مقدمة لنظرية الخبر عند الجاحظ التعريف والتأسيس - 4 - د. الأخضر السوامي.. ترجمة: د. محمد مشبال و د. عبد الواحد التهامي العلمي

مقدمة لنظرية الخبر عند الجاحظ
التعريف والتأسيس 4


مقدمة:
تسعى هذه الدراسة إلى تناول الخبر ونقده في فكر الجاحظ ومنظومته. لا يتعلق الأمر هنا بدراسة أفكار الجاحظ ونظرياته في كل مظاهرها وأشكال تطورها، بل إننا سنحدد هدفنا بشكل متواضع في النظرة الشاملة إلى الخبر، وتتبعه نحو المقصد الذي يقودنا إليه، ثم تحديد بعض النتائج النظرية والتطبيقية المترتبة على ذلك في منهج الجاحظ. إن هدفنا تحديدا هو فحص بعض الاقتراحات التي غالبا ما تسند إلى الجاحظ، وذلك من خلال دراستنا لمجال مخصوص هو مجال الأخبار حتى نتأكد من مدى وجود انسجام منطقي في فكر الجاحظ ووحدته.
هناك حكم متفق عليه قديما وحديثا يقر بافتقار الجاحظ إلى الانسجام، ولعل حكم رجيس بلاشير أن يكون أكثر وضوحا ودلالة في هذا السياق. يقول: " في كل الأحوال، يظهر لنا الجاحظ في كتاب ابن الفقيه جماعا للنوادر المزيفة والمزورة في الغالب، وجماعا للحكايات الغريبة، والقصص التافهة والسخيفة التي أتيح له جمعها كيفما اتفق، وبشكل عشوائي يفتقر إلى النظام. إن هذه الخطة في التأليف -إذا أمكننا قول ذلك- هي الخطة المتبعة عند الجاحظ"1


الخبر والسماع.
ما العلاقات الموجودة بين الخبر والسماع؟
تظهر فقرة من كتاب «الانتصار» للخياط أن السماع أوسع من الخبر. السماع في قوله، له ثلاثة طرق؛ الأولى القرآن، والثانية الإجماع، والثالثة الخبر الذي يؤدي إجباريا إلى العلم. وعليه، يكون من الأنسب تحديد مفهوم السماع تبعا للجاحظ بأنه مفهوم أكثر امتدادا من الحقل الذي يشمله هنا. فالسماع كل ما يصل إلى أذن الإنسان مثل الحكايات والنوادر والأحكام. وبعبارة موجزة كل ما هو تواصل.
الخبر والأمر.
يمكننا أن نتخيل، لأول وهلة أن الاقتران بين الخبر والأمر بعيد المنال. بيد أن الأمثلة الآتية تظهر أن ملفوظا يمكن أن يدرك باعتباره مفهوما يحيل إلى الخبر، أو على العكس من ذلك، يتعلق بمفهوم نقيض للخبر، أو على الأقل يتميز عنه.
يفسر السبكي في كتابه «طبقات الشافعية» الحديث الآتي: «كل أمر ذي بال لا يُبتَدأُ بالحمد أقطعُ»
الخبر ليس أمرا لأن الأمر إنشاء؛ إنه يُشكِّل قسما للخبر. وبصيغة أخرى كيف نعرِّف هذا الحديث النبوي؟ هل هو خبر بسيط، أم هو على العكس من ذلك أمر؟ وتأويل ذلك يؤدي طبعا إلى العمل بهذا القول سواء كان إجباريا أو لا، حسب القبول. ومن هنا كان النقاش وتضارب الآراء واختلاف وجهات النظر لمؤلف كتاب "الطبقات" مع منافسيه.
في علم النحو يمثل أيضا الخبر كالأمر مبدأ الكلام. وهكذا يمكن أن نقرب أيضا الخبر من الاستفهام. يقول ابن حزم: إن الخطاب ينقسم إلى أربعة أقسام؛ الأمر، والرغبة، والخبر، والاستفهام. غير أن التهانوي في "معجم الألفاظ التقنية" يقترح علينا مصطلحات ومتتاليات مختلفة كميا وكيفيا. إن الفروق هنا ليست ميسرة. وفي الختام يشرح القاضي عبد الجبار الآيتين 95 و 96 من سورة آل عمران:
»إن أول بيت وضع للناس للذي ببكّة مباركا وهدى للعالمين، فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا."
حيث يرى أن قوله: تعالى "ومن دخله كان آمنا" أمر على الرغم من صيغته الخبرية. وموقف القاضي هذا نفسه نعثر عليه في القرآن. وعلى النقيض من ذلك، نجد في موضع آخر من القرآن أن الأمر لا يتعلق بالخبر ولكن بالاستفهام. وفي نص أخر للقاضي، يشير إلى أن الآية ليست خبرا ولا استفهاما ولكنها تقرير.
نلاحظ، استنادا إلى هذه الأمثلة، تحولات مفهوم الخبر داخل شبكات الألفاظ التي يتبادل معها. إن الخبر ليس له مقام ثابت، إنه معلق؛ ولا يفهم إلا في سياق تأويل ملموس.
الخبر والفعل.
يربط نشوان بن سعيد في كتابه "حور العين بين الخبر والفعل"حيث يتبين لنا، على الأرجح أنه يوجد تعارض بين الفعل والخبر؛ فالفعل هو شيء قائم لا يمكن نكرانه، أما الخبر فلا يتعلق بالخصوص سوى بالكلام فقط، إلا في حالات استثنائية مخصوصة.
الخبر والشهادة.
لقد أشرنا، في الفصل المتعلق بمكانة الخبر في مؤلفات العلماء المسلمين وتصنيفاتهم، إلى العلاقة الموجودة بين أصول الدين وأصول الفقه؛ حيث تعد الروابط بين الخبر باعتباره تواصلا وإعلاما ورسالة، وبين الشهادة، روابط وطيدة. فما الشهادة إن لم تكن إعلاما؟ إن معايير صلاحيتهما تخضع لنفس الآليات، وإن كانت هناك بعض الاختلافات. لقد تركز اهتمام العلماء المسلمين على المقارنة بين رواية الحديث النبوي والدليل الشرعي. وهكذا يستخرجون نقط التشابه ونقط الاختلاف؛ ومن جهة أخرى، يطالبون بشروط وصفات خاصة برواة نوعين من الأخبار التي تتيح لنا فهم الشروط والصفات المكتسبة من قبل الجاحظ فيما يخص الخبر.
لنرجع إلى كتاب النووي المؤلف ذي الباع الكبير، والشارح لصحيح مسلم، وعلى وجه الخصوص تلك التوضيحات التي قدمها مارسي. إذ نجد في هذا الكتاب على الرغم من الدقة الكبيرة في »روايات« الحديث، والتنوع الكبير في الترتيب، عددا من المبادئ التي تعتبر أسسا؛ يتعلق الأمر هنا، وقبل كل شيء، بمفهوم العدالة.
1)- العدل هو المسلم البالغ، العاقل الذي يخلو من كل عيب يقوم على الفسق، ويخلو من أسباب خوارم المروّة.
ويضيف بعض المؤلفين إلى هذه الصفات عناصر أخرى مكونة للعدالة. فمثلا يفرض ابن حجر العسقلاني التقوى.
2)- الخبر: كل هذه الصفات المأخوذة لأجل الشهادة -التي تجعل شهادة الفرد مقبولة- توجد مرة أخرى في تعريف الرّاوي العدل. ويعد الإعلام أحيانا في مادة الخبر، جنسا من الشهادة الأكثر علوا والأكثر أهمية. ولقد أشار »مسلم« إلى الصلة الموجودة بين الخبر والشهادة.
تقتضي القواعد المشتركة لقبول الخبر والشهادة من الراوي والشاهد، أن يكونا مسلمين، عاقلين، بالغين، عدلين، ذوا مروءة إنسانية. ولكن الخبر يختلف عن الشهادة في أن الراوي لا يشترط فيه الحرية والذكورية والتعدد. كما أنه في الخبر، لا نواجه التهمة مثلما نواجهها في الشهادة. وبينما نرجح الرواية الأصلية، فإن الشهادة لا تخضع لهذا المعيار، وهو ما نواجهه في الشهادة طبعا.
ونتيجة لذلك، فإنه يقبل في الحديث الرواية التي ينقلها العبد، أو المرأة، أو الراوي المفرد، أو الأعمى، وإن كان هناك اختلاف بين الإمامين الشافعي ومالك في هذا الموضوع. وعلى العكس من ذلك، تقتضي القاعدة العامة في الشهادة رفض شهادة هؤلاء الأشخاص المذكورين باستثناء النساء، في بعض الحالات، بشرط أن لا تكون شهادتهن معزولة.
لقد بنى النووي هذه الأوامر جميعها على إجماع الأمة. وهكذا تشكل العدالة أحد أسس صلاحية الخبر والشهادة (إذا لم تكن وحدها في القرون الأولى للإسلام، وفي القرن الثالث على وجه الخصوص) اللذين يعدان معا أخبارا، على الرغم من انتمائهما إلى مجالين مختلفين كثيرا. إن الوضع الذي يسنده الجاحظ وأستاذه النظام للمعيار الأساس للعدالة سيكون شيئا آخر. وإن توضيح هذا المفهوم، هو نفسه في الأساس، قياس الفاصل الهام الذي يفصل نظرة الجاحظ عن الأطاريح التقليدية.
الخبر والأدب.
ما يهمنا أكثر هنا، بخصوص الخبر والأدب، ليس التعريف في حد ذاته على الرغم من تشعب مفهوم لفظ الأدب. وإنما يهمنا مضمونه أو على الأرجح مضامينه بالنسبة إلى بحثنا لأجل توثيق الخبر. سواء كان ثقافة عامة، أو معرفة متخصصة في مجالات معينة. ومهما كان تعريفنا للأدب، فإنه يدخل في إطار نقد الخبر باعتبار أن الأدب يمثل ملتقى المعلومات الواردة من مصادر متعددة، بالإضافة إلى أنه يجب التمييز بين ما هو تاريخي كليا وبين ما هو غير تاريخي. وداخل كل هذه المجموعة من المعارف الدنيوية، أو الدينية، أو شبه الدينية التي تشكل الثقافة الإنسية خلال القرن الثالث، التاسع الميلادي؛ وهو القرن الذي يمثل فيه الجاحظ الأديب الكامل والأمثل. ويجدر بنا في هذا المقام أن نأخذ بعين الاعتبار كل آراء المعاصرين في شتى الموضوعات التي سيقسمها العلم الحديث إلى مجالات متعددة، وعلوم حقة، وعلوم إنسانية.
هكذا نحصل على قائمة من الأخبار التي سجلها الجاحظ، وجمعها، وانتقدها أو لم ينتقدها ليترك لنا بذلك ما يشبه موسوعة طبيعية وإنسانية نقلها إلينا: كالأشعار، والأمثال، والخطب، والأحاديث النبوية، والمعتقدات القديمة والمعاصرة التي أدمجها في رؤيته إلى التاريخ الإنساني، حيث منحها معنى وأهمية.
الخبر والتاريخ.
وسواء كان الخبر جزءا مما سميناه آنفا الأدب، أو كان ذلك مصدرا للتاريخ باعتباره مجالا مستقلا كما يمثله كتاب الطبري، فإن ذلك لا يغير شيئا من وضع الخبر باعتباره إخبارا في معناه الواسع.



3.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى