خيري حسن - إلى (عطيات) و(عبد الرحمن)

فى صحيفة( القاهرة) التى صنع
مجدها العظيم صلاح عيسى
ويرأس تحريرها - الآن - الصديق طارق رضوان

" احنا اتقابلنا فين
احنا اتفاهمنا ازاى
عينيكى شجرة تين
وناى
وبراد شاى"
"كان هنا وخرج من 5 دقائق"
وكنت هنا قبل هذه الدقائق الخمس بأكثر من ألف سنة أو بأكثر من 5 الآف سنة أو بأكثر من 7 الآف سنة. أنا أتذكر هذه الدقائق الخمس ولا أتذكر عدد السنوات ـ هكذا تقول - أو تعتقد - عطيات الأبنودى وهى تتحدث مع نفسها وإلى نفسها ـ بعدما جلست حزينةُ، وحيدةٌ على أريكة قديمة منذ دقائق قليلة، تعيد شريط الذكريات، وتداعب الحكايات، وتحاور الكلمات، وما مضى من ربيع العمر" وفات "!
اليوم عادت إلى هذا المكان البعيد بعدما رفضت تَوسُّـلات ابنتها ـ بالتبَني ـ أسماء يحيى الطاهر عبدالله ـ في هذا الصباح الخريفي، المنعش، والمدهش خوفاً من تدهور صحتها بسبب مشقة السفر إلى حدائق القناطر الخيرية ـ تبعد عن القاهرة (20 كم) ـ بعدما أصرت على المجيء إلى هنا بمفردها.
جاءت لتفتش عن( الحب) الذى حضر معها قبل سنوات عندما جلست فى نفس المكان بين هذه الأشجار تسمع أعذب الألحان، وتغني مع الناي أغنية للأنسان وأغنية للأحزان وهى جالسة تشرب من ( براد الشاى)!
فى هذا اليوم جلست تنظر ـ بحب ـ إلى وجه هذا الشاب الصعيدي الجامح. صاحب الجسد النحيف الطويل الطامح، واللون الأسمر الفاقع، والصوت المبهج، الصارخ. والشعر (المنكوش) الذى يشبه أوراق شجرة السنط العتيقة.
والشِعر ـ فهو يكتب الشِعر ـ وما أجمله من شِعر ـ العامى البسيط، والجميل، والحزين الذى استمعت للبعض منه وهو يلقيه بلهجته الصعيدية الساحرة، والآسرة، والباهرة في برنامج إذاعي شهير كان يٌذاع على إذاعة (صوت العرب) في ذلك الزمان الغابر؟
ـ البرنامج كان اسمه(عماليات). والحبيب الذي ـ كان هنا ـ وكانت معه هنا ـ قبل 40 سنة اسمه عبد الرحمن محمود أحمد عبد الوهاب الأبنودي وشهرته عبد الرحمن الأبنودي.
°°°
( القناطر الخيرية ـ 1965 )
فى هذا الزمان وفى هذا المكان وبالتحديد يوم 22 سبتمبر/ أيلول من ذلك العام جاءت لزيارة القناطر فتاة متوسطة الحال، ممشوقة القوام، سمراء الملامح، اسمها عطيات عوض محمود خليل ـ اسم الشهرة ـ عطيات الأبنودي، نشأت وتربت فى مدينة السنبلاوين - دلتا مصر - وجاءت قبل سنوات إلى القاهرة لتدرس في كلية الحقوق جامعة القاهرة.
الأم اسمها نعيمة حسن الجوهرى تعمل (خياطة ملابس) والأب يعمل في محل أقمشة( بياع مِنى فاتورة)! تحب القراءة، والثقافة، والسينما، وتسكن مع أخيها الأكبر وزوجته. بعد فترة تركت الشقة بسبب الزوجة الغاضبة دائماً، والشقيق السلبى دائماَ وقررت الاعتماد على نفسها.
التحقت بالعمل فى مهنة متواضعة بمصلحة السكك الحديدية ثم تقدمت للعمل ـ بعد اختبار صعب ومرهق ـ للعمل لاعبة في مسرح القاهرة للعرائس. وعندما وصل سنها إلى 18 سنة تزوجت من فنان تشكيلى اسمه مصطفى كامل ثم انفصلت عنه بعد تجربة استمرت 3 سنوات فقط. بعد الطلاق بشهور وقعت فى غرام شاب أخر لكنه تركها ـ وترك حبها ـ وتزوج من فتاة أخرى كانت حالتها المادية والاجتماعية أفضل منها كثيراً.
ومضت الأيام ما بين دراسة، وعمل وزواج، وطلاق، وقصة حب فاشلةـ وحلم جميل ـ لم يكتمل!
•••
( القناطر الخيرية ـ 2005 )
اليوم جاءت إلى هنا بعد مرور 40 سنة من زيارتها الأولى.
" لا أعرف لماذا جئت؟ لكننى جئت! ربما جئت حتى أقول لنفسي على الأقل ـ وأنا فى خريف العمر ـ كان هنا. هنا كان الحب!
والحب كان.. والحلم كان.. مع عبد الرحمن.
هنا جلسنا. هنا ضحكنا. هنا مشينا. هنا امسك يدى. هنا اشعل سجارته. هنا سمعت ضحكته. هنا استمع إلى حكايتى. هنا قلت له: عارف يا عبد الرحمن مرة ذهبت أسأل عنك فى الإذاعة؟ فقال لى أحد الأشخاص: "الأبنودى..كان هنا من 5 دقائق وخرج"!
•••
( شارع الشريفين ـ مبنى الإذاعة)
ـ هل تذكر هذا اليوم يا عبد الرحمن؟
رد وهو يبتسم:
ـ فاكر طبعاً
ابتسمت ثم قالت:
ـ يومها تقدمت منك ـ حتى لا تخرج بسرعة كعادتك ـ وقلت لك "اسمى عطيات.. وأول مرة سمعت فيها اسمك كان من أميمة أبو النصر!
ـ هل تعرفها؟
ـ لا
ـ صحفية فى صحيفة الجمهورية قالت لى لقد صدر قرارُ منذ 15 يوماً بمصادرة ديوان شعر (الأرض والعيال) لشاعر موهوب اسمه عبد الرحمن الأبنودى.
ـ وماذا قلت لها؟
بدهشة ردت:
ـ "كنا فى باب اللوق وأخذتها من يدها وبحثنا لدى باعة الصحف عن الديوان
ـ وهل وجدتموه؟
ردت وهى تضحك بصوت مسموع:
ـ وحياتك.. لم نجد له أثراً!
وبعد مرور 5 ساعات تقريباً قالت:
ـ تأخرنا .. هيا بنا نعود!
•••
( السيدة زينب ـ بعد 3 أسابيع)
قبل انتهاء الأسبوع الرابع من هذا اللقاء قرر عبد الرحمن الزواج من عطيات. وبالفعل ذهب صديقه يحيى الطاهر عبد الله لخطبتها له من أمها. "ولماذا يحيى؟ قال الأبنودى: شوف يا عطيات قبل أن نتزوج لابد من موافقة صديق عمري وأخى يحيى" وجاء يوم الخطوبة حيث ذهب يحيي إلى منزلها وقال:" أريد أن أطلب يدك لى"!.. ثم أكمل قائلاً:" هذا إذا لم توافقى على زواجك من الأبنودى؟ عطيات لم تنتظر وردت على الفور:" هتزوج عبد الرحمن طبعاً" وتم الزواج بعد أن دفع مقدم صداق ( المهر ) خمسة وعشرين قرشاً ومثلهم كمؤخر!
وعاش معاً في بيت أمها فى( حارة صالح) لمدة شهرين قبل العثور على شقة فى شارع أبو هيف ـ متفرع من شارع البستان ـ باب اللوق - كان يسكنها الدكتور رفعت السعيد وتركها ليتزوج فى شقة أخرى. إيجار الشقة 4 جنيه فى الشهر، دور ثالث في بيت قديم متهالك، الحكومة قامت بترميمه بعد ذلك.
•••
( أكتوبر ـ 1966 )
عاش عبد الرحمن يُغنى ويفرح ويسعد مع" عبد العاطى أو عطعوط أو طاطا" ـ كما كان يحب أن يناديها ـ فى عش الزوجية الهادئ إلا من زوابع صديقه يحيي الطاهر عبدالله الذى كان يقيم معهما فى نفس الشقة حسبما فرض ذلك الأبنودى على نفسه وانتهت ( تلك الزوابع - بعد صدام كان متوقعاَ مع عطيات) إلى مغادرة الشقة وصعوده للعيش مع كمال شقيق الأبنودي فى حجرة فوق السطوح )!
وذات يوم جاء لهما خطاب من قنا ـ جنوب الصعيد ـ من الشيخ الأبنودى والده يقول: "سوف أزوركم فى القاهرة هذا الإسبوع" ثم جاء خبر آخر يقول:" قبضت المباحث على صلاح عيسى وغالب هلسا"
فور سماعهما للخبر الأول قالت عطيات:" فرصة سعيدة والله وحشنا هذا الشيخ الطيب".
وفور سماع عبد الرحمن للخبر الثانى قال:" الدور علينا" !
فى الثانية من فجر يوم التاسع من ذلك الشهر خبط باب الشقة بقوة كادت تسقطه من بين حيطانه. فتح عبد الرحمن الباب مرتبكاً. دخلت القوة تفتش الشقة ثم قالوا:" هيا بنا كلمتين وحترجع على طول إن شاء الله" فى هذه الليلة نام الشيخ الأبنودى مبكراً من تعب السفر لكنه صحى على صوت وأحذية العساكر وهى تسحب ابنه للمعتقل.. بكى الشيخ بعدما صلى الفجر وقرر العودة للصعيد فوراً. بدأت عطيات ترتب أفكارها، وتحاول أن ترى ما تبقى من أوراقه التى كتبها بخط يده. قال الشيخ الأبنودى قبل عودته:" هو حد يخالف الرؤساء.. هو يعنى إحنا حنعرف أحسن منهم"!
لكن لماذا تم القبض على عبد الرحمن؟ المطرب محمد رشدى قال:" دول ناس شيوعيين ولازم كانوا بيعملوا حاجة، عشان كده الحكومة حبستهم" !
خالد محيي الدين قال:" فيه واحد اسمه صلاح عيسي كتب شوية مقالات فى جريدة الحرية بها ميول معينة، راقبوا صلاح وشافوا الناس اللى بيتصل بيهم وبيزورهم، فمن ضمنهم الأبنودى". عبد الحليم حافظ قال: "هروب يحيي الطاهر عبدالله - من الشرطة - وعلاقته بعبد الرحمن هى السبب فى دخول الأبنودى المعتقل"! كمال الطويل قال: "عطيات السبب.. هى اللى مخلتش الأبنودى يكتب غنوة يوليو السنة دى"! عبد العظيم محمد قال:" يا عطيات أنا أخوك ومراتى أختك..وعبد الرحمن أنا بحبه وبحترمة لو أنه فيه شوية جنان" أما وزير الداخلية ـ حينذاك ـ شعراوي جمعة فقال لخالد محيى الدين عندما سأله:
"ـ إيه موضوع الأبنودى؟
ـ الأبنودي مين؟
ـ على حسب وداد قلبى
ـ لآ وأنت الصادق، تحت السجر يا وهيبة
ـ أنت عارف إنه شاعر كويس وأنا عارف إن مالوش دعوة بالسياسة!
ـ أنا عارف إن مالوش دعوة بحاجة، وحيخرج عن قريب إن شاء الله"
•••
( القناطر الخيرية ـ 2005 )
والحقيقة أننى حتى هذا اليوم ـ أصدقكم القول ـ لا أعرف لماذا اعُتقل عبد الرحمن على بالتحديد. ما أذكره فقط اننى كتبت يومياتى حتى أسجلها للتاريخ ـ تاريخى أنا على الأقل ـ واستمرت كتابتي لليوميات 4 أشهر تقريباً هى فترة اعتقاله. فيها سجلت دموعى، وهمومى، ووحدتى، وغربتى، وحكايات زميلاتى زوجات المعتقلين ومنهم:" فريدة أحمد زوجة صلاح عيسي ـ فريدة الشوباشي زوجة على الشوباشي ـ سمية زوجة كمال عطية ـ إيفلين( سويسرية الجنسية) زوجة سيد حجاب ـ أميمة أبو النصر زوجة جلال السيد ـ ملكة زوجة صبرى حافظ ـ فاتن الشوباشي زوجة عبد الرحمن الخميسي.و. و. وغيرهن!
•••
( القناطر الخيرية ـ بعد ساعة )
فى هذا المكان جلس عبد الرحمن يقرأ لى:
"الضباب.. كان بات ليلتها ع القزاز
كانت القرية اللى مات فيها الخواجة لامبو
نايمة ع الجليد
فى الصباح
اتحركت جوه المطابخ الصحون والخدامات
وابتدا الدق ف محلات الحديد"
بعد الاعتقال لم أنم إلى أن غلبنى النوم من السهر والتعب واستيقظتُ متعبةُ، عيناى ملتهبتان منذ أيام وإحداهما شديدة الأحمرار. وضعت قطرة العيون المهدئة، خلعتُ ضرساَ قبل ذلك. كنت أحلم قبل استيقاظى حلماً طويلاَ، كنت معى فيه، ولكنى كنت أعرف فى أن هذا حلم وأننى سأستيقظ على السراب ولن أجدك بجانبي" عطيات مازالت تعيد شريط الذكريات وهى جالسة بين أشجار حدائق القناطر.
الشمس دافئة. الجو منعش. السماء صافية. من بعيد لمحتها فتاة عشرينية تمسك بيد حبيبها. اسمه وائل سألته: هل تعرف من التى مررنا عليها الآن جالسة بمفردها؟
ـ لا
ـ إنها عطيات الأبنودى.. نعم أنا أعرفها رأيتها عدة مرات فى المعهد ( معهد السينما) ولها أعمال تسجيلية رائعة شاهدت منها أكثر من فيلم.
ثم وقفت الفتاة وقالت بحزم:
ـ تعال نقترب منها ونتعرف عليها.. هذه فرصة قد لا تتكرر وبالفعل تقدما إليها
ـ أنا مروة طالبة فى معهد السينما قسم إخراج وهذا وائل خطيبي فى معهد فنون مسرحية.
ـ أهلا بكما" قالتها بهدوء وهى تبتسم لهما. بعد لحظات جلس معها وتجاذبا أطراف الحديث.
ـ وائل: هو حضرتك هنا لوحدك
ـ آه
ـ مروة: طيب فين الأستاذة أسماء ( تقصد أسماء يحيي الطاهر عبدالله)
ـ ردت وهى تضحك:
انتظرت حتى ذهبت إلى الجامعة وجئت إلى هنا
ـ مروة بدهشة:
ـ ولماذا جئت إلى هنا( قالتها بتردد وحذر )
ـ لأنه كان هنا!
نظرت مروة إلى وائل ولم تعلق! •••
( شقة البستان ـ 1966 )
استيقظت فى الصباح.." لا أفعل شيئا.. لا أستطيع الخروج. لا طعم للأكل، لا طعم للكلام.. ولكنى بدونك يا بسمتى وعيونى. لا أستطيع عمل أى شىء" فى المساء جاء للسؤال عنك مجموعة من الأصدقاء. الآن جاء عبد الحليم حافظ.
" أهلا يا أستاذ عبد الحليم مر الآن 4 شهور. بعدما قدمت له فنجان قهوة وأزدحم البيت بأهل الحارة سألته: مر الآن 4 شهور.. متى يخرج عبد الرحمن؟
ـ يا ست عطيات.. عبد الرحمن أخويا وبيته مسئول منى ومراته مسئولة منى.
ـ أنا مش مسئولية حد!
ـ يا ست احنا كلنا أخواتك وأنت عارفه الأبنودى إيه بالنسبة لى"!
ـ مروة قالت بفرح: عبد الحليم جالك البيت لما كان الأستاذ عبد الرحمن معتقل؟
- آه.. الحقيقة مقصرش معايا وجه زارنى أكثر من مرة وأول مرة كان زعلان وقال:" الشلة ـ كان يقصد يحيي وصديقه على كلفت ـ مش عايزين عبد الرحمن يشتهر لأنه مش من مصلحتهم شهرته!
ـ أنا رفضت هذا الكلام وسألته ليه يا أستاذ عبد الحليم؟
ـ "علشان همه اللى قالوا له لا تكتب أغانى للثورة" ثم أضاف:" وهذا رأي كمال الطويل أيضاَ"
ثم قالت وهى تضحك:" فى هذه الأزمة سمعت كلام غريبا وعجيبا. مثلا محرم فؤاد قال:" الأبنودى واخد منى 500 جنيه وجهاز بيك آب ولم يكتب لى أغان حتى الآن. وقال: أنا متأكد إن الأبنودى شيوعى ومراته كمان شيوعية"!
وخيري شلبي عندما التقيت به صدفة سألته: أيه يا خيري مبتسألش عن مرات الأبنودى ليه؟ رد: أصل كنت جاى وقالوا البيت متراقب"! والشاعر عبد الرحيم منصور يتجول فى شوارع القاهرة حزيناً جداَ عليك ويأت ليطمئن علينا. ومحمد رشدى خاف وقال: "سُمعتى تبقى ازاي لو مسكونى وخصوصاَ بيتهمونى دائماَ بإنى لا أغنى إلا للشيوعيين أمثال الأبنودى وسيد حجاب. بس والله أنا بحبهم جداَ والأبنودى بالذات ده حبيبي"! وقال أحمد الخواجة نقيب المحامين:" دي قضية عمل تنظيم غير مشروع"! وقال ميشيل كامل مدير تحرير مجلة الطليعة - رئيس التحرير كان لطفى الخولى -: احنا بنشتغل من أجل إنهاء الموضوع لأنه بيهددنا كلنا وكان فيه قائمة أخرى بها 200 من الأسماء والرئيس عبد الناصر أوقفها"!
•••
( القناطر ـ بعد ساعتين)
لكن كيف كان عبد الناصر الرجل الاشتراكى الثورى يسمح بأن يعتقل المفكرين والشعراء والكتاب فى عهده؟ كان هذا سؤال وائل. نظرت له مروة بغضب فيما قالت عطيات وهى تضحك: " أوعى تكون شيوعى يا واد يا وائل؟ رد: ما خلاص يا ست الكل هو بقي فيه شيوعية ولا حتى ليبرالية؟ ثم اعتدلت عطيات وقالت: سؤالك هذا طرحه ـ ولكن بصيغة أخري الأديب العالمى جان بول ساتر ـ الذى زار القاهرة فى مارس من عام 1966 والتقى بالرئيس عبد الناصر وسأله عن اعتقال الكتاب والشعراء والمفكرين. رد عبد الناصر:
أى رئيس دولة فى العالم لديه أجهزة تحمى نظامه وعندما تتقدم أحد هذه الأجهزة بطلب اعتقال مجموعة من الأفراد لأنهم خطر على أمن الدولة ويتآمرون على قلب نظام الحكم ماذا يفعل الرئيس فى هذه الحالة؟ ورغم ذلك أنا قلت حققوا فى الموضوع وآتونى بالنتائج ولم يحدث حتى الآن أن آتونى بالنتائج"!
رد وائل؟
ـ ومتى تم الإفراج عن الأستاذ الأبنودى؟
بعد تنهيدة طويلة قالت:
يوم 12 مارس 66 جاء لى عم جمعة ـ جرسون قهوة إيزافيتش ـ وقال لى بفرحة:" اتصل بتليفون القهوة ضابط وقال لى بلغ مدام عطيات إن الأستاذ عبد الرحمن حيفرج عنه النهاردة وحيكون فى البيت بالليل" ولا أذكر ماذا كان شعوري وقتها لكن شعوري الذى مازلت أذكره اننى كنت وكأننى أحيا مجرد حلم طويل ملئ بالأحداث العبثية. وبدأت على الفور تنظيف البيت وطبخت للعشاء. إذن سيكون معى هذا المساء. ما أجمله من مساء. لكن متى؟ فى السابعة؟ فى الثامنة؟ فى التاسعة؟ لست أدري؟!
قلت لنفسي إذا لم يأت قبل خروجى للمسرح ـ كانت تعمل فى مسرحية على مسرح الجيب من إخراج نجيب سرور ـ فسوف أترك له رسالة أقول له فيها " أين انا"!
°°°
( كوبري قصر النيل ـ 1966)
وبالفعل لم يأت فى النهار.. ولم يأت فى المساء فتوجهت إلى المسرح وانتظرته يأتي هناك. ونعود معاً سيراً على الأقدام من المسرح مروراَ بكوبري قصر النيل ووصولاَ لميدان التحرير ومنه إلى البيت فى شارع البستان.. الساعة عدت العاشرة.. عبد الرحمن لم يأت.. العرض انتهى.. اسدلت الستارة.. الجمهور يصفق.. قلبى يرتجف.. عقلى مشتت.. هل خرج الليلة؟ هل مازال فى مبنى المباحث لانهاء الاجراءات؟ أخذت تاكسي مسرعة وعدت إلى البيت. فى البيت وجدت على الباب من الخارج رسالتى معلقة كما هى:
" إلى الواد حبيبى الذى انتظره كل ليلة. أنا فى مسرح الجيب. موجودة هناك حتى العاشرة. تليفون المسرح: (805842/ 805862)
التوقيع:
(عدوية)
°°°
( الشقة ـ بعد دقائق )
فتحت باب الشقة بهدوء. إضاءة الصالة خافتة. الجدران صامتة. رائحة دخان السجائر استقبلتنى.. عبد الرحمن خرج.. عبد الرحمن عاد. عبد الرحمن يجلس الآن فى الشقة منذ ساعتين.
عبد الرحمن لم يقرأ الرسالة. وأنا لم أسأله لماذا لم يتصل بى؟ ولماذا لم يجرِ إلىِ؟ ولماذا لم يأت ليشاهدنى وأنا أمثل؟ أو لماذا لم يصفق لى مع جمهور العرض؟
"عبد الرحمن.. حمدالله على سلامتك نورت البيت يا حبيبي.. نورت البيت يا جدع"!
•••
( الجيزة ـ 2005)
حمد الله على سلامتك يا ماما عطيات! أين كنت منذ الصباح؟ كان هذا سؤال أسماء يحيي الطاهر عبدالله عندما عادت إلى البيت فوجدتها تجلس فى الصالة منهكة الجسد.. تمسك بيدها بكوب ماء بارد. وقبل أن ترد خرجت من الطبخ مروة - ومعها وائل - يحملان أطباق الشاى والسندوتشات وهما يبتسمان فيما جلست أسماء على أقرب مقعد تنتظر منهما معرفة( تفاصيل القصة. من هما؟ وكيف جاءا إلى هنا؟) لتعرف ماذا حدث؟ وأين كانت ماما عطيات منذ الصباح حتى هذا الوقت المتأخر من النهار؟
تسأل أسماء مندهشة:
كيف خرجت؟ وكيف عادت؟ فهناك - وهنا بالطبع - مَن يخرج قد لا يعود؟!
تمتمت عطيات الأبنودي بصوت مسموع وهى ترتشف آخر ( هبابة ) فى كوباية الشاي قائلة:
"كان هنا.. وخرج من 5 دقائق"! ومازلت أسأل لماذا لم يأت ليرانى على المسرح؟ ونعود معاً سيراً على الأقدام نغني:
"في ايديا المزامير..
وف قلبي المسامير..
والدنيا غربتني..
وأنا الشاب الأمير..
رمشك خطفني من اصحابي..
وانا واد صياد"!
عدويه.. اهي.. ضحكتها نهار..
عدويه اهي.. شمس واسرار"
.......... آه يا عدوية!
خيري حسن
-------------------
▪︎ الأحداث حقيقية.. والسيناريو من خيال المؤلف.
▪︎ الشعر المصاحب للكتابة للشاعر عبد الرحمن الأبنودي.
• ينُشر فى صحيفة (القاهرة )عدد اليوم 31 يوليو - 2023
▪︎ المصادر:
كتاب ( أيام لم تكن معه )
عطيات الأبنودى - طبعة دار الفرسان - 1999
▪︎ الأعمال الكاملة للشاعر عبد الرحمن الأبنودى.



364674030_2556916051130773_724495541657134041_n.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى