أحمد كفافى - خواطر على هامش الصراع فى غزة

لن أطيل ولن أسهب فى الحديث عن الأحداث التى تجرى حاليا فى غزة منذ قرابة الشهر..أحداث تحولت خلالها المدينة الفلسطينية إلى أرض خراب..كومة من الحطام و الجثث والمشردين وهذا ليس بجديد على الغرب الاستعمارى البغيض الذى ارتكب فظائع أبشع من مذابح غزة على طول تاريخه بدءا من الهنود الحمر ثم الأفارقة السود قبل الآسيويين فى اليابان و فيتنام وانتهاءا بالعرب فى العراق وسوريا واليمن مؤخرا..ناهيك عن محاولات الإبادة المفزعة فى حرب الاستقلال بالجزائر وتدمير بورسعيد المدينة الباسلة عام 56 تدميرا وحشيا جعل اسمها يطلق على كل شارع من شوارع المدن العربية..
ثم جاء ضرب مدن القناة عام 1967 وجميعها تزيد ضراوة عما يحدث حاليا فى غزة لكن جميعها تتشابه فى أن الفاعل واحد: قوى الاستعمار الغاشمة القديمة والجديدة التى اعتادت منذ تفردها بالعالم منذ القرن السادس عشر على سياسة إبادة الشعوب، يعينها على ذلك تفوقها التكنولوجى، فلقد احتلوا العالم فى وقت كان جنوب المعمورة مازال يحارب بالسيف والقوس والرماح وكانوا هم يحاربون بالبنادق والمدافع فكانت المعركة غير متكافئة بالقطع. سأل مقدم برامج تلفزيونى دونالد ترمب رئيس الولايات المتحدة السابق: "ألا تعتقد أن بوتين قاتل"، فما كان من ترامب إلا ورد قائلا: "وهل تعتقد أننا أبرياء! لقد قمنا بافظع من ذلك منذ عدة سنوات فى العراق.."
لكن فى تلك المرة يوجد اختلاف واضح وهو أنه وللمرة الثانية تقيم وسائل التواصل الاجتماعى العالم على قدم وساق..تقيمه ولا تقعده.. كانت المرة الأولى عند إندلاع الثورات العربية عقب يناير عام 2011 والتى تأثرت بها إسرائيل نفسها فراح شعبها يخيم فى الشوارع احتجاجا على مظالم حكوماته.. أما الثانية فكانت عقب السابع من أكتوبر الماضى حينما هاجمت قوات حماس الجانب الإسرائيلى وراحت صواريخها تدك المدن الإسرائيلية دكا أمام مرأى ومسمع العالم أجمع...
فى الماضى شاهدنا الإنتفاضات الشعبية وضرب المخيمات الفلسطينية من جانب إسرائيل: حوادث أصبحت شبه معتادة بعد أن تكررت مرارا..ربما من كثرة تكرارها تهمشت القضية الفلسطينية..أما اليوم فغزة محط أنظارالعالم بعد أن شنت حربا شعواء أفقدت الدولة العبرية توازنها، ولا أدل على ذلك من ذلك الضرب الإنتقامى المستمرلغزة وتحرك الأسطول الأمريكى وبعض الأساطيل الأوروبية لشرق المتوسط فيما أطلق عليه البعض ( الحملة الصليبية التاسعة) ثم الإصرار على محاولة طرد شعب بأكمله إلى أرض غير أرضه ببأسلوب النكبة القديم...
كل ذلك مذاع على القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعى لحظة بلحظة، ما دفع الشعوب الغربية مسحيين ويهود للخروج بأعداد مذهلة فى الشوارع إحتجاجا على تلك المهزلة الإنسانية..لعل أبرز تلك الاحتجاجات كان أمام البيت الأبيض بواشنطن..ثم فى قلب باريس التى تجرم المظاهرات ضد اللاسامية بموجوب القانون لكن اضطرت الحكومة الفرنسية لتعديل القانون خوفا من انفجار العنف..إنها المرة الأولى التى تثير فيه وحشية إسرائيل الرأى العام العالمى بطريقة عملية...
ولم يقف الأمر عند هذا الحد فلقد علت الأصوات من داخل أسرائيل نفسها فيكتب الصحفى الإسرائيلى جدعون ليفى فى صحيفة (هآرتس): "لا يمكن حبس مليونى إنسان دون أن يكون لذلك ثمن قاس..وراء كل ذلك العنجهية الإسرائيلية..التفكير بأنه من المسموح لنا ارتكاب كل شىء دون أن ندفع الثمن..." ويكتب أيضا الصحفى درور ميشعانى فى نفس الصحيفة: "لا لمحو وتدمير غزة..يجب الاعتراف بالهزيمة وعدم محاولة محوها على الفور بما سيبدو فى الظاهر انتصارا بينما فى الحقيقة سلسلة من الألم..."
فى الماضى كنت أجادل أصدقائى من الأمريكيين قائلا إن التأييد الأمريكى لإسرائيل لن يتوقف إلا إذا صرخ الشعب الأمريكى صرخة مدوية وقال بأعلى صوته ( لا)..نعم كانت وسائل التواصل الاجتماعى موجودة ولكن كانت القضية مهمشة وكانت الدنيا منشغلة بالثورات و الحروب فى العراق وسوريا وعلى داعش ثم أخيرا بروسيا ولم يكن أحد يتصور أن تلك السلسلة ستنتهى بغارات حماس التى سرقت انتباه الناس فى كل مكان وراحت تدعو للتفكير فى تغيير موازين القوى بعد أن شاهد عالم يؤمن أن (التصديق يبدأ بالرؤية) ــ
Seeing is believing’
ما زلت أؤمن أن القرن الحادى والعشرين هو (قرن الشعوب) والفضل يرجع لربط البلاد جميعها بالشبكة العنكبوتية المنافسة للإعلام الرسمى..فلن تتوقف مساندة الولايات المتحدة لإسرائيل إلا إذا رفض الشعب الأمريكى..لقد بدأ الضمير الأوروبى فى الاستيقاظ والتعاطف مع غزة واعتقد إنها مسألة وقت حتى تستقر القناعة عند الجميع.
فى عام 48 كانت الشعوب العربية لتوها قد أفاقت من نير الاستعمار وظهرت قضية فلسطين فى الأفق ولم يكن هناك من وسائل اتصال متقدمة لتسجل الفظائع التى ارتكبها اليهود بمساندة الإستعمار فى إخلاء وطن من سكانه فيما عرفت بأشنع جريمة ارتكبت فى تاريخ البشرية. أما على الجانب الآخر فكان اليهود يطلقون عليها بركات رب موسى وهارون..فيما راح البروتوستانت فى الغرب الذين برءوا اليهود من قتل الميسح ــ راحوا يباركون خلق الدولة العبرية التى لن يعود المسيح إلى الدنيا إلا إذا كان هناك كيان اسمه (إسرائيل) ..فإذ لم تكن موجودة، فإلى أين يعود المسيح؟ وطبعا التناقض الساخر أكثر من واضح هنا، فهل يعود المسيح إلى أرض تسفك فيها الدماء وتهدم البيوت ويقتل فيها النساء والأطفال!هل أمر المسيح بذلك!
اليوم هناك تناقض آخر يفوق التناقض الدينى..فهذه قوة جيش منظم يقف أمام قوة اعتادت حرب الشوارع والعصابات ومع ذلك فهى تثير الرعب داخل قلوب اليهود فراحت إسرائيل تستدعى الحلفاء الأوربيين للوقوف بجانبها أمام من؟عصابات حماس! الواقع أن الأمر كان أكثر من مفاجأة..فكم من مرة يكثر الحديث عن قوة إسرائيل ومناعتها واليوم نرى ما نرى: جيش يضرب بلا وعى فى كل جانب وجهه خوفا من أن تصبح تلك نهايته.. وفى الحقيقة أن النهاية قد اقتربت فعلا..ليس بسبب حماس لكنها تعزى إلى عدة عوامل:
أولاــ أن اليهود لم يتصالحوا بعد مع فكرة أنهم اغتصبوا أرضا ليست أرضهم وأنهم امتلكوها منذ ثلاثة آلاف عام وللأسف هناك من المهاجرين العرب من يرددون هذ الهراء.
ثانياــ أنه لا يصح إلا الصحيح..فإلى متى تظل إسرائيل تفرض سيطرتها بالقوة ــ أى بقوة سلاح أمريكا! القوة الحقيقية لأى دولة ما هى إلا شعبها وإسرائيل بلد يفتقر إلى السكان وهم يدعون أن العداء لللاسامية لا يزال موجودا ليشجعوا الهجرة إلى إسرائيل وهذا غير صحيح. فيكف يكون هناك عداء من هذ النوع وأساطيل أوروبا وأمريكا تهب لنجدتهم!
ثالثاــ أن عرب 2023 غير عرب 1948 وهم على وعى أن أعمال إسرائيل تعوق مسيرة تقدمهم وأن الحروب فى إيران والعراق وسوريا واليمن ومصر ــ أى دول المواجهةـــ لم تكن إلا بوازع حماية الدولة العبرية. فإلى متى؟؟
رابعاــ إن الغرب لا يرغب أن يعترف أن عصر الإمبريالية القديم قد ولى وانتهى..فى الماضى كان تعداد الشعوب العربية قليلا، فلقد بلغ تعداد شعب فلسطين حوالى 800.000 نسمة عام 48.. أما الآن فتضاعف عشر مرات ليصبح 14 مليون تقريبا..فلو تخيلنا أن الأربعة عشر مليونا تواجدوا عام 48 فهل كان اليهود أو غيراليهود ليفكروا فى إحتلال فلسطين! وبالمثل كان تعداد الجزائر ثلاثة ملايين موزعة على بلد ضعف مساحة مصر، فهل كانت لفرنسا أن تجرؤ على إحتلال البلاد لو كان تعداها 44 مليون! لقد زاد تعداد شعوب العالم الثالث ليصبح ملايين مملينة، فهل يمكن للاستعمار حتى بشكله الجديد أن يصمد طويلا أمام تلك الجموع المستعبدة فى العالم العربى وإفريقيا وأمريكا الجنوبية!
لقد وصلنا إلى قناعة أن القوة لم تعد تفيد
الموقف اليوم لا يزال محوطا بالغموض والكل ينتظر..العالم أجمع فى ثورة أكبر من ثورة الدول العربية نفسها..لقد طال انتظارنا فى أن يفيق الضمير العالمى وربما تصبح تلك الصحوة أول خطوة من خطوات قلب المعايير.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى