حسام المقدم - هناك حيث ينتهي النهر..

لمريم عبدالعزيز التي لا أعرفها، لروايتها التي ستبقى تطوف في الجوار وعلى البعد وبامتداد الاوقات، بعوالمها السردية الأسيانة.. لمريم وروايتها عقد فُل من الذي كان "حسين" يُهديه ل"جميلة" في أوقات الصفاء قصيرة العمر، قبل أن يبتلعه البحر وحلم الهجرة والهروب من كل شيء، في "رشيد"، المدينة الموعودة بالفقد، الحاضنة للنهر والبحر، لتأخذ من كليهما قَدَرا ولعنة، لأبنائها المولودين فيها، والأغراب الوافدين، كحال "سلمى" في رحلتها للبحث عن قبر أبيها، بحث عن وجود، جِذر، وتد يشد إلى أرض، بدلا من صفحة الماء الغدّار وعيون الجارات على شابة قاهرية وحيدة، وكحال "حامد" مدرس التاريخ الإسكندراني القادم إلى رشيد فرارا من قهر أزلي يسير فيه على خُطى أبيه الرافض المناضل، بما يُذكّرنا بأبطال روايات الانكسار والهزيمة لدى أجيال سابقة. رشيد تلفظ أبناءها، والأغراب من كل الجنسيات الحالمة بشاطئ المتوسط الأوروبي البعيد. تبدو المدينة لاهثة نحو الفرار واستقبال الفارين، في لحظة زمنية صعبة، يعيشها الجميع في الزمن الحالي، ليبقوا مهزومين، تلك الهزيمة التي لم تُمت الحياة فيهم، بقدر ما يغويهم البحر من جديد لمواصلة المشوار.
حامد مدرس التاريخ الممسوس بمحاولة إرجاع التلاميذ الهاربين للبحر، وأم بطة غرق عماد ابنها من عامين ولا تزال تذهب للمستشفيات تُقلب في جثث الغرقي العائدين، وجميلة تنتظر حسين الغريق، بل وتذهب إليه في النهاية التراجيدية، "سامحوني، أنا رايحَة أَدوَّر على حسين"، لتعود جثة ضمن جثث لا حصر لها. العائلات السورية والسودانية والجنسيات الأخرى المارة بالمدينة، كمحطة ترانزيت قبل رحلة المصير الأسود، وأخيرا سلمى الباحثة عن قبر أبيها، والتي تصل في النهاية إلى نتيجة أن الحضور والغياب قرينان، "كل حضور مرهون بالغياب"، فقبر جميلة صديقتها سيكون قبرا لكل الأحباب، لهم جميعا ستقرأ الفاتحة، وستظل مع حامد هناك، حيث ينتهي النهر، لتبدأ الدائرة بهما من جديد، تعويضا عن فَقْد مُتسلسل بدأ بعلاء المُحبَط وانتهى بعادل زميلها في مهنة الصحافة.

1.jpg

تكتب مريم بسلاسة وانسياب سردي يتوارى خلفه مجهود كبير، يمكن ملاحقته في السطور والعبارات الدالة على رؤية للوجود وواقع الحال، كما يمكن ملاحظة تقنيات السرد الحميمي غير المفتعل، في تنويع الضمائر، من الغائب الراصد للشخصيات المحيطة، إلى المتكلم على لسان سلمى، باستثناء صوت وحيد آخر سيتكلم في عدة فصول هو مُدرس التاريخ حامد، كمُشارك مؤثر لا يُمكن أن يتكلم أحد نيابة عنه.
لهذه الرواية، لأطيافها الحميمة، ولغتها ولقطاتها وفصولها القصيرة التي هي من لحمنا ودمنا، لكل هذا تستحق التذكير: هذه الرواية مرّت من هنا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى