نجاح هادي كبة - الأنساق الوجودية في رباعيات الخيام

1- ما الوجودية …؟

إنّ (أنصار هذه الفلسفة ينكرون أن يكون من الممكن وضع الحقيقة الواقعية Reality في تصورات دقيقة أو حبسها في مذهب مغلق … فخبرتنا ومعرفتنا هما باستمرار ذرات غير مكتملة)(1) و (الوجودية الحديثة … تنطلق من الوجود ، إذ هي ارتداد على الجوهرية القديمة التي تنطلق من الجواهر ، والجوهر قيمة عامة، مثلاً الإنسانية ، المحبة ، الوفاء ، تلك الجواهر تتميز بالشامل الذي لا يعود إلى وجود شخص)(2)، فالوجودية ترى أن الوجود سابق للجوهر وبناءً على ذلك

فإن الأخلاق والأفكار والمبادئ وغيرها نسبية وأنها تحدّد من طريق علاقة

(الأنا – بأنت) أو (الأنا – بهي) أو (الأنا – بهم) .

لذلك تُتَّهم الوجودية باللاعقلانية لأنها تفضّل المشاعر والعواطف والانفعالات على العقل ومن هنا نشأت علاقة جدلية بين الوجودية والشعر لاسيما وأن الوجودية فلسفة ذاتية تفضّل الذات على الموضوع ومن موضوعاتها الحرية، الاختيار ، الالتزام ، التجاوز ، الانضواء والعلاقات مع الآخر والمشاعر .

2-شيء عن تاريخ الوجودية :

تاريخ الوجودية قديم قدم وعي الإنسان فكثير من الأساطير والخرافات تحوي شذرات وجودية كما أن الأديان كالبوذية والمسحية تناولت محنة وجود الإنسان والذنب والوجود مع الآخرين والتناهي والموت والمسؤولية وقد ارتبطت الوجودية بالتدين والتصوف على مرّ العصور (ولهذا فقد يقال ان التساؤل الأساس حول الذات البشرية وهو ما يتم به الأسلوب الوجودي في التفلسف قد كافح بالفعل لكي يعبر عن نفسه في الحقبة التي كان فيها الفكر البشري أسطوري الطابع ، وهذا واضح بصفة خاصة في الأساطير التي تحكي أصل الإنسان التي توجد تقريباً في الثقافات جميعها والعالم الغربي المسيحي يتصل اتصالاً وثيقاً بالتفسير العبراني للأصول البشرية (الذي يحكي لنا كيف خلق الإنسان من طين الأرض ثم نفخ فيه نسمة حياة أو روحاً(3)، إن هذه القصة تجسيد لميتافيزقيا الثنائية البدائية بين الجسم والروح فإنها قامت بالفعل بالتعبير عن اقدم أصول للفهم الذاتي عند الإنسان ولإدراكه الوجودي للتوترات والمفارقات التي يتألف منها وجوده بوصفه يدرك بداخله : الحرية ، والتناهي والإثم وإمكان الموت)(4)، ولابد من الإشارة إلى الوجودية الشرقية أيضاً ، إذ ظهرت عند (المعري والتوحيدي والغزالي كما يرى طه حسين)(5). كما ظهرت في قصة حي بن يقظان لابن طفيل ورباعيات الخيام والشعر العربي القديم والحديث وكما انقسمت الوجودية الغربية إلى ملحدة (الوجودية الفرنسية) ، وإلى وجودية مؤمنة (الوجودية الألمانية) كذلك انقسمت الوجودية العربية والإسلامية على هذين النوعين : الملحد والمؤمن .

الوجودية في رباعيات الخيام:

تتضح الوجودية في رباعيات الخيام وهي طريق مهم للدارسين في كشف جوانب من التفكير الوجودي الشرقي في التاريخ الإسلامي قبل أن يتناولها مفكرو الوجودية الغربية بالبحث والتفلسف أمثال : سارتر وكيركيغارد وهيدغر وياسبرز وغيرهم ، ولابد من الإشارة إلى أن تضخم الرباعيات الخيامية بسبب ما وُضِع عليها لم يعد ضعفاً لها او للباحث بل ساعد ذلك على كشف الموضوعات الوجودية التي تناولتها الرباعيات كذلك فإن تعدد مترجميها زادها قوة إذ سمح للباحث أن يختار الأجود من الترجمات استناداً إلى الأبحاث التي تناولت موضوع ترجمتها كما أن البحث في النص المترجم لا ينتقص من قيمة الرباعيات لاسيما إذا اطلع الباحث على ترجمات متعددة إذ استند الباحث إلى ثلاث ترجمات أساسية شهيرة الأولى لأحمد حامد الصراف (ترجمة حرة) . والثانية لجميل صدقي الزهاوي (ترجمة حرة وموزونة) والثالثة لأحمد الصافي النجفي (ترجمة موزونة) مع الاستناد إلى بعض ترجمات أخرى غير أساسية في البحث لأجل الوصول إلى هدف البحث في كشف ملامح من الوجودية وبلورتها في رباعيات الخيام .

أنساق الوجودية في رباعيات الخيام:

أعرض انساقاً من الوجودية التي تناولتها الرباعيات مقارنة بالأسس التي استندت إليها الوجودية الغربية مع المفارقة بين الوجودية الشرقية المتمثلة بالرباعيات والوجودية الغربية المتمثلة بأفكار منظّريها وآرائهم وعلى النحو الآتي:

1- الذاتية :

تؤكد الوجودية بقوة الاهتمام بالذات قبل الموضوع فالوجودية هي فلسفة (الأنا) تلك الفلسفة التي تتجاوز بحرية الأنا للالتحام بالآخر لذلك وصفت باللاعقلانية ، يقول سارتر : (الوجودية ترفض دكتاتورية العام ، لأنها ترفض إفناء الشخص في سبيل الدولة ، هي مع الشخص أولاً ، ولذا كانت الحرية من أضخم أبوابها(6)، فالوجودية (صرخة لإنقاذ الفرد من الطغيان والسيطرة وسيطرة السلطة أو التقليد الأعمى ودعوة لكل فرد أن يكون شخصاً منفرداً متميزاً لا مجرد فرد في قطيع …. وشعارها : لأن تكون فرداً في جماعة الأسود خير لك من أن تقود النعاج … الوجودي يردد عبارة فولتير الشهيرة : كن رجلاً ولا تتبع خطواتي!)(7). وجاء في رباعيات الخيام :

قدْ خاطبَ السَّمكُ الأَوُزَّ مُناديا :

سيعود ماء النَّهر فأصُف هناءَ

فأجاب : إن نُصبحْ شِواءً

فَلْتكُ الدُّنيا سراباً بعدنا أو ماءَ(8)

رباعية أخرى :

كُلَّ يومٍ أنْوِي المتابَ إذا ما

جاءَني الَّليلُ عن كؤوس الشَّرابِ

فأتَاني فصْلُ الزُّهورِ وإنَّي

فيهِ يا ربِ تَائبٌ عن مَتابِي (9)

لابد من الإشارة إلى أن رباعيات الخيام تغرق في الذاتية من طريق عبّ كؤوس الخمرة بل وعشقها حدّ الذوبان والاستخفاف بالوجود على أسلوب الوجوديين الذين يرون أن الحياة فناء وعدم واغتنام لحظة اللذة.

2-الفناء والعدم:

ترى الوجودية أن العدم حقيقة الوجود الإنساني بخاصة ولذلك دعت الوجودية إلى اغتنام لحظة اللذة للتخلص من التشاؤم والكآبة وطالبت الإنسان أن يجدّد حياته باستمرار وإلاّ فالعدم يرافقه بالحياة قبل الموت وبما أن الإنسان يواجه عقبات كثيرة فلا تتاح له الفرصة أن يغتنم حياته في كل لحظة لذلك اتهمت الوجودية بأنها فلسفة خيالية تدعو إلى القلق الذي يؤدي إلى الكآبة والتشاؤم .

جاء في إحدى الرباعيات (ترجمة حرة):

رأيتُ أمسِ خزَّافاً في السُّوقِ

يركلُ قطعةً من الطّينِ

وكان لسانُ حالها يقولً للخزّافِ

لقد كنت يا هذا مثلك فعامْلني بالحسنى(10)!

وجاء في إحدى الرباعيات (ترجمة موزونة) :

اصطحبْ كأساً وإبريقاً ويمَّمْ

رُبَّ قدٍ لَدْنٍ لهيفاءَ رُوْدِ

روضةً زَهرُها يُسرُّ النُّفُوسا

صارَ إبريقاً ثمَّ صارَ كُؤوسا(11)

)إنّ هناك ضرباً من الحالة المريضة في النظرة الوجودية ، وعلى الانشغال بضعف الإنسان وفنائه بدلاً من الاهتمام بقوته … المفهوم الذي يقوله الوجوديون من أن الموت ليس مجرد نهاية بسيطة للحياة ، ليس مجرّد حادثة تظهر في نهاية القصة ، وإنمّا هو يتغلغل كثيراً داخل القصة نفسها)(12).

3-الحرية :

إنّ أهم ما ركّزت فيه الفلسفة الوجودية مسألة الحرية في الاختيار والتجاوز والانضواء حتى عدّت عدم الاختيار هو اختيار ، لقد هدفت الفلسفة الوجودية من وراء ذلك إلى اطلاق المكبوت من الأغلال التي تحيط تفكير الإنسان لكن الحرية الوجودية تصطدم في أحيان كثيرة جداً بالواقع من عدم قدرة الإنسان على التجاوز والانضواء لتحقيق حريته لأن الفلسفة الوجودية هي علاقة الآنا بالآخر ومقولة سارتر الشهيرة (الآخرون هم الجحيم) ، وهذا ما يعوق العلاقة مع الآخر في حرية الاختيار ، يقول لويس لا فيل (الكسب الذي يتحقق للوجود ، حين يحاول خلق الماهية الفردية يعني أننا أحرار ، وبعبارة أخرى ، أن الحرية هي (نحن) والوجود قائم في ممارسة فعل حرّ ، هذا الفعل الذي يجعل من وجودنا شيئاً كائناً فقط ، حين لا تتحقق له حريته)(13)، وتتجاوز الحرية في الرباعيات الجزئي إلى الكلي فهي تنظر إلى الحرية بمنظار كلي ليعمّم على الجزئي (الإنسان) على الرغم من المبالغة فقد ورد في الرباعيات :

لو كان لي كالله في فلكٍ يدٌ

لم أُبْقِ للأفلاك من آثار

وخَلَقْتُ أفلاكاً تَدُورُ مكانَها

وتَسيرُ حَسْبَ مشيئةِ الأحرارِ(14)

وجاء في الرباعيات :

أنا إن كنتُ سكرانَ بخمرةِ

وإنْ كنتُ كافراً أو مجوسياً

المجوس فأنا ذاكَ

أو وثنياً فأنا ذاك

وترجمت ترجمة حرة كالآتي

بكلِّ طائفةٍ ظنٌّ فيَّ أمّا أنا

فملكُ نفسي أكون كما أريد(15)

4-الإنسان ضعيف

يقول سارتر : (لإننا نُتَّهم بأننا نصوّر في مؤلفاتنا القصصية أشخاصاً ضعفاء وجبناء ومنحلين ، فنحن لا نصوّر الضعيف والمنحل لأنه ضعيف أو منحل .. الوجودية فإنها تصف ضعيفاً أو فاسداً فإنها تقول : إنَّ هذا الضعيف مسؤول عن ضُعفه… بل إنها تقول إن الفاسد ليس فاسداً إلاّ لأنه كوّن نفسه كذلك بتصرفاته وأعماله ومآتيه)(16)، وهناك صور في الرباعيات تشير إلى ضعف الإنسان وأن هذا الضعف من عندياته ، جاء في ترجمة موزونة :

إنّما الهمُّ والسرورُ وهذا

لا تحلْهَا إلى لسماء بجهلٍ

الخيرُ كلُّ ذلك موعزْ

إنّها ألفُ مرةٍ منكَ أعجزْ(17)

وفي ترجمة حرة :

لو عرفَ المرءُ سرَّ الحياة كما هي

يعرفَ بعدَ الموت كذلك أسرارَ اللاهوت

أنتَ اليومَ مع نفسِكَ ولا تعرفُ شيئاً

فكيفَ تَعرفُ إن فقدْتَ نفسَك في غدِ(18)

وجاء في ترجمة أخرى لهذه الرباعية:

دل سرّجيات اكر كما هي دانست

امرزوكه باخودي ، نداستي هيج

در مركك هم ، أسرار إلهي دانست

فرداكه خودروي ، جه خواهي دانست

وترجمة هذين البيتين : (لو كان القلب علم سرّ الحياة كما هي ، لعلم الأسرار الإلهية في الموت أيضاً ، ما عرفت شيئاً وأنت صاحٍ ، فماذا تعرف إذ أغميت غدا؟)(19).

5-العلم والمعرفة :

(تعلن الوجودية العداء للعلم ، فيؤكد دعاتها على أن الإنسان يكابد من قلّة المعرفة ولكنه يعاني من كثرة ما يعرف وان المعرفة العلمية لا تزود الإنسان بالفهم الصحيح عن العالم لأن العالم كما يصوّره الوجوديون مملكة الخطل والنسيان ، ولذلك فلا تمتلك معارفنا أي محتوى موضوعي . أما العلم فهو اتفاق بين العلماء يجب أن يؤدي إلى نجاحات عملية وهذا الفهم للعلم يتفق تمام الاتفاق مع فهم البراجماتيين له)(20).

لابد من الإشارة إلى أن الوجوديين جميعهم ينظرون بارتياب إلى المعرفة المجردة تلك المعرفة التي لا تنبع من داخل (الآنا) ثم تتجاوز للانضواء مع الآخر فالمعرفة لدى الوجوديين تنشأ من الوجود العيني (الوجود البشري) فإن المعرفة على حد تعبير هيدجر (لون من الوجود ينتمي إلى الوجود – في – العالم)(21)، لذلك فالوجوديون أصحاب نظرة نابعة من فلسفتهم في موضوع العلم والمعرفة جاء في إحدى الرباعيات:

حسن أن تهجر الدرس علوماً وفنوناً

وليكن حظك فيها غادة تزهو جبينا

فاسفح الآن دم الإبريق في الكاس رهينا

قبل أن يسفح دهري دمك الغالي مهينا(22)

وجاء في رباعية أخرى :

عَفْتُ زُهدي وكلَّ تلكَ الوسَاوسْ

ولزمتُ الحاناتِ بعدَ المجَالسِ

وعسى أن أعيدَ فيهنَّ عُمْراً

كنْتُ قبلاً أضعْتُهُ في المَدَارسْ(23)

وفي ترجمة حرة :

نحن رَهَنَّا رِداءَ التَّقوى بالدَّفِّ

وتيَّمنا بترابِ الحاناتِ

راجين أن نجد في أثوابِها

ما أضعناهُ من عُمْرِنا في المدارس(24)

6-الأخلاق :

يرى الوجوديون أن الأخلاق لا تفرض من الخارج على شكل قوانين أو وصايا وإرشادات وعادات وتقاليد الأخلاق لدى الوجوديين تنبع من (الأنا) الضمير الفردي في إنضوائه الوجودي الذاتي مع الآخر، والمنضوية مع الأنا الجماعية باتفاق اجتماعي نابع من اتفاق بين الأنا وأنا الآخر وبذلك فان الأخلاق تنبع من داخل (الأنا) الفردية المتجاوزة نفسها – إن صحَّ التعبير – وخلاف هذا السلوك (سيحوّل الآخرين الذين يطيعون القواعد الأخلاقية إلى مجرد أدوات تخدم غايات من لا يطيع القواعد وفي هذا انتهاك صريح للقيمة الجوهرية لكل فرد ، وهو إدعاء وجودي تقليدي ، مثلما كان سقراط …. فهو لم يضع نفسه فوق القاعدة العامة ، مع أن ما فعله سبّب له ضرراً واضحاً يسمّي كيركيجار هؤلاء الأفراد بالأبطال التراجيديين لكنه يضيف أنه عكس إبراهيم . ” يبقى البطل التراجيدي داخل نطاق الدائرة الأخلاقية)(25)، ولذلك (هذه هي المشكلة المركزية التي كرّست لها السارترية كل جهد من أجل تلمس حل لها ، أي مشكلة التوافق بين الضرورة الموضوعية التي تفرض على الجذرية الفردية أن تقف عند حدود ما وبين كون هذه الحدود تعوقها عليها التحقق كجوهر حر وأمام استحالة الوصول إلى هذا الحل فإن السارترية اختارت الانحياز إلى الحرية الفردية بشكل مطلق بغض النظر عن النتائج والمغالطات مؤكدة بعناد أن الحرية هي القيمة الوحيدة التي تصدر عنها القيم الأخرى)(26) وهذا ما يسميه الوجوديون بالوجود الأصيل وعكسه الوجود الزائف . فالوجوديون يرون أن الإنسان حينما يختار لا يختار إلا الصحيح الذي هو بالضرورة اختيار الآخر أو الآخرين . لابد من الإشارة إلى أن الرباعيات تشكِّل منظومة ذاتية من الأخلاق التي اخترقت التابو الديني وتماهت في عشق الخمرة وفيها دعوة للآخر بالانضواء وتنصرف إلى اغتنام لحظة اللذة غير مكترثة لما بعد الموت ، ما جعل الأخلاق في الرباعيات صادرة من ذات الإنسان التي كوّنها بنفسه من دون تأثير الوراثة أو المحيط كما يقول سارتر : (نحن إلى ذلك لم نقم بما قام به اميل زولا مثلاً الذي يعلن أن الشرير ليس شريراً إلاّ بفعل الوراثة وتأثير المجتمع والوسط وبفعل حتمية نفسيّة أو جسدية مقررة فيه ، وبذلك يصبح المجال متسعاً أمام الشرير والفاسد ليبرر تصرفه … أما الوجودية فإنها عندما تصف ضعيفاً أو فاسداً فإنها تقول : أن هذا الضعيف مسؤول عن ضعفه … بل أنها تقول أن الفاسد ليس فاسداً إلاّ لأنه كوّن نفسه كذلك بتصرفاته وأعماله ومآتيه)(27).

جاء في إحدى الرباعيات :

هاتِها كالشِّقيقِ أو كالعقيقِ

وأسِلْ بالدَّما فمَ الإبريق

مالِيَ اليومَ غيرُ كأسِ الحُمَيا

من صديقٍ صَافي الضَّميرِ رَفيقِ(28)

7-التشاؤم والتفاؤل :

تربط الوجودية التشاؤم والتفاؤل بالممكنات الخارجية في علاقة (الأنا) مع(الأنا) الآخر أو مع (نحن) ويتعلق ذلك أيضاً بنوع الاختيار والحرية المتاحة لكل إنسان والإنسان مسؤول عن نفسه والتشاؤم يتولد نتيجة اليأس (واليأس في الوجودية لا يعني إلاّ أن كل فرد من الأفراد أمام ممكنات مختلفة … قد يربح مالاً وقد لا يربح وهي ممكنات غير خاضعة للمقاييس فلا يعتمد عليها كل الاعتماد ، لهذا لا يستطيع الإنسان أن يوكل أي امر من أموره إلى غيره فإذا فعل فإنه غير واثق من تحقيق الأمر . إن عليه أن يشرف هو شخصياً على كل حاجة من حاجاته ، فهو إذن في يأس دائم من الممكنات الخارجية)(29).

وفي الوجودية – على الرغم من تأكيدها على الذاتية – التجاوز والانضواء وحرية الاختيار فهي أي الوجودية لا تتعامل بذات مغلقة مع الآخر ومن هنا يأتي التفاؤل والتشاؤم للإنسان . يقول سارتر : (ولا يمكن أيضاً أن نعتبر الوجودية محاولة لتثبيط همة الرجل وتحويله عن العمل لأنها لا تجعل له أملاً في العمل والسعي . وعلى هذا الأساس يصح أن نعدّ أنفسنا أمام نظرة أخلاقية عملية انضوائية Unemoralte d’action d’engagement وأننا نفهم إلى ذلك بأننا نسجن الإنسان ضمن ذاتيته وهنا أيضاً أسيء فهمنا)(30).

في الرباعيات مسحات وصور وجودية تشاؤمية وأخرى تفاؤلية تؤدي فيها الخمرة دوراً في خلق التشاؤم أو التفاؤل للانسان . الخمرة بوصفها ممكناً أو غير ممكن فهي حين تكون ممكناً- وهو المطرد في الرباعيات – يؤّلد للإنسان (الإحساس بالنشوة الغامرة … يعيش فيها الإنسان من الوعي .. المفارق يدعوها ماسلو تجارب القمة)(31) أو اغتنام لحظة اللذة كما في هذه الرباعية :

هاتِ المَدامَ فمَا الدُّنيا سوى نَفسٍ

يكفيكَ عيشُك أنّا منهُ مُنتعِشاً

اهنأ بكلِّ الذي يأتي الزمان بهِ

فلَيسَ يجْري كما يهْوى امرُؤٌ وبَشا(32)

وحين تكون الخمرة غير ممكنة تأتي أمثال هذه الرباعية :

آن قصركه جمشيد درأوجام كرفت

آهو بجه كرد وروبه آرام كرفت

بهرام كه كور ميكرفتي همه عمر

ديدي كه جكونه كور ، بهرام كرفت

وترجمة هذين البيتين :

(إن ذلك القصر الذي تناول فيه جمشيد الكأس ، ولدت فيه الغزالة واستراح بعدها به الثعلب ، هل رأيت بهرام الذي كان يحتضن القبر طول عمره كيف احتضنه القبر؟)(33).

8-اللاعقلانية :

الوجودية قاطعة في رأيها في موضوعة عبثية الوجود (فسارتر يرفض للوجود الإنساني كل عقلانية : انه موجود دون إرادة منه – في عالم ملغوم بالزلازل والنهايات ومع ذلك مسؤول في وجوده)(34)، وبناء على ذلك (أنت موجود كَهبَّة ريح تقول لنا سيدوري صاحبة الحانة في ملحمة كلكامش كما لو كانت تختصر لنا العبثية الرهيبة التي هي حظ الوجود ، وسارتر لا يقول شيئاً مختلفا)(35).

فالوجودية ترى : (كل موجود يولد دون مبرر ، ويعيش بسبب ضعفه وخوفه ويموت بفعل المصادفة وأنها لظاهرة غير عقلانية ان يختار سارتر تبعاً لمبادئه ، فلسفة اللاعقلانية ، التي هي تسيء للفلسفة نفسها)(36).

إذ يتطرق سارتر في موضوع اللاعقلانية فيقول : (فالوجود بذاته شيء غير عقلاني وظهور من وجد لأجل ذاته (الإنسان) شيء غير عقلاني والاختيار للماهية شيء غير عقلاني أيضاً … لا مبرر للوجود ، انه لا علة ولا ضرورة له)(37) ، لذلك كان القلق والتردد والحيرة والتشاؤم والذنب والتناهي …. الخ ملازمة للتفكير الوجودي وعدّت ذلك الطريق للاختيار الصحيح فمثلاً القلق يدعو الإنسان إلى التفكير للوصول إلى اختيار حرّ وهكذا دواليك ، جاء في الرباعيات :

ما دامَ سوى قبض الريح من كلِّ موجود ولا يخلو من النقص والكسر كلُّ موجود فَخِلْ كلَّ موجود عدماً في العالم(38)

وذا كانت هذه الرباعية صيّرت الوجود عدماً فإن الرباعية الآتية

صيّرته (خيال سار وراء خيال) :

صاحِ سار وراء خيالِ

بين أيدي خلاّقه المتعالي

فهو فانوسه العجيب السحري(39)

لذلك فإن الوجودية تؤمن بالحاضر واغتنام لحظة اللذة وتعد الماضي عقبة في طريقها لأنها تعمل على تجديد الحاضر وتغييره كما أنها لا تؤمن بالمكان إلاّ من طريق الأشياء والأدوات الموجودة فيه وتقيس الزمان قياسات نسبية وكثير من هذه الآراء تجعل الوجودية فلسفة لا عقلانية .

ومن طريق ما تقدّم يتضح :

إنّ هناك علاقة بين الفلسفة والشعر فالشعر فن الإمكان (أي غير المحدود) ، والفلسفة آنية لترجع إلى الإمكان وهما يعبران عن الوجود الذي يكشف عن ذاته من الإمكان إلى الآنية .
لقد مثّلت رباعيات الخيام ملامح من الوجودية ما جعلها تراثاً غنيّاً للوجودية الشرقية التي تمثلت بالشعر والأساطير والخرافات .
إن الرباعيات – كم هو معلوم شعر – جاءت لتعبر عن وجودية الإنسان والشعر بطبيعته يستند إلى المواقف والمشاعر والانفعالات كالوجودية لكن الشعر مقيّد بنواحٍ فنية ما يجعله أداة محدودة في كشف الجوانب الإنسانية من الوجود.
تصبُّ الرباعيات في غرض الخمرة على الأكثر ومع تكرار تعامل الرباعيات مع هذا الغرض إلاً أن القارئ للرباعيات يرى أنها ذو جودة أسلوبية مبنى ومعنى على الرغم من تفاوت قدرة مترجميها فيما بينهم .
إن تعدد مترجمي الرباعيات يعني اجماعاً نقدياً على أهميتها لأنها تناولت مضامين تتعلق بفلسفة الحياة والموت .
تبدو الوجودية فلسفة غير واقعية لأنها تهدف تحويل (نحن الجماعية) إلى (الأنا الفردية) ، وبالعكس تحويل (الأنا) إلى (نحن) في مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية فهي فلسفة غير عقلانية تستند إلى المشاعر والانفعالات والعواطف .
أفادت الفلسفة الوجودية في تحقيق أهدافها من فلسفتين الأولى الفلسفة الظاهراتية والأخرى الفلسفة البرغماتية .

الحواشي :

(1) الوجودية ، نفسه ، ص: 51-61 .

(2) الوجودية ، مذهب إنساني ، ص: 9 .

(3) الوجودية ، نفسه ، ص: 41 .

(4) نفسه ، ص : 41 .

(5) مجلة الجسرة ، ص : 134 .

(6) الوجودية مذهب إنساني ، ص : 13 .

(7) الوجودية ، ص:11 .

(8) رباعيات الخيام ثلاث ترجمات عراقية رائدة ، ترجمة الصافي ، ص : 179 .

(9) نفسه ، ص: 187 .

(10) نفسه ، ترجمة الصراف ، ص: 90-91 .

(11) نفسه ، ترجمة الزهاوي ، ص: 119 .

(12) الوجودية ، نفسه ، ص: 214 .

(13) معنى الوجودية ، ص : 83 .

(14) رباعيات الخيام ، ثلاث ترجمات عراقية رائدة ، ترجمة الصافي ، ص :226 .

(15) نفسه ، ترجمة الصراف ، ص: 47 .

(16) الوجودية مذهب إنساني ، ص: 67-68 .

(17) رباعيات الخيام ، ثلاث ترجمات عراقية رائدة ، ترجمة الزهاوي ، ص: 155 .

(18) نفسه ، ص: 155 .

(19) إماطة اللثام عن رباعيات الخيام ، ص: 75 .

(20) مذاهب ومفاهيم في الفلسفة والاجتماع ، ص: 127 .

(21) الوجودية ، نفسه ، ص : 140 .

(22) رباعيات الخيام ، ترجمة السيفي ، ص: 81 .

(23) رباعيات الخيام ، ثلاث ترجمات عراقية رائدة ، ترجمة الزهاوي ، ص : 102 .

(24) نفسه ، ص: 101-102 .

(25) الوجودية ، مقدمة قصيرة جداً ، ص : 43 .

(26) على ضفاف الفلسفة ، ص: 116-117 .

(27) الوجودية ، مذهب إنساني ، ص: 67-68 .

(28) رباعيات الخيام ، ثلاث ترجمات عراقية رائدة ، نفسه ، ترجمة الصافي ، ت: 244 .

(29) معنى الوجودية ، ص: 54 .

(30) الوجودية ، مذهب إنساني ، ص : 69-70 .

(31) صراع الكلمة والوجود ، ص: 13 .

(32) رباعيات الخيام ، ثلاث ترجمات عراقية زائدة ، نفسه ، ترجمة الصافي ، ص: 236 .

(33) كشف اللثام عن رباعيات الخيام ، نفسه ، ص: 85 .

(34) على ضفاف الفلسفة ، نفسه ، ص: 43 .

(35) نفسه ، ص: 115 .

(36) معنى الوجودية ، نفسه ، ص: 43 .

(37) نفسه ، ص: 43 .

(38) ديوان عمر الخيام ، ص : 176 .

(39) رباعيات الخيام المصوّرة ، ترجمة البستاني ، ص: 95 .

المصادر :

آرفلين ، توماس (2014م) ، الوجودية ، مقدمة قصيرة جداً ، ترجمة : مروة عبد السلام ، مؤسسة هنداوي ، القاهرة ، ط1 .

الخيام ، عمر (2005م) ، رباعيات الخيام ، ترجمة : محمد محسن السيفي ، بغداد ، شركة الأنعام للطباعة المحدودة ، ط1 .

نفسه ، (2010م) ، ديوان عمر الخيام ، ترجمة وتقديم : جلال زنكابادي ، منشورات الجمل ، بيروت – بغداد ، ط1 .

نفسه (2015م) ، رباعيات الخيام ، ثلاث ترجمات عراقية رائدة ، أحمد حامد الصراف ، ترجمة حرة ، الزهاوي : ترجمة حرّة وموزونة ، أحمد الصافي النجفي، ترجمة موزونة، منشورات الجمل، بغداد، بيروت – ط1 .

نفسه (ب. ت) ، رباعيات الخيام المصوّرة ، ترجمة : وديع البستاني ، المكتبة الشرقية (ب. م) .

سارتر ، جان بول وآخرون (1967م) ، معنى الوجودية ، منشورات دار مكتبة الحياة – بيروت .

سارتر جان بول (ب. ت) ، الوجودية مذهب إنساني ، منشورات دار مكتبة الحياة ، بيروت ، قدّم له د. كمال الحاج

الطرازي الحسيني ، أبو نصر مبشر (1967م) ، كشف اللثام عن رباعيات الخيام ، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ، وزارة الثقافة ، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر .

الماجد ، د. عبد الرزاق مسلم (ب. ت) ، مذاهب ومفاهيم في الفلسفة والاجتماع (ترجمة وتأليف) منشورات المكتبة العصرية ، بيروت .

ماكوري ، جون وآخرون (1982م) ، الوجودية ، عالم المعرفة ، سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت ، العدد : 58 .

ميهوت ، محمد آيت(2014م) قراءة السد بين طه حسين ومحمود السعدي، مجلة الجسرة ، قطر ، العدد 35 .

الهنداوي ، د. حسين (2005م) ، على ضفاف الفلسفة ، بغداد ، بيت الحكمة ، ط1 .

ولسن، كولن (2014م) ، صراع الكلمة والوجود ، ترجمة : د. محمد درويش ، دار المأمون للترجمة والنشر ، وزارة الثقافة ، بغداد .


* نقلا عن الزمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى