محمد بلقاسم - الخلفيات اللسانية والأسس المعرفية والخصائص

تعددت مناهج الدراسة النقدية للأدب، وكان المنهج البنيوي من المناهج التي طبقت في مختلف الميادين... ولما انتشر هذا المنهج طبقه عدّة نقاد في الوطن ،فظهر ما يسمى بالمنهج البنيوي في اتجاهات مختلفة ،فترجمت كتب وألفت أخرى بالعربية وظهرت مقالات في هذا المجال . وحديثنا عن المنهج النقدي البنيوي تستوقفه أسئلة عدة لعل أهمها:

ما هي البنيوية؟ وماهي خلفياتها اللسانية وأسسها المعرفية وخصائص التحليل البنيوي للنصوص الأدبية؟ وهل استفاد نقادنا من البنيوية ؟ و كيف تسربت اللسانيات إلى نقدنا الأدبي؟وكيف تزاوجت اللسانيات والنقد الأدبي و إلى أي مدى تأثر النقد الأدبي بالبنيوية؟

حول البنيوية:

النقد الأدبي بقي لمدة طويلة يستمد مرجعيته النظرية من العلوم الإنسانية التي كانت في حالة تدهور، فكان لابد على هذا الأخير أن يتطور ليتقرب من لغة الظاهرة الأدبية التي يدرسها حتى جاء علم اللسانيات الحديثة التي تزعمها العالم السويسري " فرديناند دي سوسير "هذه اللسانيات التي جاءت بتصور جديد في آلية التفكير فقد "فرضت وجودها على كل ميادين المعرفة الإنسانية، لأنها أصبحت تبحث في أصول آلية الإنتاج العلمي التي تفرز بها كل العلوم اللغوية ولهذا امتد تأثير اللسانيات إلى النقد الأدبي ويعيد بناء جهازه المعرفي، وعمل على تغيير أدواته العلمية ومعجمها النقدي".[1]

فيمكننا القول أن هذا المنهج النقدي صار يطلق عليه اسم المنهج البنيوي،الذي شكك بعض الأدباء في قدرته على تناول ودراسة التراث، ولكن في آخر المطاف لم يبق لهم ريب في ذلك، لأن البنيوية كما يقول "محمد حناش" ستمكن القارئ العربي أن يضع نفسه في موضع قوة من حيث أنه سوف يتطرق إليه بأداة علمية مضبوطة يجعل تقديمه للآخرين بطرق سهلة تمكنه بدورهم من إعادة قراءة التراث ومسايرة ركب التطور "[2] و قد كان للسانيات الفضل الأكبر في جعل المنهج البنيوي قادرا على الخوض في دراسة التراث وأكثر معرفة بالظاهرة الأدبية، ولكن تأثير اللسانيات «قد كان ارتباطا بالمعرفة اللغوية من خلال اقترانه بالظاهرة اللغوية ذاتها فمن غير الصواب الظن بأن علم اللسانيات الحديث قد أنجب البنيوية بمحض التحول المنهجي وإنما الصواب أن اللسانيات قد أتاحت ظروف الوعي بما كان مستقرا في خبايا اللغة الطبيعية، فاللغة هي الرحم الأول لنشأة المعيار البنيوي».[3]

وقد اعتمدت البنيوية على عدة أطروحات:

" الدراسة إلتزامية و الدعوة إلى القراءة من الداخل.

فكرة موت المؤلف أو أرجاؤه: لكن هذا لم يلق ترحيبا لدى النقاد.

الاهتمام بمستويات النص "[4]

ومن بين من لا يؤمن بفكرة المؤلف البنيوية الشكلانية فهي لا تؤمن إيمانا مطلقا بالمؤلف هذه البنيوية التي تزعمتها الشكلانية الروسية تحت لواء «فلاد يمير بروب» الذي حلل أقاصيص المغامرات إلى أجزاء ووظائف في كتابه مورفولوجية الحكاية فالوظيفة «هي عمل شخصية حدّدت من حيث مدلولها في مجرى العقول»

و انصرف كذلك إلى دراسة التحولات السردية في القصص العجيبة، وعلى صعيد آخر يدرس الشكليون توزع الوحدات الصغرى داخل القصيدة و يعينون أشكالا تختص بوزن الشعر فيسمونها بالرتب الإيقاعي، فالشكلانية تهتم بدراسة أدبية الأدب .

إن التأثير الذي تركته كتابات هؤلاء أنشأ تيارا مماثلا في فرنسا هو الشكلانية الفرنسية فبذل جهدا كبيرا في دراسته النص و عرّف البنيوية بأنها علم الأدب. وحسب هؤلاء،فالفعالية النقدية لا يمكن أن تعبّر عن خطاب مستنبط في خطاب آخر، هي إضافة شيء بالضرورة إلى النص باعتبار الناقد يقول شيئا لا يقوله له الأثر المدروس ولدواعي أنه يقول الشيء ذاته و بما أن الناقد ينشأ كتابا جديدا فإنه يحدث الكتاب الذي يتحدث عنه فدور الناقد يتركز في تأليفه لغة يستطيع فيها أن يكتشف فيه النص المدروس، ثم سعى الأدباء إلى إقامة علم لغة خاص بالخطاب، أخذوا يطمحون إلى تأسيس علم الأدب يكتفي بذاته لا إلى تحليل النص الأدبي تحليلا داخليا و قد نص «تودوروف» على تأسيس البنيوية فيما يلي:

1- النص الأدبي هو الموضوع الجوهري للنقد.

2- النص نتاج لغوي قبل كل شيء ولا ينبغي دراسته إلا من هذه الناحية.

3- النص وحدة مغلقة يجب دراستها من الداخل وتحديد معطياتها الخاصة والبحث عن قوانينها.

4- دراسة النص بوصفة شبكة معقدة من العلاقات ذات الدلالة التي تقوم بينها.

إن التحليل البنيوي يركز على الجانب اللغوي ويتعمق في دلالات الألفاظ ومعاني الكلمات، وبما أن البنيوية الشكلية اقتصر اهتمامها على الناحية الداخلية للنص الأدبي ورفضها لكل سياق خارجي مما جعلها لا تلقي الرواج والتجاوب لدى النقاد، وهكذا حتى ظهر اتجاه البنيوية التكوينية الذي حاول الجمع بين الاتجاه الاجتماعي والاتجاه البنيوي فقد كان هذا المنهج بديلا للبنيوية الشكلانية، "فهي تقتنع بأن الأدب عالم مغلق على نفسه ومعزول السياق، كما أنها لم تهمل المادة الفنية، ولهذا راحت توازن بين البنى الذهنية والبنى الفنية وتركز على الوعي الممكن "[5]، والمنهج البنيوي لم يكتسح الساحة النقدية إلا بعد ظهور البنيوية التكوينية،وقد لقيت رواجا وإقبالا من قبل النقد العربي الحديث، وقد ظهرت دراسات كثيرة منها دراسة محمد بنيس ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب، فقد وضع لها عنوانا هامشيا يؤكد فيه أنها مقاربة بنيوية تكوينية لأنه يرى: " أن البنية التكوينية تتجاوز الدراسة الاجتماعية للمضمون دون الشكل عندما تعتبر أن قراءة النص تلزمنا أن تنطلق من النص ولا شيء غير النص "، فالبنيوية التكوينية تقوم في محاولاتها لقراءة المتن الإبداعي على مبدأين أساسيين هما: في الأول تركز على معاينة عامة تقوم على أن كل تأمل في العلوم الإنسانية لا يحدث من خارج المجتمع، أما الثاني فيقوم على أن الأفعال أجوبة شخص فردي أو جماعي، بهذين المبدأين يحددان العلاقة الجدلية بين القراءة الخارجية لكل عمل أدبي ومدى تفاعل هذا العمل مع القراءة.

ومجمل القول يتلخص في أن البنيوية عامة أخذت قسطا كبيرا من التطور في هذه الفترة في أوربا وأمريكا، وكان " بوسي " هو أول من طور الأفكار البنيوية في الأنتروبولوجية اللغوية في أمريكا وحذى حذوه تلميذه " سادير " الذي أخرج كتاب اللغة عام 1921، ثم جاء " بلوم فيلد " وأخرج كتاب اللغة أيضا عام 1931، وحين هاجر ياكبسون إلى أمريكا استقر في جامعة " هارفارد " وجعلها مركز الأفكار حلقة براغ، وبعد هذا كله ظهر منهج مشترك ساد الفكر الأمريكي كله تحت اسم البنيوية يتميز بالتحليل الشمولي القائم على مقاييس موضوعية ومن جهة نظر البنيوية تركز الدراسات الأدبية بصفة عامة على تحليل العمل الأدبي إلى عناصره المكونة له.

1- الخلفبات الأولي للبنيوية:

1/1- الخلفية اللسانية:

أ / دي سوسير:لفهم البنيوية لابد من العودة إلى أصولها الأولى، للتعرف على بذورها في الفكر الحديث وتطورها في مختلف العلوم الإنسانية والدراسات النقدية والأدبية. والكشف عن أهم معالمها التاريخية،ولقد انطلق العالم السويسري فرديناند دي سوسيرفي تأسيس النظرية البنيوية وهو مؤسس اللسانيات الحديثة وإليه يرجع الفضل في تحديد المنهج الحديث بإبراز تفاصيله وحدوده، كما أنه قام بوضع الأسس التي مهدت لتحول البحث اللساني من المنهج التاريخي المقارن إلى البنيوية، فقد طرح في بداية كتابه قضية " بنية اللغة " وهي قضية لم يعرها الباحثون قبله اهتماما يذكر.

تلقى دي سوسير تدريبه اللغوي على يد أعلام النحاة المحدثين، ولكنه خرج عليهم واختط لنفسه اتجاها مختلفا وكان لنظريات " دوركايم" في علم الاجتماع أثر قوي عليه.

ولم تكن إسهاماته الشخصية بالهينة خاصة مفاهيم الدال والمدلول والمرجع واعتباطية الدليل. إذ لأول مرة تدرس اللغة من جانبها الشكلي إذ أننا لا نعتقد يوجد عالم لغوي أو ناقد أدبي لم يقرأ له فقد كانت"...المدارس النقدية بعد البنيوية، حتى في تمردها على بعض مقولاته جاءت تطويرا لنظرياته"[6] .

وفي بحثه اللغوي استطاع أن يكشف أن المفردة اللغوية ليست معادلا بسيطا ومباشرا حيث " إن التلفظ الصائت يرسل صورة سمعية، هذه الأخيرة تصل إلى الأذن تنطبع على الحواس حيث تنتقل أو تتحول إلى مفهوم "

وبهذا اكتشف أن المفردة اللغوية بنية فسماها علامة وقال: " إن العلامة ليست بسيطة بل هي مكونة من مفهوم سماه مدلول وصورة سمعية سماها دال، فالعلامة إذا ليست هي الدال بعينه ولا المدلول بذاته، بل هي بنيتها، وهذا متعلق بالمفردة ولكن أضاف إليها نشاطا آخر هو نشاط الربط والتنسيق "[7] بحيث تصبح اللغة نسق من العلامات يمكن تشبيهها بورقة يمثل الفكر وجهها الأول والصوت وجهها الآخر.

لقد خالف "دي سوسير" النظريات اللغوية السابقة فلم ينظر إلى اللغة من حيث هي تعبير عن الفكر بل هي نسق من العلم، وافترض وجود علاقة جدلية بين الدال والمدلول.

لقد ابتعد دي سوسير عن النظر في اللغات من وجهة النظر التاريخية أو المقارنة " وأكد أن أفضل منهج لدراسة اللغة هو أن نحاول وصفها كما هي في فترة زمنية محددة، وأن نصل من هذا الوصف إلى القواعد أو القوانين العامة التي تحكمها وأن نتوصل إلى معرفة البنية أو التركيب الهيكلي لها "[8].

وإذا كانت كلمة بنيوية تعني شيئا معينا أو تستجيب لشيء ما فإنها تعني طريقة جديدة في طرح وتفسير المشاكل في العلوم التي تناقش العلامة.

ب / بلومفيلد: يبدو لكثير من علماء اللسانيات المعاصرين أن بلوم فيلد كان حجر الأساس في بناء النظرية البنيوية في علم اللسانيات ويتجلى ذلك في كتابه " اللغة " ففي الوقت الذي بدأ فه عمل سوسير يظهر ويعرف في أوربا، ظهر بلوم فيلد واقترح بطريقة مستقلة عن الدراسات الأوربية نظرية عامة في اللغة.

واهتمت السلوكية " بالفكرة القائلة بأن الفروق بين البشر محكومة بالبيئة التي يعيشون فيها، وأن أي سلوك هو رد فعل، أي يحدث نتيجة استجابة للمثير الخارجي "[9] عند اقتحام السلوكية الميدان اللساني أصبحت الأشكال اللغوية تحلل كما هي ملحوظة في الواقع اللغوي دون أدنى اهتمام للبنية الضمنية.

تطورت النظرية السلوكية على يد اللسان الأمريكي بلوم فيلد الذي كان جادا في تطبيقها ومتهيئا لنتائجها وانعكاساتها على وصف بنية النظام اللساني وتفسيرها آليا.

إن الدراسة البنيوية كما أكد بلوم فيلد هي دراسة شاملة للغة تتناولها من جوانبها كافة حيث يؤكد أن الدراسات اللسانية السابقة للدراسات البنيوية هي دراسات ضالة غير مبنية على أسس علمية صحيحة.[10]

إن أصعب مرحلة من مراحل الدراسة اللسانية على حد رأي بلوم فيلد هي تلك التي تنظر إلى اللغة على أنها شكل من أشكال السلوك الفيزيولوجي، على عكس الدراسات اللغوية السابقة المهتمة بالتحليل الخارجي للغة كالتحليل الكتابي والتحليل الأدبي.

"إن اللغة بالنسبة له هي سلوك فيزيولوجي اتجاه مثيرات خارجية "[11].

إن التحليل اللساني لهذا الحدث السلوكي الفيزيولوجي يتمثل في هذه العملية:

1- هناك أحداث واقعية سابقة لعملية الكلام.

2- العملية الكلامية.

3- هناك أحداث واقعية لعملية الكلام.[12]

وهكذا نرى أن التحليل اللساني هو تحليل سلوكي.

ولقد اتبع بلومفيلد وأتباعه المنهج الوصفي وأصبح طريقهم الوحيد في البحث اللغوي، حيث قام بتطبيقه على بعض اللغات الإنجليزية وعليه فقد بلورت البنيوية الأمريكية المنهج الوصفي للغة ونقصد به وصف اللغة في حقبة زمنية محددة دون معايير مسبقة "فلا لغة أجمل من لغة أخرى، ولا صوت أجمل من صوت آخر ولا لهجة أقوى من لهجة أخرى".

كما تميزت البنيوية بالإصرار على الصيغة الموضوعية للدراسة وبإخضاع مادة الدرس للفحص المخبري. وبذلك تكون البنيوية قد سايرت الموجة الموضوعية التي سادت معظم الحقول المعرفية في النصف الأول من القرن الخالي، وتطرفت كما تطرف غيرها.

1/2- المدرسة الشكلانية:

تعد المدرسة الشكلية الروسية الرافد الثاني من روافد البنيوية الكبرى بعد أن وضع سوسير حجرها الأساس.

ولدت هذه المدرسة أثناء الحرب العالمية الأولى ولم تعرف في أوربا وأمريكا " إلا بعد أن نشر كتابان أساسيان الأول لفيكتور إديش " Russid Foundlism" والثاني هو " Théorie de la littérature" ".[13]

وتألفت جماعة الشكلانيين الروس من مجموعة من شباب الباحثين كانوا طلبة للدراسات العليا بجامعة موسكو، ألفوا معا حلقة موسكو اللغوية عام 1915 وكان على رأسهم " رومان ياكبسون " وفي العام التالي تكون لهم جناح آخر بتأسيس عدد آخر من علماء اللغة ونقاد الأدب لجامعة أخرى عرفت باسم " أبوياز Opoyoz " وانتسب إلى هذه الحلقة شعراء أيضا: وبذلك ولدت الشكلية في هذين المركزين معا واعتبر جميعا في ما بعد من أشهر رواد الفكر النقدي.

وكانت القوة المحركة لهذه الجماعة تنبع من الطاقة النظرية والعلمية الكبرى التي تتفجر من بعض الشخصيات الأساسية في التشكيل مثل شخصية رومان ياكبسون رئيس الحلقة اللغوية.

كان مبدأ نوعية العلم هو المبدأ المنظم للمنهج الشكلي، لقد ركزت كل الجهود لوضع حد للوضعية السابقة حيث كان الأدب لا يزال حسب عبارة " فيسيلوفسكي " أرضا لا مالك لها، إن الشكليين في افتراضهم على المناهج الأخرى أنكروا، ليس تلك المناهج في ذاتها وإنما الخلط اللامسؤول فيها بين علوم مختلفة وقضايا علمية مختلفة ، فمنطلق الشكلية الروسية هو أن الناقد الأدبي عليه أن يواجه آثار نفسها لا ظروفها الخارجية التي أدت إلى إنتاجها فالأدب نفسه هو موضوع علم الأدب، ولم يكتف زعماء الشكليين بذلك بل قصدوا إلى تحديد مجال الدراسة الأدبية برفض العلوم المجاورة لها على اعتبار أنها عوائق مثل علم النفس والاجتماع والتاريخ الثقافي.

والنقد الأدبي في روسيا كان بحاجة إلى منهج جديد، ولم تكن الحركة الفنية الشكلية قادرة على تقديم مثل هذه المعونة النظرية، فاتجه صوب علم اللغة "على أساس أن محور الدراسة في تلك الآونة كان هو الشعر الذي يتميز بأنه فن من الطراز الأول، وأصبحت مشاكل لغة الشعر هي ميدان العمل المشترك بين النقاد المهتمين بالشكل اللغوي للشعر وبين علماء اللغة الذين كانوا في حاجة إلى مثل هذا التزاوج "[14].

قطع الشكلانيون كل اتصال مع التاريخ ووجهوا دراساتهم نحو اللسانيات لأنها علم يلامس الشعرية.

اعتمدت النظرية الشعرية عند الشكلانيين على مبدأين أساسيين هما:

أ‌- التأكيد على الوحدة العضوية للشعر.

ب- تصور العنصر المسيطر كخاصية تعد المحور المنظم للصياغة.

وعلى هذا فإن الشعر ليس مجرد زخرف خارجي يعتمد على الوزن والقافية ولكنه نوع متكامل من القول يختلف نوعيا عن النثعر ويحتوي في داخله على مجموعة من القيم والقوانين التي تنتظم لصمته.

على أن العامل البنيوي المسيطر في بيت الشعر هو الذي يكيف ويعدل بقية العناصر، ويمارس بالتالي تأثيرا حاسما على جميع مستويات هذا الشعر الصوتية والصرفية والدلالية هي النموذج الخاص بالإيقاع.

" فإخفاء الإيقاع كعامل أساسي موجه في لغة الشعر يؤدي بدوره إلى اختفاء خاصية الشعرالأساسية مما يبرر بوضوح دورالبناء في تكوين البيت الشعري "[15].

ومن خواص الشعر التي تميزه عن النثر القيمة الدلالية للكلمة في الشعر، طبقا للوضع الذي تحتله في نطاق النظم والوحدات الشعرية الأخرى المرتبطة بها بروابط أوثق وأقوى من روابط المقال العادي.

فالكلمة الشعرية يتم تلقيها ككلمة، وليس كمجرد تمثيل لموضوع مدلول عليه أو تفجير لشحنة عاطفية، وبهذا فإن الكلمات بتركيبها ومعانيها وشكلها الخارجي والداخلي معا، تكتسب ثقلا وقيمة في الشعر.

" وعلى هذا الأساس فإن أصحاب المدرسة الشكلية يعرفون لغة الشعر بأنها نظام لغوي تتراجع فيه الوظيفة التوصيلية إلى الوراء، وتكتسب الأبنية اللغوية قيمة مستقلة "[16].

1/3-حلقة بـــراغ:

ضربت المدرسة الشكلية المثل الذي أخذت تحتذيه بعض الأوساط العلمية، فقامت طائفة من علماء اللغة في " تشيكوسلوفاكيا " بتكوين حلقة دراسية، " وأخذوا يصوغون جملة من المبادئ الهامة التي تقدموا بها إلى المؤتمر الدولي لعلماء اللغة الذي عقد في " لاهاي " عام 1928 تحت عنوان " النصوص الأساسية لحلقة براغ اللغوية ""[17]، وظلت حلقة براغ تنتشر تباعا حتى عام 1938.

وإن كان زعيم هذه الحركة هو " ماتياس " فإن المحرك الأساسي لها هو نفسه مؤسس المدرسة الشكلية الروسية " ياكبسون " الذي تنقل بين روسيا وبراغ والسويد والولايات المتحدة الأمريكية، فأين ماحل بشر بآرائه وكان له دور فعال في نشرالوعي بالنطرية الجديدة وترسيخها في أوساط المثقفين.

ثم سرعان ما أدرك أن المناخ السائد في وطنه الأصلي سوف ينتهي بخنق نظرياته المستقلة فأخذ ينفث دعوته في الأوساط اللغوية، وجعل يطبق بعض مبادئ المدرسة الشكلية على الشعر التشيكوسلوفاكي، مما أذن بنجاح هائل في حلها، وقد التقت أفكاره عندئذ بأفكار المجموعة المحلية خاصة والأوربية عامة في وجوب تعميق الدراسة الأفقية الوصفية للغة الرأسية التاريخية، واتخاذ أسس وظيفية لهذه الدراسة يتم بها التزاوج بين البحوث الجمالية واللغوية، ومن هنا برزت أهمية القول الشعري.

التقط علماء حلقة براغ مشعل الدراسات اللغوية الحديثة الذي صب سوسير زيته ونسجت الشكلية خيوطه وأخذوا يتحدثون بشكل صريح متماسك عن بنائية اللغة، فيقول أحد منظريهم: " يمكن تحديد البنيوية على أساس أنها التيار اللغوي الذي يعنى بتحليل العلاقات بين العناصر المختلفة في لغة ما حيث يتم تصورها على أنها كل شامل تنظمه مستويات محددة "[18].

" وعلى هذا فإن علم اللغة البنيوي عند حلقة براغ يتصور الواقع اللغوي على أنه نظام سيميولوجي رمزي "[19]، ويحلل عملية الكلام قبل أن تصل إلى التعبير الواقعي بتتبع مراحلها المختلفة، فيميز بين إجراءين مختلفين وإن اختلط أحدهما بالآخر في عملية الكلام الآلية البشرية ولم يتضح إلا في الحالات التي تقوم فيها عائق ما دون إتمام تنفيذها، " أما أول هذين الإجراءين فهو التقاط العناصر الواقعية المحددة أو الذهنية المجردة التي تلفت انتباه الفرد لذا سيتحدث وإدراك إمكانية التعبير عنها بكلمات من اللغة التي سيستخدمها ويتمثل الإجراء الثاني في وضع العلاقة المتبادلة بينهما وبين الرمز اللغوي الذي يشيرإلى العناصرالمختارة بطريقة تشكل كلا عضويا فهو الجملة

ويمكن في الحالات القصوى بطبيعة الأمر اختيار كلمة واحدة لنفس الهدف، وتقدم حينئذ بدور الجملة دون أن تتركب مع كلمات أخرى.

فالثنائية الحادة التي أقامها سوسير بين اللغة والكلام لا تعدو في رأي علماء حلقة براغ أساسا واقعيا للبحث اللغوي فما كان يعتبره العالم السويسري كلاما لا يعدو أن يكون تعبيرات أو جزءا من تعبيرات ينبغي أن نلتمس فيها مجموعة القواعد البنيوية اللازمة لها.

وقد وقفت الحلقة ضد مدرسة سوسير فرفضت أن: " تضع حواجز لا يمكن تجاوزها بين الآني والزماني ". فجعلت للدراسة الآنية الأهمية الأولى إذ أن لهذه الأخيرة تأثير على الواقع اللغوي الفعلي.

أخذ كثير من باحثي حلقة براغ في دراسة القوانين التي تحكم بنية النظم الصوتية ويعتبر استكشاف هذا الميدان من أهم المكاسب العلمية التي أسهمت فيها الحلقة، خاصة وأنها استطاعت أن تتجاوز المرحلة الجزئية فنجد أحدهم يؤكد أنه إذا كنا نستطيع أن نصل إلى القوانين الصوتية عن طريق التجرـبي استقرائي فإن بوسعنا أن نتعرف عليها أحيانا عن الطريق الاستنتاجي المنطقي وهذا يضفي عليها طابعا مطلقا ويرى أن السبب في ذلك هو " خضوع علم الأصوات للبنائية العالمية المنتظمة فالعصر الذي نعيش فيه يتميز باتجاه الواضح في جميع العلوم، واستبعاد النزعة الجزئية وإحلال النزعة البنائية محلها وعلى هذا فإن علم الصوتيات لا يمثل ظاهرة منعزلة وإنما يشكل جزءا من حركة علمية عامة"[20].

"ويتولى ياكبسون في إطار حلقة براغ تنمية هذا الاتجاه البنائي في دراسة الصوتيات مشيرا إلى أنه لابد[21] أن يقوم على منهج متكامل غير منعزل إذ أن كل حدث صوتي يعالج على أنه وحدة جزئية تنتظم مع وحدات أخرى في مستويات مختلفة".

مع أن حلقة براغ قد اشتهرت في تاريخ علم اللغة بدراساتها الصوتية الدقيقة إلا أن دراسات كثيرة من نصوصها الأساسية تشمل بحوثا في لغة الشعر، ومن أهم معالمها:

1- لابد من وضع مبادئ وصف لغة الشعر من مراعاة طابعها الثابت وذلك لتفادي خطأ شائع في الخلط الدائب بينها وبين لغة التواصل والتفاهم والحديث العادية.

2- من خواص اللغة الشعرية أنها تبرز عنصر الصراع والتعديل بدرجات متفاوتة " وكلما اقتربت لغة الشعر من لغة التفاهم تعارضت مع التقاليد الشعرية، وكلما تواطأت مع هذه التقاليد ابتعدت عن حيوية الخلق العفوي"[22].

3- أن المستويات المختلفة للشعر من صرفية وصوتية ونحوية وبلاغية...إلخ، ذات صلات حميمة فيما بينها إذ يستحيل عزل أحدهما عن سواه كما تفعل عادة بعض الدراسات الأدبية.

4- تعبير القيم الصوتية في لغة الشعر هي نقطة الانطلاق في وصف البنية الشعرية.

5- تتميز لغة الشعر بوضوح مراتب قيمها، " ويعتبر الإيقاع هو المبدأ المنظم للعناصر الصوتية الأخرى، وهي بنية النغم وتشكيلات الحروف في مقامات موسيقية"[23].

6- إن الوسيلة الوحيدة لدراسة مستويات لغة الشعر بطريقة فعالة تتمثل في رسم شبكة توازي أبنيتها المختلفة مثلا: فتأثر القافية لا يقف عند حد النظام الموسيقي الصوتي إنما نجده وثيق الصلة بالنظم الصرفية والنحوية... إلخ.

7- المبدأ الأساسي في فن الشعر الذي يميزه عن أنظمة اللغة الأخرى " أن القصد فيه يرتكز لا على الدلالة وإنما على الرمز في نفسه على التعبير في ذاته "[24].

2- مصطلح البنيويــة:

2/1- مفهوم البنيوية:

لعل أصعب مهمة يتكلفها الباحث في أي دراسة هي تقديم تعريف دقيق للمصطلح الذي يعالجه، ولاشك أن البنيوية كغيرها من المصطلحات الغامضة التي تظل مفاهيمها مضطربة، فمن الصعب إعطاء مفهوم دقيق وشامل للبنيوية. ليس أدل على ذلك من التعريفات التي نجدها هنا وهناك.

إلا أن بعض النظريات الأساسية التي تكون قاسما مشتركا بين البنيوية في مجالات مختلفة تميزها عن غيرها.

ونشير إلى أن كلمة " شكل " وكلمة " بنية " هما مصطلحان لمعنى واحد. فالشكل عند الشكلانيين تحول إلى بنية عند البنيويين.

وكلمة بنيوية مشتقة من كلمة "بنية" وهي بدورها مشتقة من الفعل اللاتيني " Struere " أي "بنى" وهو الهيئة أو الكيفية التي يوجد الشيء عليها "[25]. والبناء لغويا أو معجميا هو الطريقة التي يتكون منها إنشاء من الإنشاءات أو شكل كلي

وقد تحدث النحاة عن " البناء " مقابل الإعراب كما تصوروه على أنه التركيب والصياغة ومن هنا جاءت تسمياتهم " المبني للمعلوم " و" المبني للمجهول "، وقديما قد تميز استخدام كلمة " بنية " في اللغات الأوربية بالوضوح، فقد دل على الشكل الذي يشد مبنى ما، ثم اتسعت حيث أصبحت تشمل الطريقة التي تتكيف بها الأجزاء لتكون كلاما.

وهناك تعريفات علمية مختلفة لكلمة " بنية " عند أهل البنيوية والشكلية منها تعريف"جان بياجيه" أن البنية هي نسق من التحولات له قوانينه الخاصة باعتباره نسقا ( في مقابل الخصائص المميزة للعناصر ) علما بأن من شأن هذا النسق أن يظل قائما ويزداد ثراء بفضل الدور الذي تقوم به تلك التحولات نفسها دون أن يكون من شأن هذه التحولات أن تخرج عن حدود ذلك النسق أو تهيب بأية عناصر أخرى تكون خارجية عنه "[26].

ومجمل القول أن: البنية نسق يوظف حسب قوانين دون مساهمة العناصر الخارجية فهي نظام تميزه مفاهيم الكل ( الكلية ) التغير (التحول) والانتظام الذاتي.

والسمة الكلية هو أن البنية لا تتألف من عناصر خارجية بل هي تتكون من عناصر داخلية خاصة بقوانين مميزة للنسق، والسمة (التحول) هي أن البنية لا يمكن أن تظل في حالة سكون مطلق بل دائما تقبل على التغيرات أما سمة (الانتظام الذاتي) هو أن البنيات تنظم نفسها بنفسها مما يحفظ لها وحدتها ويجعل لها قوانينها الخاصة.

و ليفي ستراوس يرى أن تحمل البنية أولا وقبل كل شيء طابع النسق أو النظام، فهي تتألف من عناصر يكون من شأن أي تحول يتعرض للواحد منها، أن يحدث تحولا في باقي العناصر الأخرى. وهكذا تكون البنية عند ليفي ستراوس تحمل أولا وقبل كل شيء طابع النسق أو النظام فهي تتألف من عدة عناصر إذا ما تعرض الواحد منها للتغير أو التحول تحولت باقي العناصر الأخرى. ذلك أنه رغم التنافر الظاهري الذي نلاحظه بين البنى والظواهر الاجتماعية في المجال الإنساني فإن هناك قواسم مشتركة وروابط تربط بينها.

يظهر هذا في مجال الأنتروبولوجيا فيبين العادات والتقاليد والطقوس المختلفة والأساطير شيء خفي حتى يكون بنيتها المشتركة.

فالبنية إذا عند البنيويين نسق من العلاقات الباطنية ( المدركة وفقا لمبدأ الأولوية المطلقة لكل الأجزاء له قوانينه الخاصة من حيث هو نسق يتصف بالوحدة الداخلية والانتظام الذاتي على نحو يقضي فيه أي تغير في العلاقات إلى تغير النسق نفسه، وعلى ما ينطوي المجموع الكلي للعلاقات على دلالة يغدو معها النسق إلا على معنى وهذا التعريف يؤدي إلى مجموعة من المسلمات " أولها: أن البنية هي ما نعقله من علاقات الأشياء لا الأشياء ذاتها. و ثانيها: أن موضوع هذا التصور يتصف بأنه حقيقة لاشعورية، لا تظهر بنفسها بل تدل عليها آثارها أو نتائجها. وثالثها: أن هذه الحقيقة الباطنية ( الكامنة في الموضوعات، أو الكامنة في عقولنا المدركة لها. بمعنى أدق) ورابعتها: أن هذه الحقيقة الآنية تلفتها إلى نفسها أكثر مما تلفتها إلى فاعلها .

2/2- البعد اللغوي للمصطلح:

لقد كثر الحديث حول البناء اللفظي السليم الذي يجب أن يكون عليه هذا اللفظ، وفي نهاية الأمر تداول كثير من النقاد العرب المعاصرين الاستعمال الخاطئ وهو بنيوية عوضا عن الاستعمال النحوي السليم الذي هو " بنية " وذلك كما تقول :

"في النسبة إلى "فتية" على القياس، وهو مذهب أبي عمرو بن العلاء، كما يمكن أن يقال "بنيوي" وهو أخف نطقا وأكثر اقتصادا للغة وهو مذهب يونس بن حبيب "[27].

ومن هنا لا ندري كيف ذهب الاستعمال النقدي المعاصر إلى هذا الخطأ الذي لا مبرر له "لأن البنيوية تعني أن الأصل " بنية " وذلك حتى يمكن قلب الياء الثانية واوا"[28]، وأما الذين سيقولون أن الخطأ إذا شاع أمسى استعماله حجة فإننا نجيبهم أن الخطأ لا يكون حجة لأهل الخطأ.

2/3- البعد المعرفي للمصطلح:

البنيوية مدرسة فكرية تقوم على " مجموعة من النظريات التي تأثر في العلوم الاجتماعية والإنسانية دراسة البيانات وتحليلها "[29].

ولقد تطورت في الأعوام الستين من القرن العشرين وكانت من أكبر الأعمال البنيوية في المجال النقدي التي كتبها " رولان بارت " و " ميشال فوكو " " ولعل أهم ما تقوم عليه البنيوية من الأسس الكبرى لفلسفتها أنها تتعامل مع اللغة والخطاب وترفض الإنسان "[30].

ويزعم مؤرخو البنيوية أن هذه المدرسة لم تأت من العدم إنما كانت لها خلفيات فلسفية وتاريخية كما أنها " ليست بصدد تقديم تعليمات للمجتمع المصنع بل هي تقدم تقويما للفكر المتوحش، وإنها لا تسعى إلى تعويض التاريخ بالأبدية ولا بالتغيير الكائن "[31].

ولعل من أكبر ما يميز البنيوية من الوجهة الفلسفية الخالصة أنها ترفض التاريخ لذي يقوم على مفهوم الزمن الذي لا تقبل به هي.

ولابد من تحديد العلاقة بين النزعتين النقديتين الكبيرتين:

1- تلتقي النزعة النقدية الماركسية مع البنيوية في عد المبدع ليس ذا أهمية وإنما يكون المدار في ذلك على إبداعه لا على ترجمة حياته.

2- تختلف النزعة النقدية الماركسية مع البنيوية في أنها تهتم بشكل الإبداع لا بمضمونه وتعد المضمون أمرا واقعا بالضرورة.

3- تختلف الماركسية مع البنيوية في الرؤية إلى شكل الإبداع ولغته ونسجه فهو في النزعة البنيوية كل شيء أما لدى الماركسيين شيئا مرتبطا حتما بالمضمون.

4-يربط الماركسيون شكل الإبداع بالظروف التاريخية المحتومة ولا يجوز فصله عن المضمون، على حين نجد أن البنيويين لا يحفلون بمسألة المضمون في الإبداع.

" إن النزعة البنيوية كما يلاحظ "جان ماري أوزياس" من حيث هي تيار نقدي، إنما نشأت حول نشاط الشكلانيين الروس فقد ترجمت مقالات من كتاباتهم إلى عدة لغات عالمية ولاسيما الفرنسية تحت عنوان "نظرية الأدب" "Théorie de la littérature" "[32]، ولم يتولد عن هذا التيار الشكلي ظهور التحاليل النظرية لمفاهيم مختلفة تختص بقضايا الأدب والنقد وفلسفتهما فحسب، إنما تولد عنه ظهور أعمال أدبية تمتاز بخصائص فنية جديدة لم تعهد من قبل في الأدب قد أثرت كتاباتهم هذه النزعة الشكلانية في أعمال "تودوروف" و"ياكبسون" خاصة مما زاد انتشارها في الغرب عامة.

وكل هذه الأنشطة الأولى للنقد البنيوي دعمتها وطورت مسيرتها مجلة " Tel quel " من خلال بلورة القضايا الأدبية الكبرى التي شرعت في معالجتها حركة الشكلانيين، إلى أن انتقل جملة من أصحابها إلى فرنسا وأسسوا هذه المجلة وتعد من أحدث المجلات عالميا والتي بدأت تعالج قضايا فكرية في غاية الأهمية مثل الأنا والخير والموت والحياة... و"تعني هذه العبارة حرفيا "كما يرد أو كما هو" وقد يعين مضمون هذه العبارة ثورة عارمة على المفاهيم التقليدية للنقد التي تتعلق بالكاتب في نفسه، والحياة التي تحيط من حوله، والمجتمع الذي ينتمي إليه، والزمان الذي يعيش فيه وهلم جرا من تلك العناصر التي كان النقد التقليدي يثقل بها كاهله"[33].

"فليس لنا من سبيل على النص الأدبي إلا إذا درسناه من خلال علاقته بنفسه فالنص لا يكون إلا لكيانه وحده "[34].

إن النقد كما يلاحظ ذلك "فاليري" أدب: ' موضوعه الأدب نفسه '، إن أي نص إبداعي موضوعه نص إبداعي آخر وثانيهما يكمل الأول وأولهما يكون علة في وجود الثاني، ولكن لا يجب أن نسلط أحد على الآخر.

إنه لم يعد هناك ما يسمح في رأي النقاد البنيويين الذين يطلق عليهم " النقاد الجدد" للنقد بمواجهة الإبداع الأدبي بالواقع من أجل الحكم بحقيقته، وإنما يكون هذا من شأن مصطلح النقد العلمي وذلك تبعا لتطور تقنيات الكتابة وتغييرها وليس انطلاقا من حب الملاءمة لمثالية بين الألفاظ وإذن فيجب أن يكون النص الأدبي مرجعا إلا لنفسه.

ولقد أمست هذه السيرة للنقد العالمي وبما فيها ما كتب من محاولات النقد العربي المعاصر هي الأكثر تبينا في معظم الممارسات النقدية المعاصرة.

" ولقد كان المشاركون من النقاد العرب في ندوة القصة العربية بمكناس المغرب نادوا بضرورة تبني هذا الموقف النقدي الجديد في التعامل مع النصوص السردية العربية"[35].

3- خصائص التحلــيل البنيـــوي:

3/1- النص وحدة دالة:

ينطلق البنيويون من مسلمة تقول بأن الأدب مستقل تماما عن أي شيء، إذ لا علاقة له بالحياة أو المجتمع أو الأفكار أو نفسية الأديب. فهم لا يهتمون بالبعد الذاتي أو الاجتماعي للأدب " إنه كيان لغوي مستقل أو جسد لغوي أو نظام من رموز أو الدلالات التي تولد في النص ويعيش فيه ولا صلة لها بخارج النص"[36]، وإن كانوا لا يعترضون جوهريا على التفسيرات النفسية والاجتماعية للأدب إذ من حق هذه العلوم أن تدرس الأدب كما تدرس أي أثر أو حقيقة إنسانية أخرى.

فإنهم يرفضون أن تمثل هذه الدراسات معيارا جماليا للأعمال الأدبية لأنها حينما تدرس لغة نص تتناولها كما تتناول الأعراض المرضية مغفلة طابعها الجمالي.

ينطلق البنيويون من ضرورة تركيز على الجوهر الداخلي للنص الأدبي والتعامل معه دون أية افتراضات سابقة من أي نوع مثل علاقته بالواقع الاجتماعي أو بالأديب وأحواله النفسية والاجتماعية لأنهم يرون " أن العمل الأديب له وجود خاص وله منطقه ونظامه أي أن له بنية مستقلة هذه البنية العميقة أو التحتية أو الخفيفة هي مجموع من العلاقات الدقيقة التي تألف فيما بينها شبكة من العلاقات وهي التي تجعل من العمل الأدبي عملا أدبيا، أي هنا تكمن أدبية الأدب"[37].

وينطلق البنيويون من مقدمات لها أهداف نقدية محددة يمكن تلخيصها في رفض المناهج النقدية السابقة لعجزها عن تحديد أدبية الأدب الخاص وعليه فإن مهمة الناقد هي التركيز على الجوهر داخل النص أو بنيته العميقة.

هذه البنية العميقة كما يقولون يمكن الكشف عنها من خلال التحليل المنهجي المنظم، بل أن هدف التحليل البنيوي هو التعرف عليها لأن ذلك يعني التعرف على الأدب نفسه.

ولا يعترف البنيويون بالبعد التاريخي أو التطوري للأدب إذ يرون بـأنه نظام من الرموز والدلالات التي تولد في النص وتعيش فيه ولا صلة لها بخارجه ، لهذا يعتبرون أية دراسة ذات منظور تطوري أو تعاقبي معوقة لجهود الناقد الراغب في اكتشاف الأبنية التي ينطوي عليها العمل الأدبي.

وإن كان الخطاب الأدبي يبني على اللغة فإن النص الأدبي ليس له جملة مركبة الذي يميزه عن الكلام العادي وكيفية تنظيم وحداته اللغوية.

" فرولان بارت " هو أحد رواد النقد البنيوي " يعتبر اللغة أساس العمل الأدبي وعنصر نجاح كل إبداع ويرى أن مهمة الناقد هي تقديم معنى للعمل الأدبي "[38].

وإن كانت البنية الكبرى للنص ذات طبيعة دلالية ومتعلقة بمدى التماسك الكلي للنص، فإن الذي يحدد إطارها هو المتلقي لأن مفهوم التماسك ينتمي إلى مجال الفهم والتفسير الذاتي ومايضيفه القارئ على النص.

3/2- القارئ كاتـب ثان:

بدأ مفهوم "الكتابة/القراءة" مع البنيوية واكتسب بعدا أوسع في تحليلات "ما بعد البنيوية" وكان التركيز على المفهوم مرتبط بانتقال بؤرة الاهتمام من المؤلف (بوصفه المصدر) والعمل (بوصفه الموضوع) إلى شبكة العلاقات التي ينطوي عليها النص، "فصارت "الكتابة" منظومة من القواعد التي ينطوي عليها تفاعلات نصية ( منفتحة دائما على التفسير حمالة لمعان لا تكف عن التولد وعلى نحو يؤكد إسهام القارئ في إنتاج الدلالة، وصارت القراءة قرينة النص المتعلق الذي ينطوي على معنى ثابت "[39] أما دور القارئ في تفسيره للنص والكشف عنه ليس بالأمر الذي يحتاج للإثبات فالقارئ يخلق ويكشف في الوقت نفسه فالإنسان يقرأ ويعيد القراءة دون أن يمسك بالمقروء بشكل نهائي، والعمل ذاته قابل للخلق بواسطة القراءة، إذ بدونها مجرد علامات على الورق،والقارئ يلعب دورا رئيسيا في الكشف عن خبايا النص من خلال قراءته له.

وأصبحت القراءة متعددة لها نظرياتها المختلفة ة تقود إلى نتائج تتلاءم مع الافتراضات الأولى التي يضعها القارئ كما أنها تكشف عن ما هو باطن النص وهذا الكشف قد يختلف من قارئ إلى آخر في نظرتهما للنص الواحد.

ولذا لا سبيل إلى إيجاد قراءة موضوعية لأي نص " وستظل القراءة تجربة شخصية كما أنه قد لا نجد تفسير واحد لأي نص وسيظل هذا الأخير يقبل تفسيرات متعددة بتعدد قراءاته، وبتعدد القراءات يتجدد الكشف بمعطياتها الإشارية.

وكيف لا تتعدد قراءات النص الواحد وقد قال بعض البنيويين بوجود ما يسمى القارئ الممتاز الذي يكشف خبايا النص والنفاذ فيه من خلال خبرته ومعرفته فهو لا يقرأ وإنما يفسر ويكتب.مما أدى ببارت في سنة 1968 إلى إعلانه عن موت المؤلف.

3/3- البنيوي في مقاربة موضوعه:

لعل أول خطوة في التحليل هي تحديد البنية أو النظر إلى موضوع البحث كبنية أي موضوع مستقل حيث أن التحليل البنيوي يقف عند حدود اكتشاف هذه البنية في النص الأدبي فحيث يتم التعرف على بنية النص أو نظامه لا يهتم التحليل البنيوي بالعوامل المؤثرة في تشكيله لهذا يرى بارت وتودوروف وهما من أبرز رواد النقد البنيوي أن التعرف على بنية النص مقصود لذاته.

فالتحليل النصي يبدأ من البنية الكبرى وهي تتسم بدرجة قصوى من الانسجام والتماسك. والتماسك اللازم للنص ذو طبيعة دلالية وهذا التماسك يتميز بخاصية " خطية " أي أنه يتصل بالعلاقات بين الوحدات التعبيرية المتجاورة داخل المتتالية النصية.

وتصبح المتتالية متماسكة دلاليا عندما تقبل كل جملة فيها التفسير والتأويل في خط داخلي يعتبر امتدادا بالنسبة لتفسير غيرها من العبارات الماثلة في المتتالية، ومن هنا فإن مفهوم النص تتحدد خصائصه بفكرة التفسير النصي، أي تفسير بعض أجزائه بالنسبة إلى مجموعها المنتظم كليا فالخطوة الهامة في تحليل العلاقة بين الوحدات في المتتالية النصية مرهونة بالكشف عن البنية الكبرى.

كما تقوم بعض التحليلات باستدعاء رموز أسطورية تلتقي عندها جميع الحركات وتصدر عنها أغلب الأفعال، فتصبح بمثابة الجدار الذي يسد بنية النص، ويمنحها ترابطا عضويا متينا يجنبها السقوط في التفكك والتجزء " حتى إذا استدعى الكاتب أو الشاعر شخصية " القرمطى " مثلا فإنه لا يستدعي القرمطى الذي عاش في فترة محددة من تاريخنا بل يستدعي شكلا ذا معان جاهزة تسكن ما قبليا ذاكرة الجميع "[40].

يستهدف التحليل إذن كشف عناصر البنية، التي هي النص الأدبي أي دراسة الرمز، الصورة، الموسيقى. وذلك في أنساق لغوية بإمكان الناقد أن ينظر في هذا النسيج مقاربا المستوى السطحي للبنية نافذا إلى مستواها العميق.

وعليه نجد الناقد البنيوي يخلق خطابا حول خطاب متأسس وعملية الخلق هذه في غاية الدقة لأن "لخطاب الثاني مطالب، بأمرين يجب أن ينفذ إلى دواخل الخطاب الأول " النص الأدبي " يفككه ويعيد تركيبه من ناحية، ويحافظ في كل ذلك، على خصوصيات ذلك الخطاب من ناحية أخرى، لأنه إن ركبه بطريقة تسقط أدبيته يكون قد ألغاه وخلق بدله وجودا وهميا لا يمت إلى أصله بأي صلة "[41].

ولا من المؤكد أن هذه الخطوط العريضة التي ميزت التحليل البنيوي للنصوص الأدبية، لانستطيع معها تحديد منهج واحد للتحليل البنيوي فتلك غاية بعيدة المنال بحكم الطرق المتعددة التي اتبعها البنيويون، ولعل السبب راجع لكون التفكير البنيوي لم يتطور باتجاه واحد، فكل ناقد حلل فكرة أو ثقافة أو موضوعا أو نصا حسب نظريته واتجاهه،ولكن رغم اختلاف الطرق تبقى دراسة البنية هي الهدف المقصود.

الإحالات

[1]انظر: محمد حناش: البنيوية في اللسانيات – دار الرشاد الحديثة – المغرب، ط1 ، ،1980 ص 6

[2]نفس المرجع، ص 20

3 المرجع السابق ، ص 21.

4 محمد بلوحي: الخطاب النقدي المعاصر من السياق إلى النسق. دار الغرب للنشر و التوزيع – وهران – ط 1، 2002 ،ص 88-89.

[5]المرجع نفسه، ص 91

[6]عبد العزيز حمودة: المرايا المقعرة نحو نظرية نقدية عربية، سلسلة علم المعرفة، الكويت، 2001، ص 201

[7]حكمت صباغ الخطيب، (يمنى العيد): في معرفة النص دراسات في النقد الأدبي، دار الآفاق للنشر-بيروت- ط3-1985 ، ص 28

[8]نايف حزما، أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة، سلسلة علم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ص 108

[9]المرجع السابق، ص 28

[10] أحمد حساني، مباحث في اللسانيات، ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر، 1999 ، ص 151-152

[11]مازن الوعر، قضايا أساسية في علم اللسانيات الحديث: ط1-دمشق-دار الطلاس 1988، ص 69-70

[12]المرجع السابق، ص 70

[13]صلاح فضل: نظرية البنائية في النقد الأدبي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط3 ،1985، ص 45

[14]صلاح فضل، نظرية البنائية في النقد الأدبي، ص 61

[15]المرجع السابق، ص 70-71

[16]صلاح فضل، نظرية البنائية في النقد الأدبي، ص 78-79.

[17]نفس المرجع، ص 108.

[18]صلاح فضل، نظرية البنائية في النقد الأدبي، ص 110

[19]نفس المرجع، ص 111

[20]صلاح فضل، نظرية البنائية في النقد الأدبي ص 115

[21]نفس المرجع، ص 116

[22]صلاح فضل، نظرية البنائية في النقد الأدبي ص 118.

[23]نفس المرجع، ص 113

[24]نفس المرجع، ص 120

[25]صلاح فضل، نظرية البنائية في النقد الأدبي ص 136

[26]إبراهيم زكرياء، مشكلة البنية، مكتبة مصر، القاهرة 1976، ص 30

[27]عبد المالك مرتاض، في نظرية النقد، ص 190

[28]المرجع نفسه، ص 191

[29]عبد المالك مرتاض، في نظرية النقد، تها ص 192

[30]المرجع نفسه، ص 192

[31]المرجع نفسه، ص ص 192

[32]المرجع السابق، ص 194

[33]عبد المالك مرتاض، في نظرية النقد، متابعة لأهم المدارس النقدية المعاصرة ورصد لنظرياتها ص 196.

[34]المرجع السابق، ص 196

1نفس المرجع، ص 199

[36]شكري عزيز ماضي: محاضرات في نظرية الأدب، دار البعث، ط1، 1984، ص 139

[37]صلاح فضل، نظرية البنائية في النقد الأدبي، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت ط:3 1405هـ 1975هـ ص 314

[38]إيديت كيزويل، عصر البنيوية من ليفي شتراوس إلى فوكو، ترجمة جابر عصفور، بغداد، الطبعة الأولى، 1985. ص 190 – 191.

[39]نفس المرجع، ص 271

[40]صلاح فضل: بلاغة الخطاب وعلم النص، لونجمان للنشر لبنان، ط1، 1996، ص 17

[41]محمد لطفي اليوسفي، في بنية الشعر العربي المعاصر، سراس للنشر، تونس، 1985 ،ص9


* Revue Al Athar

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى