مصطفى فودة - دلالة الحواس الخمس ورمزيتها وعناصرأخرى فى( مفترق طرق) مجموعة قصصية للكاتب سمير فوزى

تتكون المجموعة القصصية من ست عشرة قصة قصيرة تقع فى مئة صفحة وقد صدرت سنة 2023 عن الناشر للنشر والتوزيع وهى المجموعة القصصية الخامسة للكاتب عدا الإعمال الروائية والقصصية والمسرحية للأطفال .
عنوان المجموعة القصصية مفترق طرق دلالة على الحيرة فى اتخاذ قرار بين طريقين وهو اسم القصة الثالثة وتدور حول عودة مدرس من الخارج إلى مصر وسط قطيعة أبناءه وبيعهم لبييتهم فيجد نفسه فى مفترق طرق أيبقى فى وطنه أم يعود من حيث أتى .
يتفاعل الإنسان مع بيئته من حوله عبر الحواس الخمس فهى "بداية المعرفة ونهايتها إنها سيدتنا من خلالها تنتقل معارفنا " حسب المفكر الفرنسى مونتانى ( كتابة الرائحة رضا الأبيض عرض محمد غزى ) ، ومن خلال المجموعة القصصية وجدت اهتماما ملحوظا وإشارات إلى الحواس الخمس وخاصة الروائح (حاسة الشم) فى غالب قصص المجموعة فلم تكن ذكرا عارضا لها بل مساهما فى تطوير الحدث وتكوين الشخصية ، فلم يكن بدا لى من قراءة المجموعة من هذا المدخل مع تناول بعض التقنيات الأخرى ذكرتها فى حينها مثل المفارقة والإسقاط وذكر المسكوت عنه وغيرها ، وكانت شخصية السارد بما يحمله من سلبية وخوف وعدم أتخاذ قرارات مصيرية فى حينها وحب العيش فى كنف امرأة أم أو أخت أو زوجة هو الخيط الذى يربط قصص المجموعة المختلفة .
تدورقصة عيادة رمد على لقاء السارد بزميلته وحبيبته حورية مصطفى الجمال فى كلية الآداب قسم فلسفة وذلك بعد عشرين سنة حيث يعانى من ضعف مزمن فى النظر وحورية مصطحبة ابنتها الضريرة للعلاج ويفشل السارد فى البدء بالكلام مع زميلته به وتذكيرها به منتظرا أن تبدأ هى ، مما ينم على طبيعة شخصيته السلبية وهى الصفة التى كانت حورية تجهر بالسخرية منه بسببها وتحرضه دائما على التمرد فقد كانت جريئة مقتحمة ، كانت تقول له "إن الحرمان من متع الحياة هو الذنب الأكبر ، معصية لمشيئة الله ، لا تعترف بالقدر ، لا تؤمن سوى بإرادة الإنسان وقدرته على صنع قدره بنفسه" ، وكانت قد رفضت الزواج به لطموحها فى تحقيق ذاتها وتنتهى القصة يمغادرتها العيادة وركوبها سيارة سوداء فارهة كانت فى انتظارها مع سائقها العجوز مع إلتفاتة سريعة منها وأسرعت بدخول السيارة وجلست خلف ستارة سوداء خلف الزجاج ومضت مسرعة " ص14 كانت بالقصة إشارات كثيرة إلى حاسة البصر وكان اللون الأسود هو اللون السائد ومقترن بحورية وابنتها "عباءة سوداء ، نظارة سوداء سميكة ، سيارة سوداء فارهة ، ستارة سوداء خلف زجاج السيارة" مما له دلالة رمزية على تعاستها وحزنها رغم ثرائها وطبقتها الإجتماعية المرفهة ،وكأن بالقصة نوعا ما من العقاب على غرار التراجيديا الإغريقية التى توقع العقاب علي من يتحدى القدر .
فى القصة الثانية حبل تائك تدور حول زوج محب لزوجته يعيش فى كنفها ورعايتها له ويسلم أمره ونفسه لها ويتغاضى عن تصرفات لها تشير إلى علاقة جنسية لها حيث " تدس قميص نومها الأحمر الفاقع فى حقيبة يدها " عند خروجها من البيت ، فى القصة إشارات إلى ألوان لها دلالات رمزية جنسية مثل قميص نومها الاحمر الفاقع وقميص نومها الأسود على جسدها الأبيض ، جلبابها الأسود على قميصها نومها الابيض (لجارته)، كما أن هناك إشارة إلى حاسة الشم "رن تليفونه فشم رائحة عطر يحبه عرف أن زوجته هى المتصلة " وتشير العبارة الى حاسة الشم وتراسل الحواس " منتشيا بالرائحة الجميلة" ، وهى كلها دلالات رمزية جنسية على تلك العلاقة الملغزة والتى ترك أمر تأويلها للقارئ .
أما القصة الثالثة مفترق طرق والتى تحمل عنوان المجموعة فهى عن عودة مدرس لغة عربية من الخارج وأثناء ركوب السارد سيارة أجرة من المطار والتى كان يقودها أحد تلامذته القدامى " كان الطريق قد بدأ يضيق وغربت الشمس تماما فاصبحت السماء مظلة رمادية وكانت رائحة عفن قد هاجمت السيارة ، أحسستُ ببوادر مغص فى بطنى ورغبة ملحة فى القئ " ص23 فرائحة العفن التى تهاجمته هىى دلالة على الإحساس بالإغتراب فى وطنه وقطيعة أبناؤه له وبيعهم بيت شبرا الذى كان يقيم فيه ، كذلك ضيق الطريق وغروب الشمس واللون الرمادى فى السماء دلالة الحزن والضيق والكآبة التى به ، وتنتهى القصة نهاية دالة ومفتوحة وهى نسيانه حقيبته بسيارة تلميذه ، دلالة على أنه قد ترك كل ما يتعلق بالماضى وأمامه مفترق طرق إما أن يعود إلى الغربة من جديد وإما أن يبدأ من جديد فى وطنه وللمتلقى حق مشاركة الكاتب وإختيار نهاية لها .
فى قصة شئ بيننا " شممتُ رائحة نتنة تخرج من فمه تملأ الخلاء حولى دفعنى بكل قوته فسقطت ، ضربنى بعصاه ضرية موجعة وتركنى على الأرض " بالقصة بعد رمزى واضح فالرجل الضخم ومعه عصاغليظة يتعرض للسارد قد يشير إلى جهاز الأمن الضخم فى البلاد وعصاه الغليظة دلالة القهر والقسوة ، ونتانة الفم قد يشير إلى الإعلام البذئ الكاذب ، والصورة الكلية قد تكون معادلا رمزيا للنظام البوليسى فى أنظمة الحكم الديكتاتورية .
فى قصة صورة تهتز داخل إطار تصور نظام حكم مبارك وثورة يناير وتصفه بجسد ضخم وكائن غريب " انتابنى الخوف لأول مرة من سقوط البيت" 55ص والبيت هنا رمز للوطن وخوف السارد من سقوط الوطن نتيجة اما حدث فى ثورة 25 يناير وما بعدها ومقاومتها من نظام حكم مبارك . ويلاحظ تكرار صورة الجسد الضخم فى هذه القصة والقصة السابقة مما ينطبق عليها ما ذكرناه سابقا من دلالة ورمز .
فى قصة رائحة ثوم تدور حول سائق قطار يتزوج بعد موت زوجته الأولى ، وكانت الزوجة الجديدة تطيعه "عندما كان عفيا فحلا فى سنوات زواجه الأولى ، لم تتمنع عليه أبدا ، مطيعة ، تترك له جسدها " ولكن عندما ضعفت فحولته الجنسية تمردت عليه وتعاملت معه بخشونة وتعال ، وقد عبر الكاتب بتمردها بصور فنيه وليس بطريقة خبرية مثل " لأول مرة يلاحظ أن عينيها واسعتان ورقبتها طويلة " وهى صورة فنية بارعة للتحدى والإعتداد بالنفس والشموخ عليه ومثل " اكتشف أنه لم يسمع صوتها من قبل ، نبراته غريبة عليه ، أحبالها الصوتية انتفخت فجأة ، كأن امراة أخرى عاشت معه طوال تلك السنين " ص79 قام السارد بالإفراط فى تناول فصوص الثوم اعتقادا منه فى الوصفات الشعبية لإعادة فحولته وظل يتناول الثوم حتى ملأت رائحته الشقة دون جدوى ، بالقصة أشارة غامضة مسكوت عنها إلى أنها عارضت عمل إبنه الشاب من زوجته الاولى كسائق قطار ، من عنوان القصة تلعب حاسة الشم دورا بارزا فى عنوان القصة وأحداثها .
فى قصة كوم رمل يعمل السارد فواعليا بالقاهرة يحمل القصعة على كتفه بها مونة حتى غروب الشمس وذلك بعد طرده من الأرض التى كان يعمل عليها بعد موت أبيه "رائحة الجدران الحمراء تقتحم أنفه ، السقف العارى ممدد فوق صدره ، يفترش الارض بجوار شكائر الاسمنت المكومة فوق بعضها بارتفاع السقف يستعصى عليه النوم ، الجرح الغائر فى كتفه يحفز النوم ضده يتحسسه فيؤلمه بشدة " ص83 وهى صورة معبرة عن أكتئابه وشقائه ، لا تفارقة صورة أمه ويتذكر حبيبته صابحة برائحتها الجميلة " صابحة جميلة رائحتها حلوة ، يتعقبها حسين الفلاتى ابن الحاج سليمان ، تقاومه ، تأكل لحمه بأسنانها ، استقوى عليها بجسده الضخم وعافيته ، كاد يتمكن منها ، الثور معصوب العينين فى ساقية العمدة ملقى على الارض خائرا من شدة الإنهاك " وعبر الكاتب عن اكتائبه برائحة الجدران الحمراء وعبر عن حبيبته برائحتها الجميلة كما اتخذ الثور معادلا موضوعيا لحسين بن الحاج سليمان الذى اعتدى على حبيبته وتنتهى القصة بإشعال السارد النار فى شكاير الاسمنت وفى المبنى بأكمله .
فى قصة ضوء هزيل يرتعش تلعب الرائحة دورا كبيرا فى تشكيل شخصية عم حسين زوج الأم يصفه السارد بأنه " رائحة السباخ لا تفارقه قد يكون ثريا لكنها يوم تزوجته لم تكن محتاجة للمال" ص88 فرائحة السباخ تعبرعن وضاعة أصله كما تعبرعن كراهية السارد واحتقاره لزوج أمه ، كذلك اتخذت القصة البرص وبشاعة منظره معادلا لزوج الأم الذى حرمه من أخته وزوّجها لإبنه ، هذا بالطبع وصف شعور السارد ، رغم ما جاء بالسرد من نبل أعمال عم حسين من عطفه على أولاد زوجته بشرائه ما يحتاجون وما يحبون ، وستر إبنة زوجته بعد ما أصبحت غير بكرمن علاقة بأحد الشباب التى تزوجته عرفيا ، وزوّجها لأحد أبنائه سترا للفضيحة والذى أخذها معه إلى الصعيد واشترط أن لا يزورها أحد .
فى قصة صورة جماعية حيث لا يتعرف السارد على نفسه فى الصورة وهى حالة رمزية للتحول والتبدل والتغيرات التى تصيب الشخصية أثناء حياته بحيث يعجز أن يتعرف على نفسه الصغيرة فى الصورة ، والقصة تنويع ما على قصة صورة دوريان جراى التى تتحول صورته إلى القبح كلما ارتكب جرما .
فى قصة حجرة مظلمة يبدو عنصر المفارقة ملفتا لنظر القارئ حيث أوصى الجد بواب العمارة بنشر نعيه فى جريدة الأهرام والذى أعده بنفسه إنتظارا لموته ، فيبقى الجد والذى كان فى الماضى طيارا خاض المعارك هُزم فى عصر ناصر وانتصر فى عهد السادات ويموت الحفيد ويُنشر نعيه بجريدة الاهرام بدلا من الجد ، كما تبقى نعمت إبنة البواب المعاقة والتى تلازم الفراش وتتحرك بكرسى متحرك .
فى قصة العُرى يستولى عم السارد على بيت عائلة السارد فيسقط أبيه قهرا ويموت وعندما يذهب السارد لعمه للمطالبة ببيتهم يأمر العم أتباعه بتجريد السارد من ملابسه وطرده عريانا والقصة ترمز للقهر والعجز أمام العم/السلطة للمطالبة بالحقوق التى يستولى عليها قهرا .
فى القصة الأخيرة للذكرى والتى لا تتعدى ستة سطور حيث يدعو السارد أبناءه وأحفاده لإلتقاط صورة فيغيب البعض ولكن عندما يموت يحضروا جميعا وبالقصة مفارقة حضورهم عند موته وغيابهم فى حياته .
اتسم السرد بالإيجاز والكثافة والتدفق بجمل قصيرة تخلو غالبا من أدوات العطف مما جعل إيقاع السرد سريعا جذابا ومشوقا بلغة عربية بسيطة ولكنها فنية بصور بديعة ومجازا معبرا تنحو فى بعض المواضع إلى الشاعرية مثل هذه الفقرة " تفرحه المكالمة ، تدخله حالة رائعة من الرضا ، يرى نفسه خفيفا يكاد يطير ، تنزاح الأسقف والجدران وتختفى الابواب ، صوتها دافئ ، حنون يحيى كل حواسه ، تنفتح نفسه المسدودة" ص17 ، أما الحوار فقد كان قصيرا سريعا معبرا يساعد فى تطوير الحدث أو التعبيرعن الشخصية أو تصوير جوانب منها وكان باللهجة العامية فكان معبرا عنها وعن ثقافتها وعن بيئتها ، وعلى سبيل المثال هذا الحوار بين السارد وزوجته من القصة الثانية حبل تائك
- صحيت؟
- من بدرى
- صليت الصبح؟
- آه
- فطرت؟
- الحمد لله
- خدت العلاج؟
- آه
- السجاير تحت المخدة
- شفتها
- واحدة بس لغاية ماجى ص16
حفلت المجموعة بتقنيات سردية عديدة مثل روعة بدايات القصص والدخول مباشرة فى قلب الحدث دون مقدمات طويلة لا معنى لها مما ساهم فى جذب القارئ وتشويقه وعدم إملاله وكانت نهايات القصص غالبا ما تكون مفتوحة يشارك القارئ فى تشكيلها مع الكاتب ، وتقنية الإسترجاع على سبيل المثال فى عيادة رمد ، استعاد السارد أحداثا من عشرين سنة فساهم فى التشويق وكسر رتابة السرد التقليدى وكسرالزمن الخطى فبدأ بالحاضر واسترجع الماضى ثم عاد الى الحاضر، وكذلك التعبيرعن الحالة ليس بعبارات خبرية ولكن عبر الصورة مثل تصوير تمرد الزوجة كما سبق بصور كاتساع العينين وإطالة الرقبة وتغيير إيقاع صوتها ، وكذلك التعبير عن المسكوت عنه بعبارت موحية وليست مباشرة كما ذكرنا فى قصة حبل تائك ورائحة ثوم وكذلك التعبير بالرمز مثل البرص عن الحاج حسين فى ضوء هزيل يشتعل وعواء الكلب الرابض فى ملامح مفقودة عن وقوع المصائب كموت الابن وسقوط حمل زوجته دائما أسفل البيت وغيرها .
(مفترق طرق) هى مجموعة من الفن الرفيع فى القصة القصيرة ، تتجدد معانيها مع كل قراءة ، مجموعة حرية بالتقدم بين الصفوف وأخذ وضعها الطبيعى والفائق فى فن القصة القصيرة وجديرة بالفوز بأعلى الجوائز الرسمية والخاصة ، والغفلة عن ذلك خطأ عظيم .
قراءة مصطفى فودة
-------------------------------------------------------------------------
قرأت جزءًا صغيرا من هذه القر اءة الكاملة للمجموعة القصصية (مفترق طرق) للكاتب الكبير سمير فوزى بورشة الزيتون أول أمس الأثنين أثناء 2023/10/2 أثناء مناقشة المجموعة وأنا أهنئه على هذه المجموعة الفنية الراقية وأتمنى له التوفيق .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى