خطواتي. فهناك من ينادي بعزلتي لأنسج عالمي .. ٍسأكون هارباً في نظركم. لابأس. فأنا هارب من زمن لا يتحرك ..لأحرك ذراتي وأبحث عن مبتغاي .. لن تعرفوا طريق ذهابي. فأنا لا اعرفه أيضاً. لأني مقاد لأكون في زمن أقود فيه أشيائي. لذلك عليكم (من يجد هذه الورقة).. ألا تسألوا عني أبداً. حتى لا ترسلوا الموت خلف خطواتي.. أنتم لا تصدقون ذلك. ولكن يجب أن أقاوم الموت مهما كان الثمن .. لأني سأمسك بالريح..وأخاطب الغيوم أينما تكون.. فمصيرها سيكون لي حتماً )) (ص 41-43)
صناعة البطل الخارق:
إن صنع البطل الخارق متعدد القدرات الراغب في امتلاك القوة المطلقة عالما متوهما خياليا بدأه المؤلف وهو متأطر بالعالم الخرافي الأسطورى الذي يؤكد أن هناك أمارات وقوى خفية تتعامل مع البطل الخارق في أزمنة قديمة كالطفولة أو المراهقة كأنه تعده للمستقبل ، فيقول المؤلف على لسان بطل الرواية (لقد صدقت تلك العرّافة عندما نظرت إلى باطن كفّي. لقد أصيبت حينها بالعجب. يا ليتها كانت على قيد الحياة لساعدتني كثيراً. لعنة على الموت الذي يسرق الأحلام ويبقي الجسد عرضة للانصهار تحت التراب. قالت لي.. أنني أسير مثلها ولكني سأصل. لأنني اكتشفت ما أعانيه من ضيق التفسير مبكراً. لقد جعلتني العرّافة لا أنام. أطرق أبواب الرؤية لأتطلع إلى الضوء المنبعث من كل الجهات وفي كل الألوان وأستمع إلى كل صوت يختلف عن بحة أصوات البشر. قالت: ستخرج من بئر الظلام إلى واحة الانطلاق الكبيرة حيث تتسع خطواتك. قالت: إن في عينيك بياضاً في السواد وسواداً في البياض. عليك بأتساع الصدر وأن تمرّغ وجهك بمسحوق الصبر. نفّذ كل ما تراه وتسمعه. لأنه أمر صادر من رؤياك العظيمة. ولا تسأله عن شيء. قالت: هنيئاً لك المستقبل. ولم أفهم منها شيئاً في بادئ الأمر.(61-62).
المرآة والنرجسية:
بطل الرواية كما وصفه المؤلف اعتمد في سلطته وقدرته الخارقة على المرآة التي كانت توجهه ، وما المرآة هنا إلا صورته المنعكسة فيها، فقد عشق صورته المرآوية وبالتالي فقد أخذ اللاشعور يوجهه ، ومن ثم تحقق البعد الثاني في الأسطورة وهو العزلة فيقول المؤلف: كانت عيناه على المرآة الطافحة بين يديه. اعتدل في جلسته.. مبتعداً عن جذع الشجرة... قبلها.. آه أيتها المرآة.. أنت حياتي.. وسأكون أنا حياتك أيضاً. وعاد مسنداً رأسه على الجذع.
- عندما تدخل بيتاً. كن وحدك مع المريض. لا ينبغي أن يراك أحد. وانظر الى المرآة. سيتوضح لك جسده داخل المرآة. عندها ستراني أحوم حوله. إن توقفت عند قدميه.. سيشفى فوراً. وإن توقفت عند رأسه. فلا فائدة.
كانت حواسه مشغولة. لا يريد أن يسقط حرفاً واحداً. عليه أن يدخل جميع الكلمات الى مضيق الفهم. وأن يمضغ رغوة سعادته بشيء من الارتعاش.
- ستكون أنت صاحب القرار بعدها. وستكون صاحب السلطة.. سيتبعك الناس وسأكون معك. فأنا أحاول أن أشغل الناس جميعاً بما أريده وأنت أداتي. ولكن أحذر. انصهر الصدأ، والتمعت صورة العرّافة .. عليك أن تكون مطيعاً لأسيادك .. لا تفكر أبعد من ظلك فيما لا يعنيك . وكن ما تريده من خلالهم . (ص 191-192).
النرجسي: الهلاك / الموت :
وبعد تلك العزلة التي سبقت الموت مثلما حدث مع نرجس فكانت المرآة وهي أداة العشق والعزلة أيضا أداة الموت وفي هذا يقول المؤلف على لسان شخصية الزوجة:
كانت تسرد عليهم تلك اللحظة العصيبة التي مرّت بها عندما وجهت المرآة إلى وجهه عنوة وكان هو يصر على الهرب وكانت تصر على الإبحار في موانئ النهاية لترسو بهدوء على شاطئ الأمان.
قالت له :
- يجب أن تنظر بعينيك.
أمسكت المرآة بأصابعها العشرة. تشدها بأعصابها التي توتّرت إلى مدى بعيد. رأته وقد تشنّج جسده. أصابته إرتعاشة جعلته ينكث ويتوسل أن تبعد المرآة.
- أنظر لتنتهي المأساة.. لا أريد أن ألوث يدي بدمك الفاسد.
لم يعد أمامه من مهرب.. فتراخى الجفنان وهربت ممانعته في سعير إصرارها فاأستسلم مرغماً.. أصابتها المفاجأة، وكادت تسقط لولا تمسكها بأخر لحظة بالسيل الممتد من مدينتها الى الغرفة الواسعة. رأت هيكله العظمي واضحاً في المرآة. لحظات مخيفة ومرعبة.. لا تدري ما الذي تفعله غير أن تبقى ممسكة بالمرآة. فخرج شيء أبيض يتدحرج مثل زئبق حول الهيكل العظمي. حاول التخلّص .همهم بكلمات لم تفهم منها شيئاً. سمعت دقات قلبه، كانت أسرع من دقات قلبها. سمعت صدى صوته.. إنه يستغيث..يقول إلى الزئبق الأبيض أن يقف عند قدميه. كانت كلماته أشبه بالحشرجة. وصهيل بداخلها جعلها ترتعش. وتمنت لو رمت المرآة. شعرت به يكاد أن ينفجر.
- إنه الشيطان بعينه.. يستغيث بإبليس.
حاول رفع كفه المرتعشة. أتعبها الانتظار والزئبق الأبيض يدور حول صورة الهيكل كأنه يريد أن يزيد من عذابه.. ثم تباطأ في الحركة قرب الرأس.. ثم تكوّر قربه. حاول أن يغمض عينيه..لم يستطع. بل ازدادا اتساعاً. عندها قرأ نتيجته واضحة. فأنفجرت المرآة وتناثر حطامها عبر النوافذ .. ليسقط مع أجزاء تماثيله المنهارة ، وصوره العتيدة .. تدوسها أقدام الغاضبين (ص 300 -302).
خاتمة:
نحن هنا أمام رواية صنعت باقتدار فني حيث أوهمت الجميع - النقاد وغيرهم - أنها رواية واقعية سياسة تهتم بشأن العراق ، حتى أن كاتب كلمة (الغلاف الخلفي على الطبعة الأولى للرواية الصادرة عن دار الشئون الثقافية العامة ببغداد عام 2004) "كان طوال الوقت حذرا خائفا لأن الرواية جريئة ورموزها واضحة والتأويل فيها يكف عن بعد سياسي مرهون بالواقع العراقي المعتق"، ولكن كما رأينا الرواية رمزية عن حالة بارانويا متسقة مع أعراض وتاريخ المرض ومتسمة بملامح النرجسية.
وكأن علي لفتة سعيد أراد وحقق في آن ما كان يرنو إليه في لاشعوره هو أيضا أن يقدم رواية رمزية بامتياز لا علاقة لها بالواقع في قالب من الاضطراب النفسي والاستعانة بعالم الأسطورة ، فقد تعلق بأسطورة بنلوب أيضا حين جعل الزوجة عفيفة وترفض الزواج طوال فترة غياب الزوج في بحثه المتوهم عن القدرة المطلقة ، واستعان أيضا بأسطورة الخصاء تلك التي جعلت من البطل مخصيا لا نفع فيه جنسيا لكي يكون إلهًا متوهما، ودلالة الحمار الذي صحبه وهلك منه في منتصف الرحلة وهي القصة التي حكاها القرءان عن الحمار وصاحبه ف الازمنة القديمة .
إن على لفتة سعيد مسكون بالرمزي والأسطورى ولكنه يغمي على المتلقي فيتصوره وكأنه كاتب واقعي تاريخي وما هو بذلك، ولعل نظرة عميقة لكل أعماله الروائية تضعنا أمام ذلك التصور ، وما هو إلا من مخزون حضاري جمعي لحضارة العراق وتاريخه ، ومخزون تراثي شفاهي لابد وأنه استمع لبعض منه في طفولته ، ومكون ثقافي معرفي تكوَّن لديه في سنوات لاحقة ، وربما كان همًا ومعاناة من الواقع السياسي وغيره فألجأه إلى دنيا الخرافة والأساطير .


د. خالد محمد عبدالغني




363726439_209472778757185_7596724870110911991_n.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى