أ. د. عادل الأسطة - عكا... ملف (1........>2)

1- عكا : (ثلاثون عاما من الغياب):

عكا 1 : (ثلاثون عاما من الغياب ):
اليوم، الجمعة، زرت عكا.
آخر مرة زرت عكا كانت في 80 ق20. لا أذكر التاريخ بالضبط.
ما زالت المدينة صامدة في وجه الزمن وما زال العكّيون يبيعون السمك ويركبون البحر.لأول مرة، اليوم، ركبت البحر. كانت مياه الأبيض المتوسط خضراء أو هكذا خيل إلي. ربما بسبب الغيوم وعدم صفاء السماء. حتى حيفا بدت مدينة ضبابية. لم ابصرها جيدا كما يبصرها المرء في الأجواء الصافية.
في عكا تفوح رائحة السمك. أول ما تدخل ألمدينة ترى السمك. وهذا ربما هو ما يميز عكا.
بنايات المدينة لم ترمم منذ عقود.ربما منذ 1948 والكنيسة القريبة من البحر تذوي، فأثر الزمن باد عليها. مثل جامع الجزار وإن بدا أحسن حالا.
تسير على الشاطيء وتنظر إلى مطعم أبو خريستو ، فتتذكر راشد حسين ومحمود درويش ورثاء الثاني للأول. تتذكر قصيدة "كان ما سوف يكون. '.
رثى درويش راشدا وأتى على حياته في عكا. ذكر تردد راشد على مطعم أبو خريستو. من منكم يذكر ما كتبه درويش؟
في جداريته كتب درويش :"عكا أجمل المدن القديمة ".هل كان مصيبا؟ وما معايير الجمال التي قاس الشاعر عليها؟
في 80 ق 20 كنت أتردد على دار الأسوار. نمت في عكا مرتين ثلاث مرات وتجولت في شوارع المدينة التي أتى إميل حبيبي على وصف سراديبها في روايته. في السراديب تخبأ الفلسطينيون الذين لم يطردوا. هل رأيت السراديب؟
تبدو عكا الجميلة مدينة حزينة. المباني هي هي. والشوارع فارغة من المارة إلا اقلهم.
تنظر في السور. تقف على الشاطيء وقد تعود بك الذاكرة إلى 30 عاما خلت.
حجارة المدينة تخبرك عن الزمن والإهمال وغياب الأهل وقانون الأعادي.
عن عكا كتبت أيضا ابنتها حنان باكير. كتبت "أجفان عكا".


في عكا 2 ( محمود درويش ):
تسير كما لو أنك تسير في نابلس القديمة أو في القدس العتيقة.
تتذكر سطر محمود درويش في "جدارية"2000 : "عكا أجمل المدن القديمة " ولا تتساءل كما تتساءل كلما قرأت السطر ولا تدخل في جدل وحوار مع الشاعر.
لتكن اليوم عكا كذلك، وليكن الشاعر اليوم محقا في قوله. لترفع القبعات لعكا ولسكانها وللشاعر أيضا. فيكفي أن أهل المدينة ظلوا صامدين فيها رغم قسوة شروط الحياة. المباني المهجور بعضها مثل الكنيسة والبيوت التي لم ترمم وما زال بعض أهلها ينشرون الملابس في الشوارع والاسوار التي يفعل الزمن وملح البحر وعدم الترميم فعله فيها و..
يقول الشاعر فاروق مواسي: هنا في 60 ق 20 كنا نأتي ونقرأ الصحف: سميح القاسم و زكي درويش وراشد حسين و..و..كنا نجلس في المقهى- يشير إلى مقهى- ونقرأ الاتحاد وغيرها ونتناقش في قضايا أدبية. ويرن سطر محمود درويش في قصيدته "كان ما سوف يكون "في ذهنك :
كان يرمي شِعرَه في مطعم "خريستو "
وعكا كلها تصحو من النوم
وتمشي في المياه
كان أسبوعا من الأرض، ويوما للغزاة
ولأمي أن تقول الآن: آه !"
- وأنا أكتب الآن يرتفع صوت أذان الفجر.(وأنا أكتب من غرفتي في باقة الغربية ظننت نفسي نائما في عكا )
يا لعكا وللمدن القديمة. إن الأذان جزء منها فكيف تبدو هذه المدن بلا أذان الفجر-.
في عكا القديمة وفي شوارعها يلعب الأطفال الكرة وفي عكا وأنت تصغي إلى لهجة أبنائها يتحدثون تتذكر لهجة أهل يافا- مدينتك- ولهجة أهل القدس أيضا. شيء ما. شيء خفي يميز لهجات هذه المدن.


في عكا 3 (حيفا .راشد حسين ):
من عكا نظرتَ إلى حيفا وخاطبتها:
كنتُ أظن أنني سازورك اليوم.
في عكا تساءلتَ تساؤل محمود درويش:
"لماذا نحاول هذا السفر؟
وكل البلاد مرايا
وكل المرايا حجر."
حقا لقد تساءلت وتذكرت وأنا انظر إلى حيفا مجنونيها؛ راشد حسين وأحمد دحبور. قال الأول:
"أتيت الطبّ في نيويورك أطلب منه مستشفى
قالوا: أنت مجنونٌ ولن يشفى
أمامك جنة الدنيا
ولست ترى سوى حيفا "
وصدّر الثاني ديوانه "هنا..هناك'1997 بما قاله الأول. كأن أحمد مثل راشد "أمامك جنة الدنيا ولست ترى سوى حيفا ".
للأول الرحمة وللثاني الشفاء.


عكا 4: (سور المدينة والغزاة ):
في عكا، وأنت على سورها، تجد نفسك تكرر قول محمود درويش:
"رأيت فتاة على شاطيء البحر قبل ثلاثين عاما
وقلت:أنا الموج،فابتعدت في التداعي، رأيت
شهيدين يستمعان إلى البحر: عكا تجيء مع الموج
عكا تروح مع الموج .وابتعدا في التداعي".( قصيدة الأرض 1976 ).
وتعود بك الذاكرة إلى ما بعد 1967 حتى 1987.
في تلك السنوات كنت أتردد على عكا؛ أزورها، قبل أن اغدو كاتبا، زائرا، وازورها، حين غدوت كاتبا، لزيارة دار نشر الأسوار لصاحبها يعقوب حجازي وهناك قد ألتقي ببعض الكتاب ومنهم أنطوان شلحت.
على سور المدينة أقف. هل تذكرت نابليون؟ هل تذكرت رواية علاء حليحل "اورفوار عكا"؟.
بدأت أقرأ الرواية وانشغلت عنها ولم اتمم قراءتها. لم أكتب عنها مع أن صورة الفرنسيين فيها لافتة. صورة الجنود القادمين وبصحبتهم النساء للترفيه عنهم. هل أخطأت في العنوان وصححني الشاعر فاروق مواسي؟
كما لو سفن نابليون خرجت فجأة وكما لو انها هزمت من جديد.
غير رواية فلسطينية أتت على عكا. الموضوع يستحق أن يكون موضوع رسالة ماجستير. ساقترحه على طالب ما.الرحلة علمية. لم لا؟


عكا 5 : ( إميل حبيبي ):
في شوارع عكا القديمة وفي جامع الجزار تتذكر رواية "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل "1974
كان إميل حبيبي أتى في الجزء الأول/ الكتاب الأول "يعاد "على ما جرى في العام 1948- أي حين احتلت المدينة وعاد هو متسللا إليها فاختفى، مع من بقوا ولم يهاجروا ، في باحة جامع الجزار وفي سراديب المدينة.
في شوارع عكا القديمة ترى بيوتا تآكلت جدرانها وبدت طوابقها الأرضية مثل سراديب.تماما كما هي بيوت البلدة القديمة في نابلس مع فارق هو أن كثيرا من بيوت البلدة القديمة في نابلس تبدو مهجورة أبوابها مغلقة .
في عكا يصر السكان على عدم ترك البيوت ويتمسكون بها.
بالقرب من الميناء، حيث القوارب تقل السواح في جولة بحرية بيوت مهجورة إلى جانب كنيسة مهجورة.
البيوت بلا أبواب وكذلك الشبابيك، وكما قيل لي فإن الناس ما زالوا يقيمون فيها حتى لا تصادر فيفقد الناس مصدر رزقهم وبيوتهم أيضا.
وأنت تتجول في عكا وتقف على الشاطيء ترى الجمال؛ جمال البحر، وترى البؤس؛ بؤس المباني. يا لهذا التناقض المذهل.
في عكا تعرف لماذا أصر إميل حبيبي على الكتابة على شاهد قبره "باق في حيفا " .هل تجد لبطله سعيد مبررا للتعامل مع الاحتلال مقابل فضيلة البقاء في الوطن، فاضطر أن يموه فتغابى ،وهل عرف بيت الشعر:
ليس الغبي بسيد في قومه
لكنّ سيد قومه المتغابي ؟
وأنت تتجول في عكا وتقف على الشاطيء تتذكر إميل حبيبي وأيامه الأولى في الدولة الجديدة.


عكا 6 : (في عكا تتذكر سميرة عزام):
أول مرة قرأت قصص سميرة عزام كانت في 1977.
كانت دار الأسوار لصاحبها يعقوب حجازي قد أعادت إصدار مجموعات الكاتبة كلها ولم أكن امتلكت الطبعة الأصلية لمجموعة "الساعة والانسان " التي تعد درة قصص الكاتبة التي عدها بعض النقاد العرب أميرة كتاب القصة القصيرة.
في مدينة عكا جرت بعض أحداث قصصها.
هل بحثت عن المكان الذي كان مسرحا لقصة "الخبز والفداء".؟
درست هذه القصة في الجامعة قبل أن تغدو جزءا من المنهاج الفلسطيني.
هناك قاتل العكيون دفاعا عن مدينتهم وهنا استشهدت سعاد وهي تحضر الخبز للمقاومين.
كم نوعا من الغزاة قاوم أهل هذه المدينة؟
جاء الصليبيون وانهزموا وجاء نابليون وبقيت عكا وانهزم وها هم "أبناء العمومة" يكررون تجارب سابقة.
ماتت سميرة عزام بعد هزيمة حزيران 1967. لم يحتمل قلبها رؤية بلادها من قلعة أم قيس في الجانب الأردني. ترى ماذا كان سَيُلمّ بها لو رأت عكا وتجولت في شوارعها؟
في عكا تتذكر سميرة عزام وتتذكر أيضا غسان كنفاني..


عكا 7 : ( غسان كنفاني):
في عكا يحضر غسان كنفاني، لا لأنه كتب عن المدينة، فأنت لا تتذكر عملا أدبيا واحدا لافتا من أعماله أدرج اسم المدينة عنوانا له كما فعل مع حيفا.
خلد كنفاني مدينة حيفا بروايته "عائد إلى حيفا "1969 ولم يخلد المدينة التي ولد فيها. كتب عن حيفا ويافا ولكنه لم يكتب في رواياته الأربعة المكتملة عن عكا.
هل كانت عكا ستكون حاضرة في رواياته الثلاثة الأخيرة غير المكتملة؟
والطريف أن عكا هي من أعادت نشر رواياته وقصصه القصيرة ومسرحياته ودراساته، بعد أن أصدرت له دار صلاح الدين رواية "رجال في الشمس ".
هنا ولد غسان كنفاني الذي عاش في يافا ومثله هشام شرابي صاحب "الجمر و الرماد ".
عكا واحدة من المدن الفلسطينية التي كان فيها مدارس درس فيها القادمون إليها ومنهم من قدم من حيفا كما ذكر إميل حبيبي في المتشائل. وأبرز كاتبين فلسطينيين حتى 1972 كانا من المدينة، من عكا .
في عكا تتذكر كنفاني وتتساءل: لماذا حقا لم يكتب رواية عن المدينة من خلال ذاكرة ابيه الذي استقر في يافا ليمارس فيها مهنة المحاماة وليدرس ابنه غسان في مدارسها الخاصة.
هل ستدفعني هذه الزيارة إلى البحث عن حضور عكا في كتابات الكاتب؟
ستحضر عكا في أدبيات أدباء المنفى من خلال ذاكرة الآباء.
وفي عكا تتذكر ثلاثاء ابراهيم طوقان الحمراء.


عكا 8 : ( من سجن عكا):
في شوارع عكا القديمة تقرأ اللافتات. ثمة لافتات تعود إلى فلسطين قبل أن تغدو “إسرائيل”،على الرغم من أن عكا ما زالت عكا.
بقيت عكا في مكانها؛ بقي سورها وبقيت مبانيها وبقي سكانها.هي هي. عكا ظلت عكا ولم تغد ( akko ) وظلت اللغة العربية تجري على ألسنة سكانها،وإن كتبت اللافتات بلغات ثلاثة: العربية والعبرية والانجليزية ولعلني لا أجانب الصواب.
ثمة لافتة عن المكان الذي حوكم فيه الشهداء الثلاثة؛ جمجموم والزير وحجازي.
كما لو أنني أصغي إلى مغني الثورة :"من سجن عكا وطلعت جنازة ".
وهناك مقابل السجن حيث الشهداء الثلاثة أتذكر قصيدة ابراهيم طوقان "الثلاثاء الحمراء " واجدني أردد:
لما ترنح نجمك المنحوس
وترنحت بعرى الحبال رؤوس
ناح الأذان واعول الناقوس
فالليل أكدر والنهار عبوس.
ولم تكن الكنيسة بعيدة عن جامع الجزار ولم يكن الجامع بعيدا عن السجن ومكان الإعدام.
استرجع قصيدة "أبد الصبار "من قصائد محمود درويش "لماذا تركت الحصان وحيدا؟"1995 يقول والد الشاعر لابنه وهما يعبران سياجا من الشوك:
"يا ابني تذكر هنا صلب الإنجليز
أباك على شوك صبارة ليلتين،
ولم يعترف أبدا.سوف تكبر يا
ابني وتروي لمن يرثون بنادقهم
سيرة الدم فوق الحديد".
في عكا أروي سيرة الدم فوق الحديد أو أن عكا هي من يروي سيرة الدم فوق الحديد.
وفي المنفى سيواصل الروائيون رواية سيرة الدم فوق الحديد. في عكا تتذكر حنان باكير.


عكا 9 : ( المدينة- الفتاة)
لا أعرف فتاة اسمها عكا ولم التق فتاة اسمها حيفا. هل يختلف أهل يافا عن العكيين والحيفاويين؟.عرفت فتيات اسماهن اهلهن "يافا "،وفي هذا الفصل أدرس فتاة أسماها أهلها يافا على الرغم من أنهم ليسوا لاجئين. والدها يساري.
وعرفت فتيات اسماهن اهلهن "فلسطين ".
في رواية حنان باكير الفلسطينية المقيمة في لبنان حيث لجأ أبوها يريد أبو جابر أن يسمي ابنته باسم عكا، لأنه لا يريد أن ينسى المدينة التي هجر منها. ولكن إحدى نساء العائلة تريد إحياء اسم الجدة أجفان.
هكذا تسمى المولودة "أجفان " ولكن أبو جابر يظل يناديها "عكا"وتكبر الفتاة ويكبر معها الاسم حتى أن "أجفان "ما عادت تحب أن يناديها معارفها إلا باسم عكا. ( أصدقاء عديدون عقبوا موضحين بأن هناك من أسمى ابنته اسم عكا واسم حيفا- حنان باكير- وهناك من أسمى بيسان وهو اسم شاع-فاروق مواسي، وهناك من أسمى ابنه او ابنته كرمل-زيدان رفيق ناصر).
لا يخلو الأدب الفلسطيني من روايات يشكل اسم عكا مكونا من مكونات عنوانها. "أجفان عكا "هو عنوان رواية حنان باكير الوحيدة.
في عكا تتذكر حنان باكير وروايتها وفي عكا تتذكر ذكريات اللاجئين الفلسطينيين الذين أقاموا في صور عن عكا.


عكا 10 : (مدخل عكا):
ما يلفت النظر في مدخل المدينة القديمة،عصر الجمعة، هو بائعو الحلويات. كما لو أن السياحة تشكل مصدرا رئيسيا من مصادر رزق الناس.
يعرض البائعون في مدخل المدينة اصنافا عديدة من الحلوى لا أرى مثلها بهذا الكم في نابلس.
في نابلس، على دوار المدينة، يجلس رجل كبير عرفت أنه معلم متقاعد، يجلس على كرسي ويعرض ثلاثة أصناف من السمسم والفستق وجوز الهند، وأما في عكا فلاحظت آن البائعين يعرضون ما لا يقل عن عشرة أنواع- لولا السكر اللعين لكنت سائحا كريما ولكن ماذا أفعل وقد جعلني السكر بخيلا-.
ينادي البائع عله يعود، مساء، إلى بيته بغلة وفيرة.
تمعن النظر في الحلوى وتحاول أن تستفسر عنها ومعرفة أسمائها و...ولكن ماذا سيقول البائع عنك إن ازعجته ولم تشتر؟
غير بعيد كانت حافلات الضفة الغربية- تحديدا حافلات من جنين- تقف، ولم تكن، وأنت تغادر المدينة، تجد صعوبة في العودة. من عكا إلى جنين ومن هناك إلى نابلس.
هل مر حقا ثلاثون عاما على آخر زياراتك للمدينة ؟
منذ 30 عاما ما زالت عكا عكا وما زال مدخل المدينة على ما كان عليه.


عكا 11: ( الغزاة)
وأنا أقف على سور عكا أمعن النظر في البحر وامواجه تساءلت: ما الذي كان يدفع الغزاة منذ القدم إلى القيام بغزواتهم؟
أنظر في البحر وأتذكر السفن التي كانت تمخر عباب البحر قادمة لاحتلال البلاد. أتصور المقاتلين بأيديهم السيوف أو معهم المنجنيقات أو البنادق والمدافع. حقا بماذا كانوا يفكرون وهم يعرفون أن من نجا من غضب البحر لن ينجو من مقاومة سكان البلاد؟
لماذا لم يتعلم نابليون من الحروب الصليبية ؟ وما الذي دفع البريطانيين الى انتداب بلادنا؟ وبم يشعر البريطانيون الآن وهم يرون ما صرنا إليه؟
في "مديح الظل العالي " أتى محمود درويش على هذا حين كتب عن الفلسطيني الذي ولد قرب البحر وولد من آباء مختلفين بعدد غزاة فلسطين ومن ام فلسطينية .هل تذكرون ماذا قال هو الذي كتب: " تكاثر فينا الغزاة، تناسل فينا الطغاة ".كتب الشاعر :
تفتح الموج القديم: ولدت قرب البحر من ام فلسطينية وأب/ أرامي. ومن ام فلسطينية أاب مؤابي. ومن ام فلسطينية/ وأب اشوري. ومن ام فلسطينية وأب عروبي. ومن ام،/ ومن ام..على حجر يقيد فوقه الرومان أسرى حربهم/ ويحررون جمالهم مني.../أنا الحجر الذي شد البحار إلى قرون اليابسة "
أقف على سور عكا وأتأمل البعيد؛ البعيد تاريخيا والبعيد جغرافيا.
لماذا كان الحمقى يتركون نساءهم وأطفالهم وياتون ليموتوا.
في رواية (جوزيف كونراد )"قلب الظلام "يغادر (كروتزه) لندن إلى افريقيا بحثا عن الذهب آملا أن يعود إلى خطيبته بكمية منه وفي افريقيا ينسى من أجله حياته وخطيبته و..و..ويعود خبرا في تلغراف فقد مات بحثا عن الذهب.
هل تذكرت عيسى العوام؟


عكا 12 : (عيسى العوام):
وأنت على أسوار المدينة تعود بك الذاكرة إلى فترة الحروب الصليبية. حوصرت عكا وكان لا بد من اختراق الحصار.
من القصص الأولى التي كتبتها وأصدرتها في عكا عن منشورات مؤسسة الأسوار 1979 قصة عيسى العوام وكان عنوانها "هل مات العوام غرقا؟ ".
ترتبط عكا بالمقاومة منذ قرون، وكان العوام واحدا من هؤلاء.
هل ما زال العكيون يقاومون؟
في قصة غسان كنفاني "زمن الاشتباك- الصغير يذهب إلى المخيم" من مجموعة "عن الرجال والبنادق" يقول السارد "إن الفضيلة الأولى في زمن الاشتباك هي أن تبقى على قيد الحياة"، واية فضيلة أخرى تأتي بعدها فلا وجود للفضيلة حين لا يكون لك وجود. هنا يمكن أن تشتبك مع كل شيء وهنا يبدو وجودك، مجرد وجودك، مقاومة.
يكفي ان أهل عكا ظلوا صامدين فيها، فما زالت المدينة مدينة عربية بسكانها ولغتها وطعامها وحلوياتها.
سحرتك قصة عيسى العوام منذ تعلمتها في المدارس، وحين غدوت تكتب القصص، وحين كانت هذه تعرض على الرقيب الإسرائيلي ليوافق عليها أو ليمنعها، كان لا بد من البحث في قصص الماضي التي لا يفهمها الرقيب الإسرائيلي ولا يعرف مغزاها. سوف تلهمك فترة الحروب الصليبية وشخصية عيسى العوام.
سترى ،وانت تكتب، في دلال المغربي ورفاقها من الفدائيين امتدادا لعيسى.
في عكا تتذكر عيسى العوام وبداياتك القصصية المتعثرة.


عكا 13 : ( (للبحر أنت تعود مرتبكا):
تتذكر شاطيء عكا. ربما كانت المرة الوحيدة التي سبحت فيها في البحر المتوسط. ها أنت تعود إلى البحر ثانية لتركب السفينة للمرة الأولى. تتذكر الشاعر العراقي سعدي يوسف وأسطره "للبحر أنت تعود مرتبكا/ والعمر تنشره وتطويه/ لو كنت تعرف كل ما فيه/لمشيت فوق مياهه ملكا ".
أعود إلى عكا بعد 30 عاما تقريبا. كم كانت هذه السنوات قاسية وصعبة. مثل كربلاء أحمد دحبور في "العودة إلى كربلاء ":يا كربلاء كم كنت قاسية وصعبة "
يقترح د.ياسين كتانة أن نركب البحر، وهكذا أركب السفينة. من هنا هاجر العكيون في 1948 إلى لبنان.
وأنا في البحر لفت نظري مبنى قديم في المياه. ربما كانت السفن تهتدي به أو ربما كان فنار عكا. لا أدري لماذا لم اسأل عن المبنى. مبنى متداع ولكنه ما زال قائما. مبنى مهجور مثل الكنيسة المهجورة. هل هو الفنار الذي كتب عنه سميح القاسم في قصيدة مبكرة عنوانها "إلى حارس فنار عكا ".يكتب سميح:
ملت شباك الصيد الانتظار!
يا حارس الفنار
......
......
يا حارس الفنار
أنقذ حبال الجار
من قسوة الأمواج والأمطار
تهرأت يا صاحبي... تهرأت
والجار
غدًا يعود ضاحكا..
للصيد والفنار"
هل عاد الجار أم أنه مات في المنفى ومات مثله حارس الفنار؟
أهل عكا ما زالوا يقفون على الشاطيء وما زالوا يملكون البحر؛ شاطيء البحر، وفي قواربهم تصدح الأغاني العربية.
في عكا تتذكر أنك سبحت في البحر المتوسط، وفي عكا تركب البحر لأول مرة في حياتك.


عكا 14: (جامع الجزار):
ما من مرة زرت فيها عكا إلا زرت جامع الجزار. كان الجامع مكانا للعلم والعلماء ولهذا تجد في أطراف ساحته غرفا كان الطلاب يقيمون فيها.
أقيم جامع الجزار قبل 200 عام تقريبا،في الفترة التي حكم فيها أحمد الجزار المدينة بعد أن أعادها للحكم العثماني من ظاهر العمر الذي كتب عنه ابراهيم نصر الله روايته "قناديل ملك الجليل"2012 .
هل كتب الشاعر توفيق زياد قصيدة عن عكا؟
لتوفيق زياد كتابان مهمان في الأدب الشعبي أتى في واحد منهما على قصة أحمد الجزار.
كتب زياد قصة أحمد الجزار هذا تحت عنوان "جزاريات"(صور من الأدب الشعبي الفلسطيني).
وأنا في جامع الجزار لم أفكر في الحاكم. فكرت في عكا مدينة فلسطينية. نسيت الظالم والمظلوم وأنا أتأمل في البناء وفي الصراع الحالي بيننا وبين الإسرائيليين وصار الجزار جزءا من ماضي الوطني.
في كتاب زياد المذكور، وأنت تقرأ قصة أحمد الجزار تقول:"ها هو ستالين قبل ستالين".
لا يختلف ما أورده زياد عن أحمد باشا الجزار عما في ذهني عن (ستالين):جزار واسمه يعطي صورة عنه.
بنى الجزار السور الثاني لعكا على جثث الناس ليصد نابليون واستعان بأهل نابلس ليقاوم الأجنبي، علما بأنه كان حاربهم.
هل كان الجزار شاعرا؟ يشك توفيق زياد في ذلك.
ذهب الجزار واندحر الغزاة وبقي الجامع.


عكا 15: (عوض: ظنيت النا ملوك تمشي وراها رجال ):
لا ينسى الفلسطينيون المقاومون ومن يتعاطف معهم قصيدة فدائي من نابلس اسمه عوض.
تنسى أنت أنه من نابلس ولا تكون متأكدا من السجن الذي سجن فيه وكتب على جدرانه قصيدته في 30ق20 .
استشهد عوض وترك زوجته وزوج زغاليل معها بعد أن باع ذهبها ليشتري بندقية يقاوم فيها الانتداب والاستيطان، وترك لنا قصته في قصيدته التي التفت إليها الشاعر توفيق زياد وغنتها فرقة العاشقين لتشيع بين الفلسطينيين.
وانت في عكا تتذكر القصيدة ولكنك لا تكون متأكدا إن كانت كتبت على جدار سجن المدينة.
تبحث في كتاب زياد ثم في محرك البحث (غوغل) وتخبرك الكاتبة حنان باكير أن عوض كتبها على جدار سجن عكا.
وانت تكتب عن عكا تصغي إلى فرقة العاشقين تنشد القصيدة.يغنيها مغنيها وتجد نفسك تكرر"يا ليل خلي الأسير تا يكمل نواحو ".
كم من مرة كرر الفلسطينيون المقطع الأخير من القصيدة ، ولكنهم...
وأنت تكتب تتابع أخبار مؤتمر القمة وتتذكر نهايات صدام وبن علي والقذافي وبيتي الشاعر العباسي :
" خليفة في قفص
بين وصيف و بغا
يقول ما قالا له
كما تقول الببغا "
هل أخطأ عوض حين كتب: "ظنيت النا ملوك تمشي وراها رجال ".
يا لي من جبان!
.كم من ديوان شعر لشعراء كثر حصلوا على جائزة ولا يتذكر المرء لهم سطرا.
في عكا: هل قرأت الفاتحة على روح شهداء 1929 و 1936-1939 ؟


عكا 16: (البروة):
في الحافلة، في الطريق من باقة الغربية إلى عكا، يقترح بعض الزملاء زيارة البروة قرية الشاعر محمود درويش، في أثناء العودة.
ترحب بالاقتراح فيعقب صديق على ترحيبك: لم يبق هناك سوى أطلال، فتقول:وهذا إنجاز. نقف على الأطلال ونقرأ مقطعا من "طللية البروة ".
ربما قال الصديق هذا ساخرا. ربما. ربما جادا. ربما.
كنت في أحد مقالاتي عن محمود درويش اقترحت أن تدرج هذه القصيدة في المناهج الدراسية ليتعلمها الطلاب.
أعرف من رواية إميل حبيبي " المتشائل " أن القرية سويت، في العام 1948 ، بالأرض. وأعرف من رسائل الشاعر المتبادلة مع الشاعر سميح القاسم أن يهودا من اليمن أقاموا في (كيبوتس يتسعور ) الذي أقيم على انقاضها. لماذا إذن رغبت في زيارتها؟
من المؤكد أنني لن أزورها لزيارة ابناء العمومة القادمين من اليمن- على أساس الدين- أو الأخوة العرب- حسب معيار اللغة الأم لليهود العرب-.ما السبب إذن؟ الوقوف على الأطلال ليعطي د.احسان الديك أستاذ الأدب الجاهلي محاضرة عن ظاهرة الوقوف على الأطلال ام ليقرأ لنا الشاعر فاروق مواسي قصيدة على غرار قصيدة الشاعرة فدوى طوقان "على أبواب يافا يا أحبائي وقفت وقلت للعينين: قفا نبك".
كنت ترغب في زيارة المكان/ البروة لترى بقاياها- إن بقي منها بقايا- ولترى ما أورده الشاعر عنها:"شارع الأسفلت "و "مصنع الألبان الحديث".
هناك تربوي فلسطيني قال إن أفضل وسيلة للتعرف على الوطن ودراسته هي من خلال الأقدام.
ولأنك كتبت مؤخرا عن سيرة الشاعر وليد سيف واتيت على"القمر سقط في البئر " وقارنت بينه وبين محمود درويش و (لوركا) فإنك تمنيت لو تزور البروة ،ولكن...
في كتابه "يوميات الحزن العادي "1973 كتب درويش عن ذهابه من البروة إلى عكا مشيا علي الاقدام ليلحق بامه التي تركته في القرية،وتأخر في العودة فظن أهله أنه سقط في البئر وأخذوا يبحثون عنه في أبار البروة.


عكا 17: (يعقوب حجازي ودار الأسوار ):
تتذكر أول مرة التقيت فيها بيعقوب حجازي صاحب دار الأسوار للنشر.
كنت في 70 ق 20 بدأت أنشر في مجلة "البيادر" وجريدتي "الفجر والشعب" وغدا اسمي معروفا للمهتمين بالأدب من أهل الأرض المحتلة الذين أخذوا ينشرون كتبهم ومنشوراتهم في مطابع مدينة نابلس؛ يعقوب حجازي ومحمد غنايم ومحمود عباسي وكذلك الشعراء فاروق مواسي وأحمد حسين و..و..والتقيت بالثلاثة الاوائل في مطبعتين من المطابع.
كان يعقوب حجازي بدأ يصدر الكتب وأراد تسويقها في نابلس وعرض علي أن أساعده في البحث عن مشتركين وهذا ما قمت به ،فعرضت كتبه على مثقفي نابلس وبعض سياسييها والعاملين في سلك التعليم وهكذا نشات الصلة بيني وبين يعقوب الذي نشر لي أول كتاب في العام 1979 وهو مجموعتي "فصول في توقيع الاتفاقية ".
في تلك الأيام طلب مني يعقوب أن أطلب من فنان تشكيلي رسم لوحات تتناسب والقصص وهكذا طلبت من كامل المغني أن يرسم لي لوحات تتناسب ومحتوى القصص فعرفني بدوره على الرسامة الناشئة نريمان الشنتير التي كانت تدرس الفن مع كامل في جامعة النجاح.
الطريف أن يعقوب نشر القصص في كتابي وفي كتاب علي الخليلي "الكتابة بالأصابع المقيدة ".
في تلك الأيام بدأت أتردد على عكا وعلى دار الأسوار.
في عكا، وأنت في السوق تمعن النظر في المكان علك تجد دار الأسوار وأما يعقوب حجازي فقد اتصل به الشاعر فاروق مواسي لنلتقي به ولكن يعقوب اعتذر عن اللقاء لأنه سيكون في سخنين. من عكا صدر كتابك الأول وسيصدر عن الدار نفسها في 2001 و2002 كتاباك "في مرآة الآخر: استقبال الأدب الفلسطيني في ألمانيا "و"قضايا وظواهر نقدية في الرواية الفلسطينية "وستنشر في مجلة "الأسوار "دراسات عديدة.
ترتبط عكا في ذهنك بالأدب الفلسطيني وبابرز رموزه.


عكا 18: (ما رأته العين ):
تسير في شوارع عكا القديمة فترى ما تراه في نابلس وفي مدننا اكثرها: ترى متسولا عاطلا عن العمل يطلب بعض سجاير أو بعض شواكل، وتصغي إلى بعض معارفه يعنفه لسلوكه هذا كما لو أنه عار على المدينة كلها.(تتذكر رواية ثيودور هرتسل "أرض قديمة- جديدة"1902 وتتذكر اليهود في المنفى والطفل المتسول ديفيد لوتفيك وتتذكر ما شاهده بطل الرواية حين زار القدس. رأى المتسولين في شوارعها)-جعلنا هرتسل شعبا متسولا-.
وأنت تنهي زيارتك إلى المدينة تاركا جامع الجزار الذي دخلت إليه ثانية لتقضي حاجة تسير باتجاه موقف الحافلة وتنظر إلى سورين متقابلين بينهما مساحة من الأرض خضراء. ربما كان العشب عشب ملاعب كرة القدم فثمة خطوط بيض وثمة أطفال يلعبون الكرة. هل صادفت في عكا القديمة وفي شوارعها أطفالا يلعبون الكرة في الأزقة؟
مساء هاديء جميل. ثلاث أربع ساعات مرت. لم تدخل إلى مقهى. مررت بجانب أحد المقاهي فأشار الشاعر فاروق مواسي إلى زمن مضى. لم تدخل إلى مطعم أبو خريستو الذي تناولت فيه مرة وجبة سمك. لم تدخل إلى بيت في المدينة وعبثا نجحت في تحديد البيت الذي أقام فيه يعقوب حجازي في 70ق20. عبثا.هل شاخت الذاكرة؟
وأنت تكتب عن عكا تتمنى لو تنفق فيها شهرا كاملا تجلس يوميا على شاطيء البحر تتأمل البحر ونابليون وظاهر العمر واحمد الجزار. تجلس في مقهى ما في مطعم أبو خريستو. في مسمكة من مسامك المدينة. تدخل إلى الكنيسة المهجورة. تتبع أحاديث العكيين. تنفق ليلة في سراديب المدينة التي كتب عنها إميل حبيبي في المتشائل. تعطي محاضرة في جامع الجزار عن رواية اميل. عن عكا في المدينة. عن.عن.عن.عن.
سلاما عكا وألف سلام.
هل كتبت كل شيء؟!

***

2- عكا تجيء مع الموج... عكا تروح مع الموج:

أن تزور عكا وحيفا ويافا وأنت تقيم في الضفة الغربية وقطاع غزة فمعنى ذلك أن تثير حولك جدلا واسعا ، وليس هذا بأمر جديد . إنه يعود إلى العام ١٩٦٧ بالضبط ، وهو ما قيده - والكتابة قيد - غسان كنفاني في " عائد إلى حيفا " ( ١٩٦٩ ) .
تطور الأمر من الحديث عن الزيارة ، والكتابة عنها ، إلى الحديث عن العمل والكتابة عنه ، وهو ما ظهر في رواية سحر خليفة " الصبار " ( ١٩٧٦) وفي قصة غريب عسقلاني " الجوع " ( ١٩٧٧ ) .
كانت عبارة غسان كنفاني على لسان شخصية سعيد . س يخاطب زوجته صفية :
" - إنك لا ترينها . إنها يرونها لك " .
كانت عبارة دالة ، وأظن أنها ما زالت تتردد على ألسنة قسم منا ، وما زال يتردد على ألسنة قسم منا وجهة نظر صفية التي عبرت فيها عن دهشتها مما رأت وإعجابها بصورة حيفا بعد ١٩٤٨ .
كأننا منذ ١٩٦٧ ، حتى الآن ، ما زلنا نراوح في الدائرة نفسها ولم نبرحها ، وهذا هو جزء من الحرب ، كما قال سعيد . س ومن ورائه غسان كنفاني نفسه .
وليس غريبا أن لا تقفل إسرائيل الأبواب في وجوه أهل الضفة الغربية لزيارة فلسطين المحتلة في العام ١٩٤٨ أو العمل في مصانعها نهائيا . لا بد من معابر وفتحات في الجدار وتصاريح عمل حتى لا يولد الضغط الانفجار ( مرة قال لي المرحوم بسام الشكعة إن سياسة إسرائيل في المناطق المحتلة مبنية على عدم الإغلاق الكلي ، وهذا ليس جديدا ، ففي عام النكبة حين كانت العصابات الصهيونية تحاصر مدينة أو قرية فلسطينيتين كانت تترك جهة معينة ليهرب منها المواطنون ) .
وكلما زرنا حيفا وعكا ويافا عبرنا عن وجهات نظرنا ، وهي وجهات نظر مختلفة كما في رواية كنفاني .
منا من يشعر بالصغار وعدم احترام الذات ويبدي إعجابه بالآخر وما فعله ، ومنا من يرد ويبدي وجهة نظر مختلفة ويكرر مقولة غسان كنفاني على لسان شخصيته :
"- كان بإمكاننا أن نجعلها أفضل بكثير " .
ما بين ١٩٨٧ و ٢٠٢٣ صارت الزيارة تمزج ما بين الإذلال والإعجاب . تبدأ بالأول وتنتهي بالثاني ممزوجا بالحسرة تارة وبالرغبة في تكرار الزيارة ، فما شاهدناه يستحق أن نذل ثانية من أجل إعادة مشاهدته .
يبدأ الإذلال باستصدار بطاقة إسرائيلية ممغنطة تتطلب دفع مبلغ من المال ضريبة للدولة الإسرائيلية ، وتبذير الوقت لهذا ، وقد يتطلب يوما كاملا ، وبعبور المعابر عبر المعاطات ، وقد يستغرق ذلك ساعة أو أكثر .
ما إن تجتاز الخط الفاصل بين فلسطين ١٩٦٧ وفلسطين ١٩٤٨ حتى تبدأ المقارنات ، وإن كنت من قراء إميل حبيبي كما كنت من قراء كنفاني ، فإنك بالتأكيد ستتذكر رسالة من رسائل روايته " الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل "( ١٩٧٤ ) وهي التي عنوانها :
" حديث شطط في الطريق إلى سجن شطة " ، وإن كانت الرواية في مكتبتك ، فمن المؤكد أنك ستعود إليها لتقرأ فيها الجدل الذي دار بين سعيد المتشائل ورجل الأمن الذي قاده إلى السجن :
" وكان يقول ، وأنا أمشئل ، : الخضرة ، الخضرة على يمينك وعلى يسارك وفي كل مكان . أحيينا الموات وأمتنا الحيات ( وكان يعني الأفاعي ) . ولذلك أطلقنا على حدود إسرائيل القديمة اسم " الخط الأخضر " . فما بعدها جرداء وسهول صحراء وأرض قفراء تنادينا أن أقبلي يا جرارات المدنية " .
كأن " المتشائل " تتوسع في " عائد إلى حيفا " وكأن إميل يواصل ما بدأه غسان .
رحلة النهار التي تبدأ في الساعة السابعة صباحا وتنتهي في العاشرة ليلا - أي ١٥ ساعة - ينفق منها ما لا يقل عن ست ساعات في الطرق والمعبر ، وغالبا ما يعوزها الدليل السياحي الضروري وجوده للتعرف إلى الأماكن في المدن تحديدا . هكذا تنفق ساعة في حيفا أو ساعة ونصف ومثلها في الناقورة ليكون نصيب الأسد لعكا ينفق نصفها في مطعم يقدم وجبات السمك .
من أعلى الحديقة البهائية في حيفا ترى قبتها والبحر الأبيض المتوسط ، ولا يختلف الأمر في رأس الناقورة إلا إذا أردت الهبوط إلى منطقة في البحر برسم مقداره ٥٣ شيكلا .
- هنا كان قطار يصل الشمال الفلسطيني ببيروت . يقول لك مسافر في الباص ولا ترى آثار سكة الحديد .
في الناقورة كما في حيفا يسحرك منظر البحر الأبيض المتوسط وتتساءل :
- ما حاجتي لزيارة إيطاليا واليونان ؟
وتضيف :
- ربما تبدو زيارتهما ضرورية لبعض اللاجئين الفلسطينيين في المنافي التي لا بحار في أرضها .
عندما اقتربت من البوابة المغلقة في وجه الزوار تذكرت المرحوم إدوارد سعيد . ذهب إلى الجنوب اللبناني واقترب من الحدود والبوابة ؛ بوابة فاطمة ، وحمل حجرا ليرمي به الجنود الإسرائيليين ، تعبيرا عن رفضه الاحتلال الإسرائيلي . كان إدوارد في الطرف الآخر وكان متأكدا من أن الجنود الإسرائيليين لن يطلقوا النار عليه فلن يؤذيهم حجر لن يصل إليهم .
وأنا أقترب من البوابة نظرت من شق بين قسميها فأبصرت جنودا إسرائيليين ويبدو أن بوابة فاطمة وراء معسكرهم خلف البوابة التي وقفت بمحاذاتها . لو قلدت إدوارد وقذفت البوابة بحجر لصرت مع الملائكة آكل رزا بلبن وأختار من الحوريات ٧٢ حورية ، ولكني لم أفعل فنصيبي من حوريات الآخرة مثل نصيبي من حوريات الدنيا . ومع أنني لم أقذف الجنود بحجر إلا أنني وأنا أنظر من فتحة قصيرة في البوابة انتبهت إلى عبارة نطق بها جندي في العشرينات من عمره تبدو أقرب إلى الشتيمة . كأن نظرتي لم ترق له .
وأنا أقف في رأس الناقورة سمعت قرب استراحة المكان رجلا عربيا ستينيا يخاطب خمسة جنود إسرائيليين ، كانوا باتجاه باص سيقلهم إلى بيوت أمهاتهم ، يبدو أنهم أنهوا ورديتهم :
- حاج سموح !! عيد سمح مبارك .
أهي صداقة تجمع بينه وبين الجنود أم أنه الشعور بالدونية ؛ دونية المهزوم أمام المنتصر ؟
انضم العربي إلى شابين من يركا يتحدثان مع فلسطينية متحجبة ، وكانوا يخوضون في حياة الفلسطينيين في دولة إسرائيل . الزواج والطلاق وعلاقة الرجل بالمرأة .
قال الرجل الستيني جادا ، وربما هازلا ، إنه يرضخ لزوجته ، لأنه إن تطاول عليها ولم يطعها فإنها تتصل باخوتها الذين سرعان ما يأتون ليضربوه .
أحد الشابين كان يضع على عنقه سلسلة ذهبية ويبدو أربعينيا تقريبا وممتليء الجسد وطويلا . الشاب حدثنا عن زواجه لمدة ثلاث سنوات وطلاقه ، فزوجته حين ضربها اتصلت بالشرطة فعاقبته وسجنته أربعة أشهر قرر إثرها الطلاق ودفع مبلغ ٥٠ الف شيكل لطليقته . إنه القانون الإسرائيلي الذي يقف إلى جانب المرأة ، وهو الآن أعزب ولن يكرر التجربة .
لا أحد مرتاح . هذه هي خلاصة ما قاله الرجل الذي يعمل " جنائنيا " براتب مقداره ٢٠ الف شيكل شهريا ، والدولة الإسرائيلية خربت العائلة العربية .
على شاطيء عكا المخصص للسباحة البعيد عن البلدة القديمة مسافة مشي ربع ساعة على الأقدام تجلس على طاولة تعود إلى كشك يبيع البوظة والمشروبات الغازية .
حين تمعن النظر في البائع الذي يقترب من الخمسينات عمرا تلحظ سلسلة ذهبية في وسطها نجمة سداسية ، ولأن شكل البائع يبدو شبيها بأشكالنا نحن الفلسطينيين تخمن أنه قد يكون فلسطينيا لبس السلسلة تشبها أو دفعا لأذى . لا تسرف في التفكير في هويته وتتناول البوظة على مهل ، وإن هي إلا لحظات حتى جاء وجلس غير بعيد منك .
هل أبادر بالحديث معه أم أتركه يبدأ السؤال ؟
كان الرجل لا يعرف العربية وأنا لا أتقن العبرية . هل سنكون مثل حامد والجندي الإسرائيلي في رواية كنفاني " ما تبقى لكم " وهما في صحراء النقب ، فلا نتحاور .
في ٦٠ القرن ٢٠ كان الحوار الفلسطيني - الإسرائيلي غير وارد . العداء هو ما كان يسود ، ونحن الآن في العام ٢٠٢٣ . التقى حامد بالجندي في زمن ساده العداء وطغى عليه ، وأنا أزور عكا بإذن من السلطات الإسرائيلية في زمن عقد فيه الطرفان المتحاربان معاهدة صلح - وينسقان فيه أيضا أمنيا - ثم إنني في السبعين من العمر قد تهوي بي عاصفة هوائية قوية نوعا ما .
قال الرجل بالعبرية وهو يخاطبني :
- دولة إسرائيل دولة تمام . ( إسرائيل يوفي ) .
سألت الرجل إن كان يتكلم العربية فرد بأنه يتكلم العبرية وبعض الإنجليزية .
عندما سألته بالإنجليزية أين يقيم أجابني بأنه يقطن في حيفا ، وأنه من مواليدها .
سألته :
- هل أنت عربي يهودي ؟ إنك تبدو عربيا ؟
فأجابني بأن أباه مغربي وأمه تونسية وأنهما يتكلمان اللغة العربية وأن والده يسافر إلى المغرب بين فترة وفترة .
الرجل متزوج وله أبناء أحدهم متزوج وله طفلان .
سيكرر الرجل رأيه :
- دولة إسرائيل دولة تمام . ( همديناه إسرائيل يوفي ) .
وأنا أجيب :
- آمل أن تكون كذلك .
لم نتكلم كثيرا ، فاللغة لا تسعفنا وعدا ذلك فما جدوى الحوار بيننا . هو يقيم في حيفا وأنا أقيم في نابلس لاجئا من يافا وفي الضفة وغزة ملايين اللاجئين وفي المنفى سبعة ملايين لاجيء .
لم يمض على ما يشبه الحوار بلغة لا تسعف سوى عشر دقائق ، فقد قدم مواطن عكاوي قال لي عنه صاحب الكشك إنه صديقه ، وأخذ القادم يلعن المسلمين ويشتمهم ولا أعرف السبب لهجومه عليهم وعلى الحركات الإسلامية .
في حوار عابر مع الرجل العكاوي قال لي إنه زوج ابنته لفلسطيني يقيم في مخيم بلاطة .
عندما سالته عن عائلة زوج ابنته أخذ يتذكر دون جدوى . وعندما سألته إن كانت ابنته ما تزال تقيم في مخيم بلاطة أجابني بأنها الآن في عكا .
دخل الرجل إلى الكشك وأنا واصلت النظر إلى البحر الذي بدا لونه أقل زرقة مما رأيته عليه في حيفا والناقورة ، ووجدتني أسير باتجاه عكا القديمة .
في الحافلة والركاب يوازنون بين شوارع دولة إسرائيل المعبدة وشوارع مدينة نابلس المليئة بالحفر والمطبات ، وبين الحدائق التي يشاهدون ومتنزهاتنا وملاعب كرة القدم خاصة الإسرائيليين وخاصتنا ، تذكرت قصيدة محمود درويش " طللية البروة " وما ورد فيها من
حوار مع صحفي عندما ذهبا إلى قرية البروة المدمرة ؛ البروة التي أقيم على أطلالها كيبوتس يتسعور .
" ويقاطع الصحفي أغنيتي الخفية : هل
ترى خلف الصنوبرة القوية مصنع
الألبان ذاك ؟ أقول : كلا . لا
أرى إلا الغزالة في الشباك .
يقول : والطرق الحديثة هل تراها فوق
أنقاض البيوت ؟ أقول : كلا . لا
أراها ، لا أرى إلا الحديقة تحتها ،
وأرى خيوط العنكبوت . يقول : جفف
دمعتيك بحفنة العشب الطري . أقول :
هذا آخري يبكي على الماضي " .
وللأسطر دلالة كتبت عنها . خذوا كل مصانعكم وشوارعكم ونريد وطنا بلا حواجز وجنود . لا نريد جبنتكم الصفراء ولا مشروباتكم الغازية . لا نريد بضاعتكم الأجود . نريد راحة البال التي افتقدناها منذ جئتم . كأن هذا هو لسان القصيدة والشاعر .
" عكا أجمل المدن القديمة " ، ومع أنني كتبت من قبل أجادل سطر محمود درويش هذا الذي ورد في مطولته " جدارية " ، إلا أنني وأنا أدخل عكا القديمة وجدتني أردده مسترجعا إياه .
أن تزور عكا القديمة يعني أن تمر بمطعم أبو كريستو الذي تذكره محمود درويش وهو يرثي صديقه الشاعر راشد حسين في قصيدته الشهيرة " كان ما سوف يكون " :
" منذ عشرين سنة
وأنا أعرفه في الأربعين
وطويلا كنشيد ساحلي ، وحزين
كان يأتينا كسيف من نبيذ ، كان يمضي كنهايات
صلاة
كان يرمي شعره في مطعم " خريستو "
وعكا كلها تصحو من النوم
وتمشي في المياه
كان اسبوعا من الأرض ، ويوما للغزاة
ولأمي أن تقول الآن : اه ! "
لأول مرة اكل في مطعم " أبو كريستو " فأتصور جلسة كتاب عكا وحيفا في الستينيات يجلسون هنا .
المطعم قديم افتتح في العام ١٩٤٨ . هكذا قرأت . ولست متأكدا من أن الطاولات هي الطاولات نفسها ، ولست متأكدا إن كان رمم خلال الخمسة والسبعين عاما الماضية ، ولكن البوابة توحي بالقدم وعدم الترميم ومثلها بلاط المدخل ، لكن المطعم بطلته على البحر يبدو أخاذا ساحرا يروق الجلوس فيه . أما صالته الداخلية فتبدو مجددة . نظافة وإشراق والحمامات فيها من النظافة والجدة ما يدفع المرء إلى الإشادة بالمطعم . أن تتناول وجبة في عكا يعني أن تأكل السمك ، وهو ما فعله من معي ولكني فضلت السلطة ، ففي السفر أفضل تناول الفواكه والسلطة ، خوفا من مغص مفاجيء يسببه الطعام وخوفا من ارتفاع نسبة السكر في الدم .
كنا في مطعم أبو كريستو الوحيدين ، فهل قتل مطعم ديانا الجديد المطعم القديم ؟
كلما زرت عكا ذهبت أتمشى على سورها ودخلت إلى جامع الجزار .
وأنت على السور في عكا القديمة تتأمل فعل الزمن والمياه في السور الصامد في وجه الغزاة صموده في أمام الزمن والمياه . وأنت على السور تشاهد فتيان عكا النحيلين سمر البشرة يقفزون في المياه من ارتفاع شاهق ، يتبارون فيما بينهم ، وأنت في أزقة المدينة تتحدث مع كبار السن الصامدين في بيوتهم حفاظا على عروبة عكا ، وتشاهد قسما منهم ينظفون مساء شوارعها ويرشونها بالمياه . من البحر تأتي وإلى البحر تعود فتكرر للمرة الألف قول سعدي يوسف الشاعر العراقي :
" للبحر أنت تعود مرتبكا
والعمر تنشره وتطويه
لو كنت تعرف كل ما فيه
لمشيت فوق مياهه ملكا " .
وتمشي محاذاة السور وفي شوارع المدينة التي سبحت في بحرها قبل ثلاثة وخمسين عاما وظللت تتردد عليها كأنك لم تشبع من التطواف فيها .
تزور جامع الجزار . الجامع يحتاج إلى ترميم بعض مرافقه المتداعية . ثمة صندوق أمام مايكروفون يكرر عبارة تدعو إلى المساهمة في الترميم ، ولا شك بأن القائمين على المشروع يأملون من الزوار خيرا . هل تقتصر أهمية الجامع على أنه مكان لتأدية الصلاة أم أنه تراث فلسطيني يجب المحافظة عليه ؟
زوار المسجد في ساعات المغرب قليلون ، وحتى وقت أذان المغرب للصلاة لا يتضاعف عددهم ، فأهل عكا يجلسون أمام بيوتهم وعلى شاطيء البحر في ظل جو مشبع بالرطوبة . عندما سألني زائر مغربي متزوج من فلسطينية من صرة تذكرت ما قرأته في روايات فلسطينية عن أحمد باشا الجزار وعن نابليون وغزو عكا وانهزامه أمام أسوارها ، وتذكرت أيضا ما قرأته عن جامع حسن بك في يافا . غالبا ما يخلد الحكام أسماءهم ببناء مسجد أو مدرسة ، فلعل الله يغفر لهم ما ارتكبوه من مجازر وخطايا . هل تغفر خطايا الجزار بطولته في صد نابليون وبناء المسجد ؟
تغادر عكا لتعود إليها كأنها تأتيك في النوم وتغادرك في النوم ، وتكرر سطر محمود درويش في قصيدة " الأرض " :
" عكا تجيء مع الموج .. عكا تروح مع الموج "
وتجادل سطره :
" عكا أجمل المدن القديمة " .
في الثامنة ليلا تغادر المدينة على أمل أن يمتد بك العمر لزيارتها ثانية ولتحاضر عن غسان كنفاني فيها من جديد .

الجمعة ١٥ / ٩ / ٢٠٢٣
( زيارة حيفا ورأس الناقورة وعكا في ١٤ / ٩ / ٢٠٢٣ ) .
عادل الأسطة

***


======================
1- عكا : (ثلاثون عاما من الغياب):
2- عكا تجيء مع الموج... عكا تروح مع الموج:

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى