عبدالواحد التهامي العلمي - قراءة السرد العربي القديم بين وهم المماثلة ومبدأ المغايرة دراسة في بعض النماذج

توطئة

يصدر هذا البحث عن مبدأ نظري يقر بأن الأدب مفهوم مرتبط بالتاريخ والمجتمع والثقافة؛ أي أنه يشكل معاييره وأعرافه في ارتباطه بحاجيات الإنسان الجمالية والاجتماعية. وأن أي إخلال بهذا الشرط، قد ينجم عنه إخلال بقواعد قراءة الإنتاج الأدبي والإنساني في التاريخ، على نحو ما حصل في الثقافة الأدبية الحديثة التي أفرزت قراءات لم تراع مبدأ التمايز الذي يسم الإبداع الأدبي الإنساني، مما عرض أنواعا أدبية في تراثنا إلى التهوين، لكن التحولات التي حدثت في تصورات الدارسين العرب المحدثين لمفهوم ارتباط الأدب وأنواعه وأشكاله بالوعي الجمالي السائد في الحقب التاريخية، أعاد لتلك الأنواع الأدبية التراثية قيمتها الجمالية.


معيار التعبير عن الذات و تصوير النفس الإنسانية

وقد تدان المقامة على أساس معيار جمالي معاصر يتمثل في أن الأدب الحقيقي الجدير بالتقدير هو الأدب الذي يتغلغل في تصوير النفس الإنسانية ويفسح المجال للتعبير عن الذات الإنسانية بوصف وتحليل عواطفها ودقائق حركاتها النفسية. يقول شوقي ضيف:"وكأنما ألجموا عقولهم وأطلقوا ألسنتهم، فلم يتجهوا بالمقامة إلى وصف حوادث النفس وحركاتها، ولا إلى الإفساح للعقل كي يعبر عن العواطف ويحللها، وإنما اتجهوا بها إلى ناحية لفظية صرفة؛ إذ كان اللفظ فتنة القوم، وكان السجع كل ما لفتهم من جمال في اللغة وأساليبها، وكانت ألوان البديع كل ما راعهم منها ومن أسرارها."

1.jpg


(ج) معيار السرد القصصي الحديث

لم يكتف أحمد حسن الزيات باستخراج مكونات المقامة عند تعريفه لها بقوله إنها "حكاية قصيرة أنيقة الأسلوب تشتمل عل عظة أو ملحة." بل آثر أن ينظر إليها في سياق أساليب القصة الحديثة؛ يقول: "لم تراع[المقامة] قواعد الفن القصصي فيما كتب من هذا النوع، فلم يعن كاتبو المقامات بتصوير الحكايات وتحليل الشخصيات، وإنما صرفوا همهم إلى تحسين اللفظ وتزيينه."
وانتهى محمد يوسف نجم في سياق مقارنته المقامة بالقصة الحديثة إلى أن "العنصر القصصي فيها ضعيف، إذ إنها تخلو من أهم مقومات الأقصوصة، وهي الحادثة الواحدة، الحسية أو الروحية التي تدور حولها أعمال الأشخاص، كما أنها تخلو من الشخصيات القصصية الحية التي يعرض لها الكاتب ويحللها ويدرس أجزاء نفسها، كما أن أسلوبها المقيد المتكلف يذهب ببقية الحياة الباقية فيها، وبوحدة تأثيرها في نفس القارئ".
هذه نتيجة طبيعية لمقارنة جائرة وغير متكافئة؛ وهي لا تجوز إلا في سياق الرد على من تورط في وهم المطابقة بين المقامة والقصة الحديثة، أما توصيف المقامة على أساس المقارنة أو المفاضلة، فإنه غير جائز، ويتناقض مع التصور الحضاري للأنواع الأدبية ومع التصور التاريخي لها؛ فجميع الأنواع والأشكال الأدبية هي نتاج سياق جمالي مرتبط بفترة تاريخية معينة، كما أنها تتكامل في التعبير عن القيم الإنسانية، ولا ينوب بعضها عن بعض.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى