د. عبدالواحد التهامي العلمي - عبد الحكيم راضي قارئا لحسين المرصفي (2 )

(2 )

تقديم
سعى عبد الحكيم راضي في قراءته لكتاب"الوسيلة الأدبية إلى العلوم العربية " إلى إثبات أن المرصفي، في تعامله مع التراث، لم يكن تقليديا بل كان صاحب موقف نقدي؛ ينتقي وينتقد. ويبدو أن الباحث في هذه القراءة يسير على نهج آثَرَ السير عليه منذ دراسته السابقة "النقد العربي وشعر المحدثين في العصر العباسي، محاولة لقراءة جديدة"، عندما خاض حوارا مع الدارسين في أحكامهم على موقف النقاد القدامى من الشعر المحدث؛ فقد سعى في هذه الدراسة إلى إعادة النظر في هذه الأحكام وإعادة فحص المواقف النقدية القديمة وفهمها في سياقاتها. ولعله هنا أيضا يحاور ضمنيا مواقف نقدية معاصرة حول المرصفي وكتابه "الوسيلة الأدبية"، ويعيد النظر في أحكام نقدية غير دقيقة، ويكشف عن شخصية ناقد أصيل ينبغي ألا نتلف بصماته ونضيع جهوده في حقل الدراسات الأدبية. ينبغي أن ننظر إلى قراءة راضي للمرصفي في سياق مراجعة الباحث للأحكام النقدية السائدة وتصحيح الرؤية.

3- قراءة المرصفي لابن خلدون
تقوم قراءة المرصفي على الانتقاء والانتقاد؛ فهو ينتقي من آراء ابن خلدون ما يناسب موقفه وينتقد ما يخالفه فيه. وقد خصص الباحث أربعة فصول لقراءة المرصفي لابن خلدون (الفصل الرابع والخامس والسادس والسابع). في البداية يلخص راضي الأسباب التي كانت وراء اختيار المرصفي لنص ابن خلدون في ثلاثة: سبب تعليمي، وسبب تنظيمي، وسبب فني.
لقد بين الباحث التأثير الذي خلفه ابن خلدون في تفكير المرصفي في جميع المجالات، وأن هذا التأثير لم يقتصر على مجالات التعليم والشعر والأدب في كتاب (الوسيلة)، وإنما شمل مجالات الحديث عن السياسة والتربية والاجتماع.
ومن الآراء التي أفادها المرصفي والإحيائيون من مقدمة ابن خلدون رأيه في أن ملكة اللغة أو ملكة الشعر تحصل بقراءة النصوص الراقية وليس بحفظ قواعد النحو أو البلاغة أو العروض والقوافي.
وعلى الرغم من أخذ المرصفي عن ابن خلدون إلا أنه عارضه في عديد من آرائه، كمفهومه للملكة والذوق، وتصوره للأسلوب بين الجمود والتطور، ووحدة البيت.
الملكة والذوق
يعترض المرصفي على تصور ابن خلدون لملكة الشعر التي يرى أنها ملكة صناعية تحصل بحفظ كلام العرب وأشعارهم. ويؤكد بصدد اختلافه مع ابن خلدون، أن الملكة نتاج الموهبة والاستعداد الطبيعي للشاعر؛ كأن يتوفر على "حافظة قوية"، وفهم ثاقب"، و"ذاكرة مطيعة"؛ فهذه العناصر الثلاثة، هي التي تهيئ الشاعر لحذق الشعر؛ فابن خلدون "يركز في كيفية اكتساب الملكة"، والمرصفي "يوافق بشرط الاستعداد الطبيعي أولا، إذ بدون هذا الاستعداد لا يُجْدِي تحصيل ولا حفظ". ووصاية المرصفي للشعراء تتمثل في أن يحفظوا ما استطاعوا من الشعر القديم، ثم ينسوا بعد ذلك ما حفظوه لأجل أن يتخلصوا منه لينتجوا بعد ذلك شعرهم الخاص المتميز، شعر الحياة والمعاناة؛ "فالشعر معاناة وصقل ومران بالإضافة إلى أنه طبع وموهبة".
لكن على الرغم من عدم اتفاق المرصفي مع نظرة ابن خلدون إلى الملكة، فإنه تبنى برنامجه بضرورة تثقيف الشعراء، وصقل مواهبهم، وإعطاء أولوية كبيرة إلى أهمية المطالعة والحفظ لآثار القدماء، لأن قواعد اللغة والعروض والبلاغة غير كافية لتحصيل ملكة الشعر. وإذا كان ابن خلدون يركز على الحفظ، فإن المرصفي يؤكد على ضرورة الاستعداد الطبيعي. وفي هذا السياق يتحدث عباس محمود العقاد عن الشاعر البارودي الذي لم ينظم الشعر لأنه تعلم النحو والصرف والبلاغة والعروض، "ولكنه تعلق بالشعر عن هوى وسليقة وأتقن أوزانه ونغماته بموسيقية مطبوعة تظهر في صياغته كما تظهر في اختياره لشعره".
وهناك مسألة أخرى خالف المرصفي فيها ابن خلدون حين اعترض عليه في مفهوم (الذوق)؛ فهو في نظر ابن خلدون مكتسب مثل الملكة، ولكنه في نظر المرصفي "موهبة طبيعية". يقول الباحث: "الذوق –أو الملكة في أعلى مراحل رسوخها- موهبة طبيعية، إذن، في نظر المرصفي، شأنه شأن الملكة، وهو –مثلها- ينمو بالممارسة والدربة، ولا ينشأ من فراغ، وبذلك تتسق نظرة المرصفي هنا مع نظرته إلى الملكة، تماما كما يتسق موقفه من كليهما مع النزعة التي سادت في تلك المرحلة الإحيائية المبكرة، تلك النزعة التي تمثلت في رد الفعل العنيف ضد القواعد النظرية، سواء قواعد النحو أو العروض أو البلاغة، مع التركيز- في مقابل ذلك- على الموهبة الفطرية".
لقد كان المرصفي مقتنعا بدور الذوق في تناول الأعمال الأدبية، وعقد الموازنات بين الشعراء مستندا في ذلك إلى تجربته الذاتية، وذوقه، وشعوره، وخبرته التي راكمها بفضل تمرسه بمختلف النصوص الأدبية؛ فالناقد "لا يُقْبِلُ سوى على أعمال حازت رضاه"، فيُقبل على قراءتها ودراستها والتمعن في أفكارها ومعانيها، مستندا في ذلك إلى ذوقه وشعوره الوجداني، وتجربته الطويلة. وهكذا أسهم المرصفي في خلق ثقافة الأدب والنهوض بالحياة الأدبية والفكرية في عصره وفي العصر الذي تلاه.
تصور المرصفي للأسلوب بين الجمود والتطور
كان المرصفي قوي الشخصية، ولا يسلم تسليما مطلقا بكل ما جاء في نصوص القدماء من أحكام نقدية؛ إذ كان له موقفه النقدي الخاص، كمعارضته رأي ابن خلدون الذي يخرج شعر المتنبي وأبي العلاء المعري من دائرة الشعر، مدعيا أن شعرهما لا يسير على أساليب الشعر المعروفة. "كان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء، لأنهما لم يجريا على أساليب العرب من الأمم، عند من يرى أن الشعر يوجد للعرب وغيرهم، ومن يرى أنه لا يوجد لغيرهم، فلا يحتاج إلى ذلك ويقول مكانه: الجاري على الأساليب المخصوصة".
والمؤكد –حسب راضي- أن المرصفي لم يقبل تعليل ابن خلدون في تجريد صفة الشاعرية عن المتنبي والمعري، مشيرا إلى أن أساليب الشعراء تختلف في ما بينها، وأن من حق كل مبدع أن يكون له أسلوبه ووسيلته في التعبير عن ذاته وتجربته؛ فلكل شاعر أسلوبه الخاص الذي يميزه من الآخر، إذ لا وجود لطريق معينة يلتزمها الشعراء. وهكذا يتضح أن المرصفي يخالف ابن خلدون في مسألة الأساليب التي حصرها في قوالب جاهزة معينة ينبغي التقيد بها وعدم الخروج عنها، بينما يرى المرصفي أن الحصر غير ممكن ، وأن مخالفة ما هو موجود من الأساليب بالتجديد والإضافة، هو طريق مشروع يسلكه الشعراء لتجديد وسائل تعبيرهم وأساليبهم. وإذا كان لكل شاعر أسلوبه الخاص ورؤيته الفريدة، فإن من واجب الناقد الأدبي أن يضطلع بمهمة جعل المتلقي يتَعَرَّفُ خصوصية عالم الشاعر.

د. عبدالواحد التهامي العلمي

نشر في جريدة " الشمال " التي تصدر ورقيا كل أسبوع يوم السبت بمدينة طنجة. تم نشر الدراسة يوم السبت 23 دجنبر 2023 ،




1.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى