نصف وجه "سوزان هيل": بين النص والعرض



يقف القارئ خلف النص المكتوب، وهو وحده المتفاعل مع رؤية فردية من الكاتب فيما صاغه من إبداع، ويقف المتفرج أمام العرض، وهنا يبدأ التعدد في التلقي؛ فالنص صار محملا برؤية المخرج ومجموعة من المبدعين الذين ساعدوه في إخراجه بحسب خطته وبتوقيعه وحده، ومن هنا تحديدا تبدأ أهمية وجود المخرج الذي يقف وراء العرض المسرحي دون أن يلغي بالطبع وجود النص، وإن كان الإخراج في ذاته إبداعًا موازيا، وهو ما يعول عليه الفنان الراحل سعد أردش من كون المخرج المبدع يُعمِلُ قدراته الإبداعية بقصد التوصل إلى عرض يتميز بالجدة والابتكار.

كما يعمل على تفسير العمل باعتباره المنطلق الأساسي للإبداع المسرحي الذي يكشف في النهاية عن كثير من عناصر المفارقة بين النص المقروء والعرض، وهو ما تعلمه ويؤمن به ويطبقه المخرج الأكاديمي الشاب أيمن مرجان منذ أن أخرج مسرحيته "قبل الإفطار" للكاتب الأمريكي يوجين أونيل، ومسرحية "المنعطف الأخير" للكاتب المصري السيد إبراهيم، ومسرحيته الأخيرة التي نحن بصددها "نصف وجه" للكاتبة البريطانية سوزان هيل، والتي لم يسبق تقديمها في عرض مسرحي عربي ـ كما أعتقد ـ وإن كان قد تم تقديمها إذاعيا بالبرنامج الثاني المصري من إخراج أحمد سليم بعنوان "وجه مشوه"، وهو عنوان قد ضل طريقه.

وهو ما يُحسَب لصالح أيمن مرجان الذي يعي أهمية العنوان وأنه يمثل مكونا نصيا يبرز جوهر النص المعروض؛ لأنه الجزء الدال منه، بل يجعل المتلقي مؤهــلا للكشف عن طبيعة النص ومحاولة فك غموضه وهو ما يتأكد في صلاحية عنوان "نصف وجه" لعمل يحمل فكرا فلسفيا، اجتماعيا، نفسيا إنسانيا بل يعري تلك الإنسانية في تعاملها القبيح مع "الرجل الكسيح" الذي انفجرت فيه قنبلة أثناء دفاعه عن وطنه، ويعيره الأطفال والبعض بعاهته، ومع صبي أصابه حامض شوه بعض وجهه، فصار هدفا منصوبا للتنمر من الكبار والصغار.

قد يظن البعض أن مسرحية "نصف وجه" لم تعرفها المسارح العربية لكون كاتبتها مغمورة، وهو ما يخالف الواقع تماما؛ فالكاتبة "سوزان هيل" روائية بريطانية معروفة بغزارة مؤلفاتها، ومنها: "المرأة ذات الملابس السوداء" و"الضباب في المرآة" و"أنا ملك القلعة"، وحصلت عن تلك الرواية الأخيرة على جائزة سومرست موم، مما جعل السينما تختار بعض أعمالها التي حققت نجاحا كبيرا، وتم مسرحة بعض أعمالها أيضا وما يزال يتم عرضها منذ عقود، وذلك لما تتسم به إبداعاتها من عمق، وإنسانية، ونظرة نقدية للحضارة التي تعيش فيها، وهو ما يحسب لاختيار مرجان لها.

نجح مرجان في اختيار الديكور الأكثر إبهاجا بألوانه المتنوعة الزاهية، ليشكل معادلا نفسيا للمتفرج ينتزعه من كآبة العرض الذي يقدم شخصيتين كل منهما يشكو من عاهة، فجاء استغلال الفضاء المسرحي ببراعة استوعبت مشاهد المسرحية، وأضفت الأضواء بحركتها فوق الأشجار ديناميكية في الخلفية، مثلما انتقلت من التركيز الضوئي الانتقالي حول المتحدث، عاونها في ذلك اختيار الموسيقى المناسبة التي جاءت متناغمة مع الحوار الذي يشكل سجالا من الإقناع، والرفض، والثورة على المجتمع والذات، والتسامح معه، وقبول ذواتنا بل وقبول الآخرين.

على الرغم من قلة الإرشادات المسرحية من سوزان هيل، وهو قد يكون عند البعض أمر محمود أن لا يكون الكاتب مخرجا، إلا أنه أتاح للمخرج مساحة جيدة في التعامل مع النص وسياقه من خلال لغته، وحبكته، وقضيته التي يتبناها، كما أتاح له نفس الفرصة الذهبية في التعامل مع الشخصية الساكنة "السيد لام" والشخصية المتحركة "الصبي ديري" فكان لام مركز الدائرة وديري أقطارها التي تتحرك بعفوية وشقاوة الصبيان التي أضفت على العرض بهجة، وطردت عن المتفرجين الملل، والواقع يشهد أن اختيار الممثلين كان رائعا وأشعل حالة من الحماسة لهما عبر الصوت الحكيم العميق للسيد لام، والصوت الغاضب المعبر عن مرحلة المراهقة المعذبة بعاهتها للصبي ديري، ساهم في ذلك اختيار الأزياء المناسبة لشخصيات العرض.

جاءت إضافة أغنية للمسرحية، لم تكن موجودة في النص، بمثابة التدخل الرائع، واكبه اختيار موسيقى عالمية وهي أغنية "تيتينا" لحن شارلي شابلن من فيلم "الأزمنة الحديثة"، نجح الشاعر أحمد الشريف في وضع الكلمات المناسبة للحن وللمسرحية في ضربة مزدوجة، فصنعت استعراضا أو ما يشبه الاستعراض الذي أضفى على العرض حيوية وفكاهة افتقدها النص المقروء.

لقد جاء النص عميقا، مكتوبا بحرفية واقتدار، ويمتلك من العناصر الأدبية، والأخلاقية، والفلسفية، والنفسية، وكوامن خفية من الجمال الذي بين السطور، ومتكامل من حيث البناء النصي، والبناء الدرامي، والحوار فيه مصاغ بتقنية عالية من الفهم والوعي والإحساس بالكلمة المنضبطة دون سواها، كما أحس كل من قرأ النص ثم شاهد العرض بتغييرات أصابت بعض الجمل أو الكلمات التي أضفت نوعا من الحيوية على الحوار، مثلما أحس بتناغم فريق العمل وانسجامه واتفاقه وتوافقه على كافة التفاصيل التي تشكله، وهو الإحساس الذي سرى في أجواء المسرح سواء على الخشبة أو بين المتفرجين الذين تجاوبوا مع العرض وتقنياته، وحواراته.

من هنا يحق لي القول أن "نصف وجه" يشكل إضافة مسرحية هامة في مسيرة المسرح المصري خاصة والعربي عامة، ذلك أن المخرج أيمن مرجان قد سار على الطريق الصعب دون الدروب المأهولة في اختيار نصوص لم يسبق أن قدمها غيره، وهو ما يشكل تحديا لموهبته وأيضا التأكيد على إثبات ذاته، وجدارته بارتياد هذا الفن. وهو ما يعطينا أمل جديد وثقة في أجيال المسرح العربي القادمة التي ستحمل على عاتقها النهوض بهذا الفن الراقي والمحافظة على بقائه شامخا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى