محمد بن يوسف كرزون - المجموعة القصصية للقاص والشاعر : مصطفى الحاج حسين . (تل مكسور)

* القلم كائن مشاغب في يد الكاتب والشاعر مصطفى الحاج حسين، فهو لا يدعُكَ تتركُ حرفاً يغيبُ عنكَ إنْ أنتَ أردْتَ أن تقرأ شيئاً ممّا يسيل من أجله.
فالحروف تتقافز، والحركات تتراقص، وعلامات الترقيم تُزاحمُ بعضَها بعضاً، فتدخل النصّ ولا تتركه إلاّ بعدَ أن تمرّ عليه كلّه؛ فمهما كنتَ في حالة تعب أو حتّى إنهاك، فإنّ كتاب الأديب.مصطفى يأسركَ ويُنسيكَ كثيراً من معاناتك، ويدعُ ذاكرتَكَ تُعيدُ فتحَ الملفّات القديمة، لَكَ ولغيرِك:
في الحارة، وعندَ شيخ الكُتّاب، والمدرسة، وأماكن العمل وملاعب
الصِّبا والشباب...كلّ هذا لأنّ مصطفى قد فتحتها في قصصه الرشيقة الوثّابة القلقة.
ولعلّ ما في قصص هذه المجموعة هو المزج بين الواقعيّة التي أفرطَ في تصويرها، وبين الفنّ المدهش الذي ساقه، وبين الدّقّة المتناهية التي ساقها بكلمات قليلة؛ كلّ هذا في لغة فصيحة سهلة رشيقة متناغمة، تُحسُّ أنّها لغتَكَ التي تستعملها في يومِكَ لا غير، ما عدا بعض العبارات القليلة التي ساقها باللهجة العامّيّة الدارجة.
فعلى مدى تسع قصص، هي ما حوته هذه المجموعة لا ينفكّ قلم الكاتب يتنقّل من جوّ طفوليّ وحركات الطفولة ، في القصص الثلاث الأولى من المجموعة : قهقهات الشيطان، واغتيال طفولة (1)، واغتيال طفولة (2)، نرى فيها عفويّةالطفل الذّكيّ، الذي يريدُ أن يشاغب ويتحرّك، ويقرأ محيطه على هواه الطفوليّ، ليجعلنا نعيش معه طفولته لحظة بلحظة تقريباً، وهذه القصص الثلاث أشبه ما تكون برواية مصغّرة.
وفي القصّة الرابعة (صاحب حقّ)، يأخذنا إلى علاقات الشباب، بدايات الشباب، وكيف هي محكومة بالأمزجة والأهواء، وحدس الشخصيّة الرئيسيّة فيها كيف كان صادقاً.
ولكنّ القصّة الخامسة نقلتنا نقلة نوعيّة مختلفة، اختلطت فيها الأشواق بالوجدان بالواجب بالعُقَدالنفسيّة إلى الحدّ الذي يمكنكَ أن تصدّقَ أنّ (الحبّ أعمى)، وهو عنوان هذه القصّة العميقة الأبعاد والمدلولات.
وفي القصّة السادسة، (إقلاق راحة)، يسخر سخرية شديدة التهكّم بالبيروقراطيّة والمزاجيّة وابتعاد
الموظّف الحكوميّ عن واجبه الذي هو مسخَّر له، حقّاً لقد قدّمَ لنا قهرهُ، وذكّرنا بقهرنا الكثير الكثير في حياتِنا مع الدوائر الحكوميّة، إلى الحدّ الذي جعله لا يذكر لنا سبب ذهابه إلى المخفر، لأنّ ما حدثَ معه في المخفر كان أدهى وأمرّ. ولا ينسى أن يُعَرِّجَ على المواقف السلبيّة لشرائح كثيرة من مجتمعه من مواجهة مشكلة، أيّ مشكلة، تحصل مع أحد أبناء هذا المجتمع.
ولا يكتفي بتلك القصّة وحدها في التنديد البيروقراطيّة والفساد الإداري، إذْ يُتبِعُ تلكَ القصّة بقصّة عنوانها (ثأر)، تُظهر اهتمام أيّ موظّف حكوميّ بمصالحه الذاتيّة وبالقشور، والابتعاد عن الجوهر، حتّى في علاقاته الشخصيّة وفي حياته الخاصّة.
أمّا قصّة (تل مكسور)، فهي ملحمة سابقة لأوانها، تستقرئ الواقع، وتتنبّأ بالمستقبل، بشكل لا لَبْسَ فيه. فمن العار أن يفرضَ شاب متطفّل أتى من قريةٍ بعيدة، نفسَهُ على قريةٍ آمنة وادعة، فيخيفهم منه أمنيّاً، وهو معلّم، فكيف يجمع بين رسالة التعليم وغاية الاستغلال بأداة مزيّفة؟ ولكن في النهاية تنتفض له "خديجة" أرملة الشهيد، وتلقّنه درساً قاسياً أمام القرية جميعاً، وتهزأ منه ومن تهديداته.
ويختم المجموعة بقصّة عادل إمام حرمني من حبيبتي يمزج فيها بين الإمتاع والضحك، وبين تراجيديا اختيار الزوجة في مجتمعاتنا، وكيف أنّ الحبّ ممنوع، ويُظهر الكاتب السلبيّةَ الفظيعة التي يتّفق عليها المجتمع كلّه في تحريم الحبّ الذي ينتهي بالزواج، وتفضيل مجتمعاتِنا أن يتمّ الزواج عن طريق اختيار أهل الشاب لعروس يرونَ أنّها هي وحدها التي تناسبه، وأنّه لا يعرف الاختيار ولا يُحسِنه.
لن أمتدح هذه المجموعة القصصيّة، فالجوائز التي حصلت عليها أغلب قصص المجموعة وحدها كفيلة
بالنيابة عنّي بالمديح، ولا سيّما حصول قصصها على أكثر من جائزة في مسابقة الشاعرة الدكتورة سعاد
الصبّاح، هذا فضلاً عن حصولها على جوائز متعدِّدة من مسابقات اتّحاد الكتّاب العرب في سورية وفروعه.
ولكن أقول: أينَ مصطفى الحاج حسين في مسيرة الأدب العربي المعاصر، وهو الذي تجاوز في عمره الخمسين بأكثر من خمس سنين، وتجاوز عمره الأدبيّ الثلاثين عاماً أو أكثر؟ للأسف الشديد، ساحاتنا الأدبيّة العربيّة كانت مشغولة في غير هذا الأديب، أو كانت مشغولة عنه وعن غيره من الأدباء المبدعين المدهشين، لتلمّع مَنْ كان يريدُ أن يتسلّقَ على الحياة الأدبيّة تسلّقاً،
لمآرب لا علاقة لها بالأدب والإبداع الأدبيّ.
أحيّيكَ أيّها المبدع المتدفّق حيويّة، وأقول:
حمداً لله على سلامتِكَ، إذْ لم تدخل مستنقعات الأدب الموحلة، وبقيتَ زهرةً فوّاحةً عَبِقَةً بالأريج الصافي، تُبدعُ لنا شعراً، وتزيدنا من قصّكَ الجميل.
وأطالبُكَ برواية أو ملحمة، فأنتَ تمتلك كلّ مقوّمات الكتابة الروائيّة.
محمد بن يوسف كرزون .
بورصة – تركيا
* تل مكسور..
مضى على تعيين الأستاذ (حمدان العمر) أكثر من ثلاث سنوات، معلما وحيدا في قرية (تل مكسور)، دون أن يطلب نقله إلى قريته القريبة، بالرغم من حاجة أبويه العجوزين، إلى خدماته في الأرض التي يتملّكانها، فهو يرى نفسه كل شيء في (تل مكسور)، فإذا انتقل إلى قريته، ذهبت مكانته وهيبته ولسوف يضطر أن ينزل من عليائه، ليعمل في الأرض، بدافع الحياء والواجب أمام الحاح والديه.
لقد أوهم الجميع ـ بمن فيهم المختار ـ أبو قاسم بأنه رجل مسنود في المحافظة بأن أبرز لهم بطاقة غريبة، على أنها بطاقة أمنية، فانتشر صيته حتى شمل القرى المجاورة، كما اشتهر بقسوته وبطشه، وكثيرا ما كان يبتسم في سره، حين يتذكر خوف الكبار منه قبل الصغار.
وما كان يغريه في البقاء في (تل مكسور) ما يلقاه من خدمة واهتمام وتبجيل، فقد سكن في أحسن البيوت، وأكل أشهى الطعام، بفضل دعمه المزعوم.
ومن دواعي استمراريته في هذه القرية، مغامراته الجنسية فيها، فهو يستغل وضعه معلماوحيدا، يستشيره الجميع في كل الأمور، قانون، سياسة، زراعة، وحتى أمور الدين، وكثيرا ما كان يتبجح بمقولة، (من علمني حرفا، كنت له عبدا)،
مشددا بتلذذ عظيم على كلمة(عبد)
كل هذا استخدمه طعما في اصطياد النساء الساذجات، بالإضافة إلى كونه عازبا لم يتجاوز الثلاثين، يعد نفسه متميزا بثقافته، وعاداته، وملبسه، ومشربه، ومن هذا المنطلق، يصر على ارتداء طقمه البني، وقميصه البرتقالي، وربطة عنقه الحمراء، في كل الأوقات، وكان يطيل الوقت حين ينظف أسنانه ليراه أكبر عدد ممكن من الأهالي، وإلى أن ينبثق الدم من لثته الملتهبة.
إنه يرى في شخصه ملكا، في هذه القرية الغافلة. لكن ما ينغص عيشه هي (خديجة) والدة تلميذه (جمعة الخلف)، أجمل نساء القرية، الأرملة، والوحيدة، والتي تستطيع لو شاءت أن تتسلل إليه، أو يتسلل إليها، فالبيت قريب، ولكنها نفرت من كل المحاولات.
ذات يوم طرق بابها، بعد منتصف الليل، فرجع مغسولا ببصقة، مازال يحس وقعها على وجهه، مما جعله يتنازل، وبدافع شهوته المتقدة نحوها، ويعرض عليها الزواج، فتعللت له بولدها، وبأنها نذرت حياتها من أجله، فأضحت جرحه الكبير، وتحولت شهوته إلى جرح عميق، انصب على ولدها (جمعة)
، فصار يضرب بعد الدلال..رغم تفوقه، فتنتقل شكواه ودموعه إلى أمه، التي تشكو أمرها وأمر ابنها إلى الله.
كان الأستاذ حمدان يقف على الكرسي يتلصص من خلال النافذة، مراقبا حركة التلاميذ في استراحتهم، فما إن تبدر أية حركة من اللعب البريء من الصبي، حتى يباغت بصوت الأستاذ المتجسس، ويبدأ التحقيق معه، وفي النهاية تكون العقوبة القاسية، هي الجزاء المنتظر لهذا اليتيم المسكين.
واليوم... حدث ما يبرر كل حقد (حمدان) على تلميذه (جمعة)، وشاهد من خلال النافذة التلاميذ يلعبون بكرة مصنوعة من الخرق البالية، لأنه حرم عليهم اللعب بالكرة الحقيقية، التي جمع ثمنها منهم ، ولما كان (جمعة) بينهم، اندفع (حمدان) إلى الباحة الترابية، وأطلق صفارة الإنذار، فتجمد الدم في عروق الصغار، اقترب من الكرة، تفحصها جيدا ، ثم صرخ:
ـ من دس علم المدرسة، مع هذه الخرق؟.
خيم على رؤوسهم صمت رهيب، وتوجه (حمدان) بنظره الحاقد صوب (جمعة):
ـ أنت.. أليس كذلك؟..قسما بالله سأسحقك.
وانبعث صوت الطفل، مبهوتا لهذا الإتهام:
ـ لست أنا.. يا أستاذ!!
ـ اخرس يا كلب.. هذا عمل لا يقوم به سواك.
ـ وحق المصحف يا أستاذ، أنا لا علاقة لي بصنع الكرة.
وعلى الفور ، أمر الأستاذ بعض التلاميذ فرفعوا قدمي (جمعة) إلى الأعلى، وانهال عليه بعصاه الغليظة، فانطلق صراخ الطفل، بريئا، لينتشر في أرجاء القرية المتناثرة البيوت، فالتم الناس على صوت العويل، وأسرع بعض الصبية، فأخبروا الأرملة.
تحلق الأهالي رجالا ونساء وأطفال وجميعهم يسألون:
ـ ماذا فعل (جمعة)؟.
وكان الصغار يتولون الجواب:
ـ لقد صنع من علم البلاد كرة.
والأستاذ (حمدان) منهمك بضرب الصغير، غير عابىء بصراخه وتوسلاته:
ـ أستاذ.. دخيلك.. أبوس
رجلك..اتركني.
وقبل أن تجد توسلات الصغير، مكانا في قلب الأستاذ، الذي كان يزهو داخليا، لأنه مركز لهذه الأحداث، جاءه صوت خديجة، الذي يميزه عن أصوات نساء الأرض:
ـ لماذا تضرب ولدي هكذا، يا حضرة الأستاذ؟!.
فزعق (حمدان) بوجهها:
ـ لأنه مجرم.. مخرب.. خائن.. هل فهمت؟.
اقترب الحاضرون أكثر من المعلم، المتقطع الأنفاس:
سأبعثه إلى السجن، قسما سأبلغ السلطات عنه، هذه جريمة لا يسكت عنها.
صرخت الأم بانفعال شديد:
ـ يعني ما حصل شيء، ولد لا يفرق بين العلم ،وأية خرقة أخرى...
زمجر المعلم المتلذذ بهذه المشاجرة
الكلامية:
ـ ولد..؟!!.. لا يعرف قيمة العلم؟!.. هذا غير صحيح، من منكم ـ وتوجه بكلامه للحاضرين ـ من منكم.. لا يعرف بأن العلم رمز للدولة؟؟!!..
اقترب المختار (أبو قاسم)، يرجوه:
ـ يا أستاذ (حمدان)، هذا ولد.. يجب ألا تؤاخذه، على هذه الغلطة.
صاح (حمدان):
حتى أنت يا مختار؟؟؟!!!... والله سأكتب تقريرا إلى مختلف الجهات الأمنية.. سأذكر وجهت نظرك هذه يا أبا قاسم:
ـ أنا يجب أن لا أتناقش معكم، في هذا الموضوع.. أصلا ليس من قيمتي أن أتناقش مع أحدكم، هذا موضوع خطير، وأنتم لا تفهمون بالسياسة، سأكتب... ومن لا يعجبه سأذكر اسمه في التقرير، فأنا لا يجوز لي التسامح في هذا الشأن، وأنا لعلمكم كاتب تقارير ممتاز، ومن لا يصدق فليذهب إلى قائد قطعتي في الجيش، ويسأله عن تقاريري،
كان يضرب المثل بها، أمام رفاقي، ومن هذه الناحية... أنا لن أخسر شيئا، سوى كتابة التقرير، ووضع توقيعي وخاتم المدرسة عليه، ثم تأتي الدوريات.
ولما أراد المختار أن يتدخل مرة أخرى حدجه الأستاذ بنظرة ذات معنى، وكتم بهجته.. بإرباكه.. وصرخ:
ـ أرجوك يا جناب المختار، لا تتفوه بكلمة ستندم عليها... ومسؤوليتك أن تبلغ عنه بنفسك.
نشر الخوف ظلاله على الجميع
وتعثرت الكلمات على شفاههم، مرت لحظات منحوته من دمع وظلام، حار الواقفون، وطال صمتهم، فكر (أبو عيشة) أن يساند (حمدان) حتى لا يظل متعاليا عليه ، لكنه خجل من (خديجة)، أرملة (نايف) ابن عمه، التي رآها واقفة بانكسار.
تردد أصحاب النخوة في مواقفهم
وتقدم (أبو نواف)، وطبع قبلة على شارب المعلم، وتشجع (أبو ممدوح)، فعزم على الجميع، أن يتفضلوا إلى داره، ليذبح خروفا إكراما للأستاذ... هكذا راح يقسم.
وانكبت خالة الأرملة العجوز، على يد (حمدان)، تقبلها، وتبللها بدموعها.
كثرت التوسلات، وتعالت الأصوات... مسترحمة، مستعطفة، حتى
(خديجة)... تهدجت كلماتها من الفزع.. وهي تتمتم:
ـ هذا طفل يا أستاذ... لو كان رجلا...
ولم تكمل كلامها، حتى انتفش كالطاووس، وهو يزعق بتلذذ:
ـ السلطات العليا وحدها ستقرر مصير ابن الخائن هذا..
انصعقت (خديجة)، توقعت كل شيء، إلآ أن يتهم زوجها بالخيانة
،وحاولت أن تتمالك فلتصمت... عن هذه الإهانة، فالجميع يعرفون من هو زوجها، المهم الآن... أن تستعطف هذا الحاقد، لأن مصير ولدها (جمعة) في خطر، فابتلعت الإهانة، وضغطت على جرحها، وقالت:
ـ سامحك الله يا أستاذ (حمدان)، لو كنت تعرف أي الرجال، كان (أبو جمعة) لما اتهمته بالخيانة.
أدرك (حمدان) نقطة الضعف عند غريمته، فعزم على تمريغ اسم المرحوم:
ـ لو لم يكن جبانا، لما أنجب هذا الولد الخائن.
وهنا فقدت (خديجة) رشدها، لم تعد تحتمل أكثر مما سمعت، فصرخت كمجنونة واندفعت بتجاه (حمدان):
ـ اخرس... اخرس يا كلب، من أنت، حتى تقول عن (أبي جمعة) جبان
؟؟؟!!!متى أصبح الشهيد خائنا؟!.. اذهب فاسأل تربة الجولان، لتعرف من هو (أبو جمعة)، أنت مجرد نذل..حقير، حاولت النيل من عرض هذا الشهيد، الذي لا تساوي أنت وتقاريرك فردة حذائه.
واندفعت نحوه أكثر، رافعة يدها بقوة تريد أن تصفعه، في تلك اللحظة، عندما كان يتراجع (حمدان) مذعورا كالفأر، شاهد جميع من كان حاضرا، من أهالي (تل مكسور) يد (خديجة) الطاهرة، تخفق في سماء القرية المكتنزة بالغيوم، بشموخ وكبرياء، ترتفع تماما مثل علم البلاد.
حلب
* حرمان..
تسلّق جدار المدرسة ، قفز إلى باحتها ، ودخل صفّ(سامح)، من النّافذةِ المكسورة وفي الصّفّ كان بمفرده، شعر بالفرحة تجتاحه، جلس على المقعد، واضعاً يديه أمامه، مستنداً على المسند، دار على المقاعد، وجلس الجّلسة ذاتها، وجد قطعة (طباشير) فأسرع نحو السّبورة، وبدأ يرسم خطوطاً كثيرةً، خطوطاً لا معنى لها، فكثيراً ما كان يسأل والديه، عن سبب حرمانه وشقيقته (مريم) من المدرسة، فتأتيه الأجوبة غير مقنعة. والده يقول:
ـ نحن أسرة فقيرة، والمدرسة مكلفة، وأنا كما تراني.. عاجز عن إشباع بطونكم.
ـ وكيف أدخل عمّي (قدور) أولاده إلى المدرسة، وهو فقير مثلك؟!.
ـ عمّك لا يعرف عواقب الأمور، غداً ترى، سوف يضطرّ إلى سحبهم، حين يعجز عن دفع النفقات.
ويتابع الأب كلامه، كأنه يزفّ إليه بشرى:
ـ غداً سأبعث بكَ إلى الشّيخ (حمزة)، ليحفّظكَ القرآن الكريم.. وهذا خير بألف مرّة من المدرسة.
وتحاول أمّه جاهدة، أن تقنعه لتخفّف عنه حزنه:
ـ حفظ القرآن عند الشّيخ (حمزة)، سينفعك في الدّنيا والآخرة، أمّا المدرسة فلا تعلّمكَ إلّا كلمتي بابا وماما.
ومن شدّة تلهفه وإلحاحه، فقد تقرّر أخيراً، ذهابه لعند الشّيخ، ولقد اجبر أمّه، على خياطة صدّارة، تشبه صدّارة سامح ، وعطفاً على بكائه المرّ، اشترى له أبوه محفظة جلدية، ودفتراً صغيراً مثل (سامح) .
بات ليلته وهو في غاية السّعادة، لم يغمض له جفن، كان يتحسّس صدّارته التي ارتداها، ومحفظته بمحتوياتها التي تشاركه الاستلقاء في فراشه القطني. أمّا أحلام اليقظة، فقد بلغت أوجها في مخيّلته، الواسعة الخصوبة:
ـ سأتعلم.. مثل (سامح)، سأتحدّاه..
وأكتب على الجّدران اسمي، واسم (مريم وسميرة) وسأكتب بابا وماما ودادا، وسأحفظ الأرقام..وأنا في الأصل أعرف كتابة الرقم واحد، تعلمته من (سامح)، كلّ ما عليّ أن أمسك بالقلم، وأضغط بالقوة، راسماً خطاً من الأعلى إلى الأسفل، وسأرسم قطتي أيضاً، ودجاجات جارتنا، وحمار خالي، وسيّارة رئيس المخفر، التي يخافها الجّميع.. والطّائرة التي تطير كلّ يوم من فوق دارنا.. سأرسم كلّ شيء يخطر لي، القمر، الشّمس، النّجوم، والعصافير، والكلاب، الأشجار العالية..نعم
سأفعل كلّ هذا، لأنّ (سامح) ليس أفضل منّي.. فأنا أطول قامة، وأقوى منه، عندما نتعارك.
وشعّت ابتسامته في الظّلام، تقلّب في فراشه.. متى سيأتي الصّباح؟.. هكذا كان يتساءل.. ثمّ أرسل نظرة إلى (مريم) النائمة، وتحسّر من أجلها، لقد بكت طويلاً، لأنّ والدها لم يشترِ لها صدّارة ومحفظة، وحسدَ نفسهُ لأنَّه ذكر، فقد قال لها أبوها، بعد أن ضربها:
ـ يا مقصوفة الرقبة أنتِ بنت.. ما شأنكِ بالمدرسة؟!.
سأطلب من شيخي أن يعطيني كتباً كثيرة، أكثر من كتب (سامح وسميرة)، سأقوم بتجليدها، ولن أسمح لأحد أن يلمسها، سوى أختي (مريم) ف(سامح وسميرة) لا يسمحان لنا بلمس كتبهما.. في كلّ يومٍ سأنال من شيخي علامة الجيد ، ولن أكون كسولاً مثل (سميرة)، وفي آخر السّنة سأنجح بتفوقٍ، وسأوزّع السّكاكر على كلّ اهل الحارة، ولن أطعم وَلَدَي عمّي، إلّا سكّرة واحدة لكلٍّ منهما، مثلما فَعَلَا معي، يوم نجح إلى الصّف الثاني، لا فرق بيني وبين (سامح) سوى أنّه ينادي معلمه (أستاذ) وأنا أناديه، كما أوصاني أبي، سيدي الشيخ.
في الصّباح الباكر، وعلى صياح
الدِّيَكَة، قفز ليوقظ أمّه، وبسرعة غسّل وجهه ويديه، سرّح شعره الخرنوبي، حمل حقيبته الزّرقاء، وانطلق رافضاً تناول الزعتر والشّاي.
دفع للشيخ ذي اللحية الغزيرة، الضاربة للبياض، ربع ليرة أجرة الأسبوع سلفاً، وجلسَ على الحصيرةِ المهترئة، بين كومة الأولاد، المتجمّدينَ أمام أنظار الشّيخ المسنّ، وماكاد يستقرّ في مكانهِ، حتّى أمره الشّيخ بالوقوف، تأمّله بعينيه الحمراوين، فارتعش الفتى، لكنّ الشّيخ لم يشفق عليه، بل صرخ:
- ما هذا الذي تلبسه؟.. صدّارة!!.. ما شاء الله، هل قالوا لكَ إنّ عندي مدرسة؟!.
انهارت أحلامه، لم يكن يتوقّع مثل هذه المعاملة، من الشّيخ، أراد أن يسأله عن رفضه الصدّارة والحقيبة، غير أنّ الخوف عقل لسانه، فجلس دامع العينين.
ما أسرع ما ينهال الشّيخ، على الأطفال بعصاه الغليظة، وما أكثر ما يغضب ويثور ويحملق بعينيه المرعبتين، وخلال أيّام قليلة تعرّض (رضوان) إلى عدّة (فلقات) منه.
وذات يوم.. ضبطه الشّيخ وهو يقتل ذبابة بيده، فانهال عليه ضرباً، غير عابئ بصرخاته ودموعه، وأخيراً أصدر أمره الحازم:
ـ التقط الذّبابة.. وضعها في فمكَ.. وابتلعها.
لم يخطر في باله مثل هذا الأمر، بكى.. توسّلَ.. ترجّى.. تضرّع.. سَجَدَ على قدمَي الشّيخ يقبلهما، استحلفه بالله وبالرسول، فلم يقبل.. تناول الذبابة.. ووضعها في فمه، فوجد نفسه يتقيّأ فوق الحصيرة، وضجّ الأولاد بالضحك، بينما جنّ جنون الشّيخ، فأخذ يضربه، ويركله، كيفما اتفق، وبعد أن هدأت ثورته، واستطاع أن يلتقط انفاسه بانتظام، أمره أن يغسل الحصيرة والأرض. ولمّا كان صنبور الماء قريباً من الباب، أسرع وفتحه وأطلق العنان لقدميه المتورمتين..
فأرسل الشّيخ على الفور، من يطارده من الأولاد.. ولكن هيهات أن يلحق به أحد.
في المساء.. عاد والده من عمله، تعشّى مع أسرته ثمّ أخبرته زوجته، بأمر هرب (رضوان)من عند الشيخ فغضب الأب وصفع ابنه، وأمره أن يذهب معه، في الصّباح لعند الشّيخ، ليعتذر منه، ويقبّل يده الطّاهرة.
ـ الولد ابنك.. لكَ لحمهِ ولنا عظمه.
قال الأب للشيخ.
ـ لا عليكَ يا أبا (رضوان). الولد امانة في رقبتي.
قال الشّيخ مكشراً عن اسنانه المنخورة.
في ذلك اليوم، لم يضربه الشّيخ
واكتفى بتحذيره، أنذره من الشّيطان الذي بداخله.
وبعد أيام وقع (رضوان) في ورطة جديدة، وكان الوقت ظهراً، وكان الأولاد محشورينَ مثل السُّجناء، في غرفة صغيرة، لا نافذة لها، كانوا يتصبّبونَ عرقاً، شعر الطّفل برغبةٍ لا تقاوم في النّوم، رغبة اشدّ من قسوةِ الشّيخ، ولا يدري كيفَ سها، وعلى حين غرّة جاءته ضربة قوية على باطنِ قدمهِ، فانتبه مذعوراً، وقبل أن يسبقه بكاؤه،
تبوّل في مكانه.. بلّل ثيابه والحصيرة، وتعالت الضّحكات من رفاقه، وفقد الشّيخ رشده، فلم يجد (رضوان) وسيلة للتخلص سوى بالبكاء بكى كثيراً، حتى رأف الشّيخ بحاله، وسمح له بالإنصراف.
منذ ذلك اليوم، أطلق عليه الأولاد ،لقب ( الشخاخ) من أجل هذا، أخذ يجامل الأولاد، ويكسب ودهم، ولكنهم كانوا أوغاداً، ازدادوا استهتاراً به، وبمحاولاته لكسب صداقتهم، وكان الجميع يتشجّعون وينادونه (الشخاخ) إلى أن جاء يوم من أيام الشتاء، عجز فيه والده، عن دفع ربع الليرة، فطرده الشّيخ، وكان سعيداً لأنه
أصبح حرّاً.. بعيداً عن الشيخ والأولاد.
وجلس (رضوان) يترقّب موعد طرد (سامح وسميرة) من المدرسة، لكنّ عمه لم يعجز حتّى الآن، عن دفع النفقات، كما كان يتوقّع والده، وذلك أمر كان يحزّ في.قلبه.
صار يتسلق جدران المدرسة، ليراقب (سامحاً) الذي يلعب في الباحة، مع رفاقه أثناء الفرصة، صار همّه الوحيد المراقبة والانتظار، لحين انصراف (سامح). وكم كان يلذّ له أن يأخذ الحقيبة من سامح ليحملها عنه، متخيّلاً نفسه تلميذاً، وفي تلك الأيام، كان كثيراً ما يمرّ بالقرب من أحد المعلّمينَ، ليرمي عليه السلام، وكم كان يشعر بالغبطة، حين يردّ عليه، ظانّاً أنّه أحد تلامذته.
وما كان يضايقه.. سوى الآذن (أبي لطّوف)، الذي يهرع ليلاحقه بدرّاجته، كل ّما رآه متسلّقاً على الجدار وكم كان يتهدّده بأنّه سيعيده إلى بطن أمّه إن أمسكه.. وفي إحدى المرّات، استطاع الإمساك به، كان قد تسلّق الجدار، وجلس يطوّح بقدميه، ينظر إلى التلاميذ، وبينهم(سامح) وهم ينفّذون درس الرياضة كان يراقبهم بشغف، وهم يركضون خلف الكرة، وكانت الغيرة تأكل قلبه الصغير.. وفجأة أمسك (أبو لطّوف) بقدمه.. وأخذ يشدّها بقوة، و (رضوان) الذي صعقته المفاجأة، يصرخ.. وهو يحاول التملّص،
غير أنّ (أبا لطّوف) تغلّب على الصغير ، فارتمى بين ساعديه، حيث قاده إلى غرفة المدير، غير منتبه إلى تبوّل الطفل في ثيابه.
كان المدير بديناً وأعورَ، صارماً
أشدَّ قسوةً من الشّيخ(حمزة)، أمره بالجلوس على الكرسي، وأمسك الآذن به، ورفع له قدميه، وانهال المدير عليه ضرباً بلا رحمة، ولم يتركه إلّا بعد أن أقسم الطفل، آلاف المرّات، بأنّه لن يعود إلى تسلّق الجدار، حمل حذاءه وخرج على رؤوس أصابعه، ينتحب بغزارة وحرقة ، في حين كانت (كلابيّته)
تقطر بولاً.
منذ ذلك اليوم، أقلع (رضوان)
عن تسلّق الجّدار، صار يكتفي بالدَّوَران حول سور المدرسة، ينتظر (سامحاً)، وكان يصيخ السّمع، إلى صوت المعلم، المتسرّب من النّافذة، وهو يهتف:
ـ عَلَمُ بلادي مرفوعٌ.
فيردّد التلاميذ خلفه:
ـ عَلَمُ بلادي مرفوعٌ.
وكان يتناهى إلى سمعه، صوت (سامح) من بين الأصوات، أو هكذا كان يتخيّل، فيشعر بالحسد، ويتمنى ذلك اليوم الذي سيعجز عمّه (قدّور) عن دفع النفقات في تلك اللحظة فقط، سوف يسخر من (سامح)، لأنّ هذا لن يكون متميّزاً عنه بشيء، بل على العكس:
ـ ( فأنا أطول منه قامةً.. وأشدّ قوةً.. واسرع ركضاً.. وكذلك أنا أمهر منه في قذف الحجارة، ولا أخاف الاقتراب، من الحمير والكلاب.).
في أحد الأيام ، سقط العمُّ (قدّور) عن(السّقالة)، في أثناء عمله في البناء، وانكسرت رجله، فاستبشر خيراً، ولكن زوجة عمّه ، سرعان ما خيّبت رجاء (رضوان) إذ باعت قرطها وخاتمها الذهبيّين، حتى تتمكَّن الأسرة من متابعة العيش، وكم كره زوجة عمّه هذه.. بل إنّه يكرهها من قبل، لقد رضع كرهها من أمّه، التي تطلق عليها.. لقب (أمُّ عُصٍّ) لأنّها نحيلةً جدّاً، في حين كانت أمّه ضخمة جداً.. وهكذا توالت الأيّام، وهو يمضي نهاره، حول سور المدرسة، في انتظار (سامح) إلى أن جاءت العطلة الصّيفية...
فينتهزَ الفرصة، ويقتحم صفّ (سامح)، ويرسم على السّبّورة خطوطاً كثيرة،حتّى انتابته حالة انفعالية غريبة.. فأخذ يكسّر المقاعد والنوافذ.. ولم يخرج من الصّف، إلّا بعد أن رفعَ (كلّابيَّتهُ)، وتبوّل فوقَ طاولة المعلّم.. وأمامَ السّبّورَة.
حلب
* ثأر..
- حدث ما توقعته، فما إن استلم الإدارة، ووضعَ مؤخرته على كرسيها، حتى أرسل بطلبي.
شكوكي تقودني إلى الاعتقاد بأنّ المدير، لم ينتقل إلى الشركة إلاّ من أجلي، وأؤكد بأنّهُ يعرف أنّي أعمل هنا، وإلاّ فمن أين علم بوجودي؟!.. ليستدعيني بهذه السّرعة!.
نعم... كنتُ محقاً عندما فكّرتُ بأن أقدّم استقالتي، لن أدعه يشمتَ بي، لن أعطيهِ فرصة للإنتقام، سأقذفُ استقالتي بوجههِ فورَ دخولي، وإذا وجدتُ منهُ حركة أو كلمة يمكن أن تسيء إليّ، سأصرخ بوجههِ دونَ خوفٍ:
ـ ما زلتَ بنظري.. ذلكَ الطّفل..ابن (الزّبال) وإن صرتَ مديراً كبيراً).
ولأنّهُ مستاءٌ من مديرهِ الجّديد، ولأنّهُ لا يكنّ له سوى البغض، فقد قررَ أن لا يطرقَ الباب، يرفض أن يقفَ للإستئذان، أمسكَ القبضة بعنفٍ، فتحَ بجلافةٍ، وما إن أبصرَ المدير جالساً خلفَ طاولتهِ، حتّى حدجهُ بنظرةٍ قاسيةٍ، ممتلئة بالكرهِ والتّحدي.
نهضَ المدير بعجلةٍ، وابتسامة عذبة ترتسمُ على شفتيهِ، هاتفاً بصوتٍ كلّهُ صفاء:
ـ (حسين)!!.. أهلاً وسهلاً.. أهلاً وسهلاً.
تحرّكَ من وراءِ طاولتهِ، مادَّاّ ذراعيهِ لملاقاةِ (حسين)،الّذي أدهشتهُ المفاجأة للوهلةِ الأولى، ظنَّ أنَّ المدير يسخر منه، وراحَ يقتربُ ببطءٍ وحذرٍ شديدين غيرَ مصدق أنّه سيضمّهُ إلى صدرهِ، حيثُ سيلوثُ طقمَ المدير ببزَّتهِ المتّسخةِ.
تابعَ المدير ترحابهِ الحارّ، بينما كان يقترب من العاملِ المتجمّد الملامح، ليأخذه إلى صدرهِ
، ويضمّه بقوةٍ وشوقٍ ثمّ ينهمر على خديهِ بالقبلاتِ الحارّةِ، ورغم هذا ظلّ (حسين) محافظاً على صمتهِ وجمودهِ، وعادت عباراتُ التّرحيب من المدير:
ـ أهلاً (حسين)، والله زمان.. كيف أحوالك؟
ولأوّل مرّة يجد العامل نفسه مضطراّ لأن يحركَ شفتيهِ، ويتمتم ببرودٍ جافٍ:
ـ أهلاً حضرة المدير.
قهقه المدير من هذهِ العبارة الرَّسمية
بينما سيطر الرّعب على قلبِ
(حسين) فأخذَ يتراجع إلى الخلفِ، في حين امتدّت يده إلى جيبهِ، لتقبض أصابعه على استقالتهِ الجّاهزة، كسلاحٍ يشهره بوجهِ المدير، لكنَّ المدير اقترب، ليقولَ بلهجةِ المعاتبِ:
ـ أيّ (حضرة مدير) يا (حسين)!، أهكذا تخاطبني؟!.. سامحكَ الله، نحنُ أخوة وأصدقاء.
لم يجد (حسين)، سهولة في أن يطمئنَّ لشخصِ المدير هذا، فهو يرى كلّ كلمة ينطقها، أو حركة يقوم بها، سخرية منه، لكنّه في الوقتِ ذاتهِ
،كانَ في منتهى الحيرة والاندهاش، لأنّه يكاد يلمس الصّدق من نبراتِ صوت المدير، ومن نظراته التي تفيض بالسّعادةِ والمودّةِ، وتساءلَ في أعماقهِ الحائرة:
ـ أهذا معقول!؟.. هل أصدقه وأطمئنّ إليهِ؟!.. هل نسي ما فعلته به، ونحنُ أطفال؟!..أهو متسامح إلى هذه الدرجة؟!.. أم يكذب وينصب لي فخاً؟!.
ونتبهَ إلى صوتِ المدير يطلب منهُ الجلوس على الكرسي الوثير. في البدايةِ ارتبكَ، وحاولَ الاعتذار، لكنّ الحاحَ المدير، جعلهُ ينصاعَ، ويقترب ليجلس على حافةِ الكرسي، وكأنّه يهمُّ بالإنزلاق.
لم يجلس المدير خلفَ طاولته، بل جثم على كرسي قبالتهِ، وبعدَ أن ربّتَ بيدهِ على كتفِ(حسين)، همسَ:
ـ مشتاقٌ إليكَ يا (حسين)... أكثر من عشرين سنة، ونحنُ لم نلتقِ.
فكّر أن ينهضَ عن كرسيهِ، ويرمي استقالته بوجهِ صديقه ومديره، ليخرج مسرعاً من هذا المكتب، لم يعد يطيق مثلَ هذا العذاب، فهو في أوجِ حيرته، هل يأخذ راحته مع صديقهِ المدير؟! أو يستمرّ في حذرهِ ومخاوفهِ، إنّه لا يملك دليلاً واحداً، ولو صغيراً، على أنّ المدير يسخر منه.
قدم المدير إليهِ لفافة تبغٍ، وحينَ التقطها بأصابعهِ الرّاعشة، كانَ المدير قد أخرجَ قدّاحته، وخيّل إليهِ أنّ المديرَ سيقوم باحراقِ (شواربهِ) الغزيرة، جفلَ للوهلةِ الأولى، تراجعَ إلى الخلفِ، لكنّه أدركَ أنّهُ يبالغ في مخاوفهِ فدنا ليشعلَ لفافتهِ:
ـ تصوّر يا (حسين) لم أكن سعيداً باستلامي الشّركة، إلّا بعدَ أن قرأت اسمكَ بينَ أسماء الموظفين.. أنا
بصراحة انتقلت إلى هنا، دونَ رغبةَ منّي.
همسَ بسرّهِ، بعدَ أن نفثَ دخّان لفافتهِ بأنفاسٍ متقطعةٍ، مضطربة:
ـ بالطّبع ستكون سعيداً، بوجودي، فها أنتَ تقابلني منتصراً، من كانَ يصدّق أنكَ ستكون مديراً عليّ ذات يوم؟! أنا الذي كنتُ أهزأ منكَ في المدرسةِ والأزقّة.
ومرة أخرى.. يخرجُ من شرودهِ، على صوتِ المدير:
ـ ماذا تحبّ أن تشربَ؟.
ـ أنا.. لا شيءَ.. شكراً.. ياحضرة المدير.
للمرةِ الأولى تنعقدُ الدّهشة على وجهِ المدير، وتذبل ابتسامته:
ـ مابكَ يا (حسين)؟!!.. لماذا تخاطبني بهذه الطريقة؟!.. هل ستكون العلاقة بيننا رسمية؟!.
حاول أن يجمعَ شتات قواه، ليهتفَ بصوتٍ حازم:
ـ نعم يا جنابَ المدير، أتمنّى أن تكون العلاقة بيننا رسمية، ورسمية جداً.
اتّسعت الدّهشة على وجهِ المدير المكتنز، أرجع رأسه، وأرسل نظراته المستطلعة، لتقرأ ما يجول في رأسِ صديقه القديم:
ـ (حسين).. ماذا جرى لكَ؟!.. أخبرني
أرجوك.. هل هناكَ ما يضايقك؟!.
ولأنّهُ مازالَ محتفظاً ببقايا عزيمتهِ، قال:
ـ بصراحة يا حضرة المدير، أنا حائر، أكاد لا أفهمك، وأشكّ بأنّكَ تسخر منّي.
دهشت المدير بلغت ذروتها، مما جعلتهُ يهتفَ باستغرابٍ شديد:
ـ أنا أسخر منكَ!!!.. معاذ الله... أنتَ صديق طفولتي.
نهضَ عن الكرّسي، الذي لا يتناسب وبزّته.. قائلاً:
ـ أنا لا أنسى كيفَ كنتُ أعذّبكَ، وأسخر منكَ أيّام الطّفولة.
انفردت أسارير المدير، وعادت إليهِ الإبتسامة:
ـ معقول يا (حسين)!!!.. هل تظنّني حاقداً عليكَ؟.. كنّا أطفالاً.. اجلس يا صديقي.. اجلس، حدثني عن أحوالك، وعن زوجتك، وأولادك، ثم أخبرني إن كنتَ مرتاحاً بعملكَ هنا؟.
قال المدير هذا الكلام، في حين كانت يده ممتدة نحو صديقه، ليرغمه على الجلوس.
همس (حسين) بتلعثمٍ واضحٍ:
ـ أنا خجل منكَ.. ومن نفسي، لقد كنتُ طفلاً شريراً، عذّبتكَ كثيراً، وأهنتكَ.
نظرَ المدير صوبَ صديقه بحنانٍ ومودّة:
ـ هل تصدق، إنّي أحنّ إلى أيامِ الطّفولة تلك، أنتَ صاحب فضل عليّ، فلولا سخرياتكَ منّي، ومن والدي عامل التّنظيفات لما تابعت تعليمي، كنتَ أنتَ بمقالبكَ المريرة دافعي للتحدي والدّراسة.
في تلكَ اللحظة، طفرت من عينيّ (حسين) دمعتانِ صغيرتانِ حارّتانِ، قفزَ ليحتضنَ صديقه، الّذي طالما أمعنَ في تعذيبهِ، همسَ بصوتٍ تخنقهُ العبرات:
ـ أنتَ عظيم يا (عبد الجليل)، طوال عمرك كنتَ أفضل منّي، أرجوكَ
سامحني.
تربّعت الدّهشة على وجهِ الآذن، وهو يدخل حاملاً القهوة، لقد رأى المدير الجّديد المفرط في أناقتهِ،يعانق العامل(حسين) ذي البزّة القذرة، المتّسخة، وكانا ذاهلين عنه، في عناقٍ طويل.
حلب
* (عادل إمام حرمني من حبيبتي
ودفعني للإقدام على الإنتحار).
نعم..
يحقُّ لي مقاضاة الفنان العبقريّ "عادل إمام".. فهو من تسبّب لي بأكبر كارثة في حياتي.. كيف لا.. وهو من تسبّب في محاولتي الإقدام على الانتحار.. فكدتُ أن أموت.. وبقي الجرح في صدري وسيبقى إلى أن أموت.
ولكي لا يبدي لي أحد دهشته
واستغرابه.. وينبري لي للدفاع عن هذا الفنان العملاق.. والذي أحبّه.. لدرجة ان وقعتُ في مشكلة فظيعة.. جرّاء هذا الحبّ وهذا التعلّق وهذه المتابعة.
اقول:
- صبراً عليَّ.. سوف اروي لكم الحكاية..التي لم تنتهيِ عند هذا الحدّ.. بل كادت ان تتطوَّر.. لولا لطف الله.. وتكون نهايتي القتل بسببها.. وفي هذه المرة.. على يد غيري.. وهذا لا علاقة له.. بمحاولة إنتحاري.
تسبّب بإبعاد من أحبَّ عنّي، بل بحرماني منه.. ودفعني للانتحار.. وكان ممكن أن يكون سبباً لقتلي انا وفتاتي ..هذا هو "عادل إمام ".. فنان الشعب العربي.
واقسم بانّي أقول لكم الحقيقة.. فأنا لا أتّهمه ظلماً.. او عدواناً.. كيف لي أن أتّهمه.. وانا كما قلت لكم.. كنتُ احبّه.. وبقيتُ أحبّه.. ومازلت أحبّه.
كان من حقّي عليه.. وعلى الأقل.. أن يتوسّط لي.. ويعيد إليَّ حبيبتي.. لكنّه لم يعرف بقصّتي.. فهو بعيد عنّي كلّ البعد.. وإلّا لو انَّه كان يعلم.. فأنا متأكّد من أنّه لن يتخلّى عنّي.. ولسوف يقف معي.. ويصلح الخطأ.. ويساعدني.. ولكي لا يقول لي أحد منكم.. بأنّي أطلتُ عليكم بهذه المقدّمة.. ها انا ادخل ألى الموضوع مباشرة.
كنتُ في سنِّ المراهقة.. عمري بحدود الستَّ عشر سنة.. وكنتُ أحبُّ.. حباً عذرياً.. أصلاً لم يكن في زمننا ذاك.. سوى الحبّ العذري..
خاصّة في مدينتنا الصغيرة، المتزمّته.. والمتعفّنة.. والتي لا تعترف بالحبّ من اساسه.. وكان في نظر سكّانها.. كلّ من يحبّ.. أو تحبّ.. خارج عن القانون والأعراف والتفاليد والشرف.. ويستحقُ مَن يرتكب مثل هذه الحماقة الذّبح بسكّينة صدئة.
وانا في تلك الايّام.. وقعتُ في هذه الضلالة.. فقد احببتُ.. حبّاً جباناً.. في العتمة.. أي عتمة القلب والروح.. حيث لم اكن أجرؤ على البوح بحبّي لمن احبّ.. أو أتشجّع والقي نظرةً جريئة متفحّصة.. أو متامّلة على من احبّ بشكل مباشر، رغم القرابة التي تربطنا.
احببتُها.. وكانت تعرف بمدى حبّي لها من خلال اختي..لم نتكلّم بشكل مباشر عن هذا الحبّ.. كان حبّاً صامتاً خجولاً.. مبطّناً.. غير مرئي.
وكانت تصغرني ببضعة أشهر.. وهنا كانت تكمن المشكلة.. فمن عادات أهل بلدتنا.. أن يتزوج الشاب من فتاة تصغره بسنوات عديدة.. قد تمتدُّ إلى أكثر من عشر.. لذلك تتزوج الفتاة في سنّ مبكرة.. ولهذا كانت فتاتي لا تصلح ان تكون زوجة لي.. لماذا.. لأنّ امّي وابي وجدّتي.. لا يريدون أن يزوّجوا ولدهم.. قبل أن يذهب وينهي مدة خدمة العلم الإلزامية.. وأنا صغير بعد على الزواج.. وفتاتي في سنّ الزواج.
أمّي.. وأبي.. وجدّتي.. يقولون:
- هي من عمرك.. سيكون لديها دستة أولاد.. لحين أن تتزوّج أنتَ.
ثم يسارعون للقول:
- لا تنسىَ.. أنّ لك اخ أكبر.. علينا ان نزوّجه.. قبلك.
بذلتُ جهوداً جبّارة..لإقناع أمّي وجدّتي.. لكن دون فائدة.. إلى أن وصلتُ لمرحلة اليأس والقنوط.. وهكذا بدأتُ كتابة الشعر.. فاليأس هو من دفعني إلى كتابة الشعر.
أقول.. وبينما كنت اتخبّط.. وانا أبحث عن حلٍّ لمشكلتي.. خطر لي من بين الافكار الكثيرة.. التي راودتني.. أن أذهب إلى شعبة النفوس وأكبّر عمري ثلاث سنوات.. لكي أذهب للعسكرية على الفور.. وأختصر المسافة الزّمنيّة.. لكي احقّق مبتغايَ.. واتزوّج ممّن أحبّ. لكن هناك من نبّهني بأنّي لن أستفيد من هذه الحركة.. بل ستتزوّج حبيبتي من غيري وأنا في الخدمة العسكريّة.
وهنا.. بدأت "سينما حلب".. تعرض فيلماً سينمائيّاً.. للفنان"عادل إمام".. وكان اسم هذا الفيلم .."البحث عن فضيحة".. وكانت قصّة الفيلم.. مذهلة.. شاب يحبّ فتاة، وأهلها يرفضونه.. يتّفق الشاب مع حبيبته على إيهام اهل الفتاة..بأنّها متورّطة بالعلاقة مع حبيبها.. لدرجة انّها حامل.. وهنا مربط الفرس..الفضيحة
.. ولقد نجحت الفكرة في الفيلم.. أعجبتُ بهذه الفكرة.. شكرتُ
"عادل إمام" عليها.. فهي لم تخطر في بالي من قبل.. شاهدتُ الفيلم ثلاثَة عشر مرّة.. حينها.. قرّرت أن أقلّد ما حدث في الفيلم.. ذهبتُ ومن دون أن أنسّق مع مَن احبّ.. أصلاً لا مجال لي للاتّفاق والتخطيط معها.. ذهبتُ لعند جدّتي.. تظاهرتُ بالانزعاج.. والخوف.. والارتباك.. ولمّا سالتني:
- ما بك؟.
أخبرتُها... بكذبتي طبعاً.. وبأنّني في ورطة.. لقد وقعنا أنا ومن أحبّ.. في الخطأ..
جنّ جنون جدّتي.. غضبت.. وانزعجت
..وبكت.. ودعت علينا.. وقالت:
- بُكره.. يذبحونك.. أنت ومقصوفة العمر.
ومن شدّة ما وبّختني ة.. اثأوشكتُ أن أعترف لها.. بأنّني قد كذبتُ عليها.. لكنّها سرعانَ ما قالت لي:
- إيَّاك أن تتحدّث أمام أحد.. بهذا الكلام.. اترك الأمر لي.. وأنا سأجعل والدكَ.. أن يزوّجكَ بها.. وبأسرع وقتٍ ممكن.
فرحتُ.. طار عقلي.. بل جننتُ.. نعم.. لقد نجحت الفكرة.. الفضل.. كلّ الفضل يعود للعبقري "عادل إمام".. رائع أنتَ يا "عادل".. عظيم أنت يا"عادل".. سأتابع أفلامك دوماً.. ساشاهد الفيلم الواحد لك.. عشرات المرّات.. واقسمتُ أنّي لو ألتقيته يوماً سانحني على يده لاقبّلها
.. بفضله سأتزوّج من أحبّ.. قالت جدّتي:
_ اترك هذا الموضوع لي.
وتركته..وأنا في غاية السعادة والسرور.
لكنَّ جدَّتي ذهبت إلى أمّ الفتاة..
صارحتها بالحقيقة.. جنّ جنون الأمّ.. لطمت على وجهها.. صاحت.. صرخت.. بكت.. مزّقت ثوبها.. خرّت مغشياً عليها
.. اختنقت.. لم يعد بإمكانها التنفّس..
وحين صحت.. نادت على ابنتها.. سألتها.. حقّقت معها.. لطمتها.. ضربتها.. شدّتها من شعرها.. مزّقت لها وجهها.
وكانت فتاتي مصدومة.. مندهشة
.. مستغربة.. لا تعرف كيف تدافع عن نفسها.. فقد بكت.. وأنكرت.. وأقسمت لامّها.. وأكّدت بأنّها ما تزال عذراء.. مثلها.. مثل"مريم العذراء".
وطلبت منها أمّها.. أن تقدم على الانتحار.. تداركاً للفضيحة.. ولكي لا يبتلي بها احد من العائلة.
أخذتها الأمّ إلى (الداية).. القابلة..
والكلّ يؤكّد أنّ الفتاة.. عذراء.. طاهرة.
وانتشر الخبر.. بين النّسوة القريبات.. حتّى بلغ الخبر.. آذانَ الجدّة.. جدّة الفتاة.
ولذلك.. عندما سارع اهلي.. ليطلبوا لي يدها.. رفضتني الجدّة بشدّة.. وقالت:
- يجب على حفيدتها أن تتزوّج من رجل غريب.. حتّى لا يقولَ أحد ممّن سمع بهذه القصّة.. هذا إن تزوّجتها أنا.. بأني ما تزوّجتها.. إلّا لأستر عليها .
وهكذا أفقدني.. "عادل إمام".. من أحبّ... ولهذا تجدونني أنا ميتاً.. منذ أكثر من أربعين سنة.
إسطنبول
* صاحب حق..
زارني بصحبة (عمر) مرات متتالية
حاول أن يتقرب مني، دفع عني في المقهى، امتدح كتاباتي، تغزل بشكلي، قدم لي العديد من لفافاته، ومع ذلك لم أزره، رغم دعواته الحارة والمستمرة.
عانيت كثيرا حتى حفظت أسمه
أطلعت (عمر) على حقيقة موقفي منه، فعارضني وأكد بأن (صهيب) إنسان طيب، فهو رفيق طفولته، وصفته بثقل الدم، خالفني (عمر) بشد ، قلت في حزم:
ـ إنه لم يرق لي.
اتهمني (عمر) بالتكبر، تساءلت عن سبب نفوري منه، لم أعثر على جواب.. قال (عمر):
ـ هل تعلم.. هناك تشابه بينكما؟! وضحك.
طار صوابي، قلت منزعجا:
ـ لو تأكدت من أنه يشبهني، لانتحرت.
ضحك، وعاد ليتهمني بالغرور.
لست مغرورا، بدليل أني أصادق من هم أدنى مستوى من (صهيب).
اتهمت نفسي بالغيرة منه، فهو يقاسمني صداقة (عمر)، لكن (عمر) يملك أصدقاء عديدين غيره، فلماذا أكره (صهيب) وحده؟!.
كنت أهتاج من لطفه معي، من إبتسامته كلما التقت نظراتنا، وأكثر ما كان يغيظني اعتناقه لمبدئي، وإعجابه بكل ما يعجبني، وصلت إلى رأي قاطع:
ـ (صهيب)، مجامل ومتملق.
لم يوافق (عمر) بالطبع.
قررت أن أتحاشاه، لذلك طلبت من (عمر) ألّا يزورني برفقته، وأن لا يصطحبه إلى المقهى.
اشتعلت حنقا حين اكتشفت أن لقاءاتي (بعمر) قد تباعدت، فأدركت أنه يفضله عليّ، وأنا أحب (عمر) ولا أستغني عنه، عزمت على معاتبته، لكنه عند لقائنا، رفع إصبعه بوجهي:
ـ أنت السبب يا (محمود). هتفت مستغربا:
ـ أنا...؟؟؟!!!
ـ ألم تطلب إبعاد (صهيب) عنك؟.
ـ لكني لم أقل إبتعد أنت معه.
رد بصوت حاسم:
ـ (صهيب) أيضا صديقي.
تضاعف كرهي له ، فكرت أن أضع (عمر) بين خيارين، لكني تراجعت خشيت من ردة فعله، فماذا لو أنه اختار (صهيب).
قلت بتودد:
ـ عندما تعارفنا.. لم يكن (صهيب) بيننا.
قاطعني :
ـ أنت تعرف أنه كان مسافرا.
تجاهلت حنيني (لعمر)، حاولت أن أنصرف إلى غيره من الأصدقاء.
إسبوع مضى وأنا أرقب طلّته على المقهى، أنتظر قدومه إلى بيتي، وعندما تمددت فوق سريري، وجدتني أفكر بزيارته.
صدمت بوجود (صهيب)، الذي رحب بي بفتور، تأكدت أن (عمر) قد أطلعه على حقيقة موقفي منه، فأرجأت عتبي.
لم أكن مرتاحا لتغير موقف (صهيب) مني، فسألته عن أحواله وأخباره، ولأول مرة طلبت منه أن يلاعبني الشطرنج.
أحسست بسعادة غامرة، حين وجدته يعود إلى عفويته معي، ويعاملني كما كان في السابق.
تعمدت إنهاء السهرة، لحظة أراد (صهيب) وداعنا، خرجت برفقته، سرنا طويلا، تحدثنا، وعند بيته دعاني للدخول، قلت:
ـ رغم تأخر الوقت، سأدخل وأشرب القهوة عندك.
احتفى بي لدرجة أني خجلت من نفسي، أحسست نحوه ببعض المودة والإحترام، قدم لي ابنته البكر، قبلتها.. وداعبتها قليلا، ثم عرفني على زوجته رحبت بي، وطلبت أن تتعرف إلى زوجتي، لأن زوجة (عمر) حدثتها عنها كثيرا.
وقبل أن أنصرف، اتفقنا على موعد لزيارة عائلية.
نشبت صداقة قوية، بين زوجتي وزوجته، نجتمع نحن الثلاثة، في غرفة، بينما تجتمع زوجاتنا، في غرفة أخرى.
خلسة، أخذ (عمر) يعلق ويطلق نكاته، يذكرني بمواقفي السابقة، من (صهيب)، قلت ضاحكا:
ـ سبحان مغير الأحوال.
بعد فترة برزت أمامي مشكلة، زوجتي الحامل، تحتاج إلى عملية قيصرية، أسعفتها، واتّصلت (بصهيب)، سعدت كثيرا إذ وجدته يهرع لنجدتي، قائلا:
ـ اطلب من النقود ما تشاء.
كنت مسرورا لتجاوز الأزمة، بمعونة (صهيب)، فقضيت سحابة يومي في بيتي، ومخيلتي ترسم لي سعادة وردية، بقدوم طفلنا الرضيع، غفوت على عطرها، بعد يوم شاق.
كانت الساعة تشير إلى الثانية عشرة والنصف، عندما تنبهت إلى صراخ زوجتي:
ـ (محمود).. انهض، هناك من يطرق الباب.
قمت بتثاقل، كان (صهيب) واقفا، يحدق إليّ، اعتقدت أنه جاء بغية الإطمئنان، على وضع ربة بيتي، شعرت نحوه بالإمتنان.. واعتراني ندم شديد على مواقفي السابقة منه، افترت شفتايّ عن إبتسامة، لم تكد لتستقر، حتى استلّتها عبارته الصارخة:
ـ أهكذا زوجتك يا (محمود)؟!.. تدخل بيتنا لتسيء إليه!
شدهني كلامه هذا، جمدني، طير النوم من عينيّ:
ـ خير إن شاء الله!!!.. مابها زوجتي؟!؟!.
رد بانزعاج:
ـ تصف زوجتي بالبرودة، وثقل الدم!!!.
اغتصبت إبتسامة باهتة، عساني أعيده إلى توازنه:
ـ من قال لكم.. هذا الكلام الفارغ؟!؟!.
أجاب.. وكله يرتعش:
ـ (صباح).. زوجة (عمر).
همست معاتبا:
ـ أجئتني الآن.. من أجل هذا القول التافه؟!.
صاح كمن فقد رشده:
ـ أنا أريد نقودي... لأنكم تتنكرون للمعروف.
دارت بي الأرض، دلق إبريق من الماء المثلج على ظهري،قلت وحنجرتي تكاد تنفجر:
ـ حاضر يا (صهيب).. غدا أدبّر لك المبلغ.
صرخ وكأن عقربا لدغته:
ـ أنا لست مستعدا للإنتظار، طالما زوجتك تكلمت عن (غادة).
فار الدم في عروقي، تذكرت نفوري منه، الآن فقط عرفت السبب، احتقرت نفسي، لأني رضخت (لعمر)، ووطدت علاقتي به، حقدت على ظروفي التي جعلتني احتاجه:
ـ هل أقرضتني النقود، حتى تذلني؟!.
زعق بوجهي، وكأنه يريد أن يوقظ سكان الحارة:
ـ أنا منذ البداية، قلت (لعمر)، إنك لا تصلح لي صديقا.
قهقهت أعماقي المتخمة بالقرف
، شعرت بازدراء نحوه، هتفت:
ـ الحمد لله إنها جاءت منك.. غدا أبعث لك نقودك.
دس يده في جيب سترته، أخرج ورقة:
ـ اذاَ... وقع لي على هذا الإيصال.
امتدت يدي الراعشة... وبدل أن تطال الورقة، طالت خده.

مصطفى الحاج حسين .
حلب.



الفهرس:
______________________________
01 - مقدمة: محمد بن يوسف كرزون
02 - تل مكسور
03 - حرمان
04 - ثأر
05 - عادل إمام حرمني من حبيبتي
06 - صاحب حق.
مصطفى الحاج حسين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى