عبدالرحيم التدلاوي - معالم الكتابة الروائية في "المحارب القديم "لتوفيق باميدا.

يتميز توفيق باميدا بقدرة على السرد، في بناء عوالمه الواقعية والتخييلية، وقد تشكلت هذه العوالم من ثلاث حكايات؛ الحكاية الأولى تتحدث عن الابن الهارب من بطش و تسلط أبيه، بسبب الذئب الماكر الذي أكل بعض الماشية، فرغم التحذير والوعيد إلا أن الطفل لم يكن مستعدا لهذا الامتحان الذي يتجاوز عمره. الحكاية الثانية تتحدث عن انخراطه في العسكر الفرنسي ومغادرة المغرب والمشاركة في الحرب ضد الفيتمين؛ وقد أبدى شجاعة مكنته من الحصول على نياشين تشجيعا له واعترافا ببطولاته. أما الحكاية الثالثة فتتحدث عن قصة حب بوعزة لكاترين وانتهائها بالفراق ليتزوج بوعزة بحليمة الحبيبة البديل ويكون معها أسرة كبيرة تتكون من سبعة أنفس. وضمن هذه الحكاية يرسم عادات وتقاليد المنطقة.
لقد امتدت أحداث النص روائي بفصوله الثلاثة لمدة تبلغ السبعين سنة، تنطلق من طفولة الشخصية المحورية لتصل إلى شيخوختها وتقاعدها عن العمل كحارس لمدرسة ابتدائية.
والرواية بمحطاتها الثلاث كانت فرصة للانفتاح على الفكر والتأمل واستنباط الحكم من تجارب الحياة، ولعل الأسئلة المبثوثة في حنايا المتن تؤكد حضور وعي الشخصية بما يجري حولها. والمثير للانتباه أن السؤال المحوري والهام جاء في قلب الرواية أي في الوسط مؤكدا بذلك أن الرهان يتمثل في السبب الذي يدفع أشخاصا الانخراط في صفوف جيش يستعمر بلدهم، ويقاتلون إلى جابنه شعبا لا يضمر لهم أي عداوة. فبدل مقاومة المستعمر يتم تقويته بالانخراط فيه، وإنجاح برامجه الاستعمارية والعدوانية.
ففي ص 110 يتعملق سؤال/ أسئلة: لم نحارب ولأجل من؟ والفصل بأكمله يتأسس علي هذا الوعي المنبثق من بين صلب الموت والحياة. وبه يتم الإندفاع لمواصلة القتال بتجديد عقده مع الجيش الفرنسي. كما أن تجديد العقد هو استمرار للفرار من الأهل و من البلد في ظروف الاستعمار القاهرة.
السؤال المنتصب وسط الرواية، إذا، هو بمثابة قلب العمل وروحه.
مشاركة المغاربة الجيش الفرنسي حروبه هو جزء من تاريخنا. واحتفاء به ويستوجب توثيقه. لا ينبغي إهمال مشاركة المغاربة في حروب المستعمر وما قدموه له هو ناكر الجميل.
مكونات الغلاف:
جاء الغلاف الأمامي باللون الابيض وقد حمل علامات لسانية وغير لسانية؛ فغير اللسانية تتمثل في صورة جندي بلباسه العسكري يحمل رشاشا ويضع قدمه اليمنى بوثوق فوق جذع شجرة يابسة؛ نظراته الصارمة تنظر إلى البعيد؛ وملامحه آسيوية. ثم يأتي القرص الأخضر وكانه علامة ضمانة تؤكد كما الصورة على واقعية الأحداث. في وسط أعلى الصفحة يرد عنوان الرواية باللغة الأنجليزية رغم أن المحارب ينتمي للجيش الفرنسي؛ وتحت العنوان تأتي ترجمته باللغة العربية وبخط عريض. مكتوب بالأخضر بخلاف العنوان الأنجليزي الذي كتب بالأسود كما اسم الروائي الذي تمركز يمين الصورة وفوق قرص الضمانة وباللون الاسود كتبت دار النشر.
وبالنسبة للعنوان يستشف منه أن السرد سيكون استرجاعيا باعتماده على الذاكرة بيد أن العناصر التي تخبرنا بواقعية العمل لا يمكنها أن تقف في وجه التصرف بالحكاية تقديما وتأخيرا.. إضافة إلى جدلية التذكر والنسيان؛ بمعنى إخضاع الحكاية إلى سلطة الاختيار؛ وإعادة ترتيب أحداثها وفق نسق سردي مخصوص فضلا عن اعتماد اللعبة السردية والمتجلية في التلاعب بالأحداث ضمن ترتيب يستجيب للفن الروائي. ثم إن اللغة ستعيد تشكيل الحكاية بضبط إيقاعها لتنسجم والفن الروائي.
وعليه، يمكن القول إن السرد هو نوع من اللعب بالحكي، أو هو «الحكي الممنهج» كما سمّاه تودوروف، حيث لا يملك الروائي إلا حيازة الأدوات التي تجعله صانعا مختلفا لذلك الحكي.
ورغم أن في «الحكي» شذرات سردية، إلا أنها تبقى محكومة بعوامل مشافهته للزمن وللمكان، وهو ما قد يتقاطع ورهانات «التأليف السردي» بوصفه عملا فنيا يتطلب وجود أدوات وخبرة وقدرة على تحويل الحكي إلى «نص» له شروطه البنائية وعوالمه وشخصياته، فضلا عن أن السرد كفعلٍ فني يُعيد ترتيب تشكّلات المكان والزمن والحدث، ضمن السياق الذي يتطلّبه فعل التأليف الروائي. *
أما إذا انتقلنا إلى الغلاف الخارجي فسنجد بالأعلى جهة اليمين عنوان الرواية بالأخضر حيث كلمة القديم تأتي تحت المحارب؛ كما ورد بالغلاف الأمامي لكن الحروف هنا جاءت بحجم اقل؛ وبعد ذلك يأتي مقطع صغير مأخوذ من الرواية وتحته على اليمين صورة المؤلف الشاب وجنبه على اليسار سيرته الذاتية بشكل مقتضب وتحتها عناوينه الإلكترونية للتواصل معه؛ وفي الأسفل على اليمين يحضر لوغو دار النشر وقبالته كود بار. تلك اهم مكونات الغلاف الأمامي والخلفي.
انطلاقا من مكونات الغلاف يتبين علي أن هناك تأكيدا علي واقعية الأحداث. كما أن النص الروائي يتضمن علامات تعبر عن ذلك منها أسماء المدن والدول كمكناس وتازة وزعير وباغود وستراسبوغ والمغرب وفرنسا وألمانيا والسنغال والفيتنام. وأسماء الشخصيات كالضابط بندريس وجاك شيراك وابن عرفة وغيرهم؛ وسرد بعض الأحداث التاريخية المرتبطة بالحرب العالمية الثانية كإنزال النورماندي، وحدث الاحتفال باستقلال المغرب، فضلا عن التواريخ المثبتة والمرتبطة إما بأحداث عامة، وإما بأحداث خاصة لها مرجعيتها الواقعية المتحققة.. إلا أنه سيكون من الإجحاف عد الرواية واقعية بمعني النقل الحرفي والموضوعي لما وقع لأن ذلك لن يقود إلا إلى نسخ الواقع؛ وكل نسخ لن يكون سوى باهت؛ يفضل عليه الواقع الأصلي.
من المؤكد أن أيّ رواية لا تخلو من الحدث ولا من الخبر، لكن ربط الخبر والحدث بفاعلية التمثّل السردي، هو الأفق المختلف الذي يتقشّر فيه الحكي، أو الحدث أو الخبر من مباشرته وعموميته، ليبدو في لعبة السرد مفتوحا ومكشوفا على مجاورات مغايرة، تستفز المكبوت والمقموع لتدفعها إلى ما يشبه كتابة الاعتراف، ليس للاتساق في سياق الزمن، بل في إطار الاشتغال الذي يتجاوز الحكي إلى لعبة السرد بوصفه تجاوزا قائما اصطناع سلسلةٍ من المباني التي تستدعي الأناسي والنفسي والاجتماعي، وحتى اللغوي بوصفه مجالا تتحرك فيه كثير من العلاقات والعلامات. **
العمل الروائي قيد القراءة يتكئ علي الواقع ليبني عوالمه التخييلية التي ترفع الحكاية إلى مصاف الفن الروائي باعتماد اللعبة السردية المتجلية في التصرف عن طريق الحذف والإضافة؛ والقدرة علي الوصف الدقيق المعبر عن النفس الإنسانية اثناء قوتها وضعفها. فالعمل الروائي جماع الواقعي والتخييلي.
صحيح أن السرد في معظمه كرونولوجي ينطلق من طفولة السارد بوعزة إلي حين كبره؛ لكن هذا السرد المتتابع يستضمر تلاعبا فنيا. فقبل الفصل الأول نجد أنفسنا في قلب المعركة مع ساردنا الذي عاش لحظات إغماء بفعل قنبلة نجا منها. لينفتح الفصل الأول علي طفولته القاسية وكيفية تخلصه من أسرته في هروب يستمر حتي حين يكبر وينخرط في صفوف جيش الاستعمار لمحاربة شعب لا علاقة له به. ثم يأتي مقطع يتحدث عن ابن السارد الذي يراسل فرنسا كي يحصل أباه علي معاش محترم كمعاش الفرنسيين، وهذا المقطع له علاقة بما سيرد في نهاية الرواية، مما يؤكد على بعد الرواية التخييلي القائم على التقديم والتأخير والمتحرر من سطوة الحكاية.
وبعد ذلك نجد أنفسنا في رحلة السارد مع الجيش الفرنسي مرة في الجبهة الهند الصينية ومرة في الجبهة الالمانية فالعودة إلي الجبهة الأولي ودائما هروبا من وطنه.. إن السرد يتكسر قليلا؛ وإذا كان قد اعتمد الاسترجاع بضمير المتكلم بغاية الإقناع بواقعية الاحداث فإننا نعثر علي الحلم والمقارنة والوصف والحوار بنوعيه. وهي من مقومات الرواية التخييلية.
لكن الرواية ظلت به مونولوجية بسبب اعتمادها على السارد الوحيد الذي أدار دفة السرد من البداية إلى النهاة بضمير المتكلم حتى يعطي صبغة الحقيقة على الأحداث ويؤد واقعيتها، ويجعلنا ننخرط فيها ونشاركه إياها. صحيح أنها فسحت المجال لبعض الأصوات كما في حكاية الألماني عن قناص من دولته يعيش لحظات صعبة وهو ينتظر ظهور الضابط السوفييتي، لكنه سرعان ما يستعيد زمام السرد والمبادرة.
لقد كان ساردا مشاركا ومهيمنا في الوقت نفسه، وفي هيمنته يشبه أباه الذي تميز بالقسوة والعنف في علاقته به، بخلاف صورة أمه الفقيدة التي تميزت بالرقة والعذوبة والرأفة والحب. ولن يكرر بوعزة صورة أبيه في علاقته بأبنائه وأحفاده، بل سيكون معهم عطوفا ومتفهما، الأمر الذي أثمر أسرة متماسكة وقوية، وجعل كل أفرادها ناجحين في حياتهم.
وليبعد الملل عن القارئ من لغة النار والبارود، تم تضمين الرواية قصة حب ترفع جفاف الأحداث العنيفة سواء تلك التي عاشها بوعزة في طفولته أم تلك التي خاضها في الهند الصينية وضد الالمان. قصة حبه كاترين جاءت بعد التحاقه بالالزاس وتعرفه على عبد الرحمن المتحدر من الأطلس إذ صار رفيقه في حياته هناك. يتنقلان بين الثكنة والمقهى وهنا وجد بوعزة محبوبته التي أدركت بحسها وحدسها الأنثوي معنى نظراته وساعدته علي التواصل معها بحركات ذات معنى وتركت له فرصة البوح ومن بعدها التواصل خارج فضاء المقهى حيث الرقيب. حكاية الحب هاته تمنح فرصة للسارد لكسب اهتمام القارئ والإبقاء علي تواصله ومتابعته لفصول الرواية كاملة. وقصة الحب هاته، حظيت بطول محترم إذ أخذت أربعة أجزاء أو مقاطع من الفصل الثالث والأخير.
تنتهي قصة الحب بانفصال العاشقين لاختلاف في تقييم مكان الإقامة؛ وتفضيل بوعزة العودة إلي الوطن ليتزوج بحليمة التي ستنسيه كاترين؛ وهو هروب من نوع آخر.
إن اختيار بوعزة العودة إلى الوطن وانفصاله عن كاترين رغم حبه لها نابع من نبضات العاطفة التي تغلبت على العقل، وباختياره هذا يؤكد أن الإنسان ليس محكوماً بالعقل بل بالرغبة، التي توصف بأنها النزوع للحفاظ على الكينونة.
يلون بوعزة مستقبله باللون الوردي حيث يحلم أنه سيعيش سعيدا بماله وأرض أبيه؛ لكن الخيبة ستكون من نصيبه لقسوة أبيه المتجددة؛ فقد تصرف في أملاكه بشكل جنوني جعل الإرث يضيع كاملا.
وإذا كانت الغلبة للسرد الاسترجاعي فإن هذا الاستباق جاء للحد من سطوته ليكون للمستقبل حضورا ما وتلوينا فنيا ضروريا إلا أنه كان استباقا مخيبا للأفق؛ فقد توقع بوعزة كما القارئ أنه سيحصل على إرث سمين ينسيه عذابات الماضي لا سيما وأن أباه قد استقبله استقبالا عظيما في إحدى إجازاته حين يشتغل في الجيش الفرنسي، لكن العكس هو الذي حصل إذ حرمه وأخاه من الميراث.
النصّ الروائي نص مثير يمتحنُ ضمير الشخصيات ويهزّ القارئ بحكاية لها عواقب عميقة في عالم اليوم. كما أن الكاتب أتقن في سرده حدثا شبه مجهول، لم يتطرق له سوى القلة القليلة، في التاريخ المغربي؛ إنه حدث مشاركة الجنود المغاربة في حرب فرنسا ضد الفيتمين صحبة جنود آخرين من مستعمرات هذا الإمبراطورية الإمبريالية، ونضالهم لتسوية أوضاعهم وجعل معاشهم يساوي معاش الفرنسيين، وقد تحقق بفضل نضال قدماء المحاربين وبفضل الفن السينمائي والروائي في فترة حكم الرئيس جاك شيراك.
رواية مشوقة بلغة انسيابية ذات نفحات شاعرية، أما الأحداث فتميزت بالتسلسل والواقعية، جعلتنا نعيش أهوال الحرب الهند الصينية وما يعيشه الجندي من مخاوف وأخطار أثناء عمله بفعل دقة الوصف الداخلي والخارجي، وأبرز مثال على ذلك قصة القناص الألماني وهو يترقب ظهور الضابط السوفييتي....


1_ المحارب القديم، رواية لتوفيق باميدا، عن دار النشر ملهمون. الطبعة الأولى سنة 2022.
• و** علي حسن الفواز، الرواية… سردنة التاريخ وفاعلية المُتغيّر، القدس العربي، الأحد 28 يناير سنة 2024



1.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى