مصطفى الحاج حسين - (سيرة موتي).. مجموعة شعريّة..

* سيرةُ موتي..
كم غَرَفَتْ من دمعي الأيام؟!
وكم نَهَبَتْ من قواي؟!
كأنها ما أحَبّتْ شغبي!!
سَرَقَتْ لي مقعدي المدرسي
وَسَلّمَتْ طفولتي لحضنِ الشقاءِ
حَمَّلَتْني أحجاراً بثقلِ الأرضِ
صَعدتُ سلالمَ الأنينِ
وأدراج اللهاث
وكانتْ أصابع كفي
تبكي طوال الوقت
من تعبٍ يجزّها كالسّكينِ
وساقايّ ترتجفانِ من وهنٍ أليمٍ
كنتُ أحملُ الأحجارَ ك "سيزيف"
على وقعِ زعيقِ أبي:
- عجّل يا ابن الكلب
عرقي يقطرُ من روحي
بضراوةٍ كانَ الغبارُ
يلتهمُ وجهي المحروق
من فحيحِ الشّمسِ
وسخرية العمال من ضعفي
كانتْ تلازمُ قلبي
وحدها القطط..
كانتْ تشفقُ عليّ
وأمي لا تتدخل بشأني
سلّمت أمري لأبي
ما كانتْ تجرؤ أن تدافعَ عن نفسها
فكيفَ تحمي أولادها؟!
حَفَرتُ قصائدي على الجدرانِ الطّريةِ
بالمسمارِ..
ريثما أحضر دفتراً وقلماً
بالخفاءِ عن والدي
وكانَ الحبُّ..
عقوبة ليفاعتي
الحبُّ البريءُ المستحيل
تحوّلَ إلى سكينٍ
مزَّقَتْ صدري..
وكانَ ما شاءه أبي
من فراقٍ واحتراقِ قلبٍ
وبكاءٍ..
سيستمرُ أجيالاً
تَعَلّمتُ..
أنْ أتذوقَ الموتَ
كلّما..
أقدَمتُ على الحياةِ.*
إسطنبول
* عطر النبض..
بعضُ الموتِ في الشّوقِ
والكثيرُ من الألمِ
الدّمعُ يفتحُ الأبوابَ للنّارِ
والنّارُ تُشعِلُ أسئلتي
مَن يعوّضُني عن هذا الغيابِ؟!
ويمنحُني عمراً آخرَ!
مَيِّتٌ أنا منذُ افترقنا
وما كانَ وداعاً بيننا
ولا قبلاتٌ لوَّحت لنا
كيفَ تجرّأَتِ الأرضُ على إبعادِنا؟!
والمسافاتُ اقتلعَت أرواحَنا
ماكانَ على الدّروبِ أن تأخذَنا
ولا كانَ على الشّمسِ
أن تدلَّنا على سراديبِ الاغترابِ
أعتبُ على الغيمِ الذي
لم يمسك بخطاوينا
حتّى الهواء
كانَ عليهِ أن يسدّ لنا وجهتنا
وعلى اللّيلِ كانَ
أن يعثّرَ غصّتنا
ويبعثرَنا في الاحتراقِ
يُفتَرَضُ بأشجارِ الفستقِ الحلبيِّ
أن تقيّدَ لنا الأرواحَ
وأن يرغمَنا الياسمينُ
على الإقامةِ الجّبريّةِ
كانَ على الحدودِ
القبضُ على نبضِنا
الهاربِ
وإرغامِ حنينِنا على العودةِ
كانَ بمقدورِ الفراشاتِ
فعلُ شيءٍ لِتُبقينا
والقدودُ الحلبيةُ والموشحاتُ
يمكنُ أن تلعبَ دوراً
ما كانَ علينا أن نغادرَ
الموتُ أهونُ من غربةِ الكرامةِ
القذائفُ المتفجّرةُ
أرحمُ من لغةٍ تجهلُ مشاعرَنا
توزَّعنا على رمادِ خيبتِنا
هويّتُنا فقرُ حالِنا
وانكسارُ خاطرِنا
ننتظرُ مَن يتكرَّمُ علينا بالإشفاقِ
نتعرَّضُ لكلِّ أصنافِ التّفرقَةِ
لا تَحِقُّ لنا لغتُنا
لا علمَ وطنَّياً يرفرفُ فوقَ أحلامِنا
ولا نشيدَ نردِّدُهُ في الغربةِ
غريبٌ أنا يا حلب
مِن بعدِكِ صرتُ اللاشيءَ
وربّما أقلُّ منهُ وأدنى مرتبةً
لا يحقُّ لي أن أرسمَ قلعتَكِ
على جدرانِ الغرباءِ
وممنوعٌ أن أغنّي "إسق العطاش"
غربتُنا إذلالٌ لسيفِ الدٌولةِ
وصلاحُ الدّينِ على سوريةَ يبكي
أعِدنا يا اللهُ لحضنِ أمّنا
سنكنسُ تربتَها بمناديلِ الرّوحِ
ونقبِّلُ أيدي أشجارَ الزّيتونِ
زيتونةً زيتونةً
ونرشُّ على القلعةِ
عطرَ النّبضِ
حلبُ يا الله
هي نسمةٌ يتنفَّسُها الملائكةُ
هي نجمةُ الكونِ بلا منازع
وضحكةُ الدُّنيا الصّافية
تفّاحةُ الشّرقِ
عروسُ السّماءِ السّابعةِ
القمرُ قطعةٌ من حريرِها
النّدى
أنفاسُ صباحاتِها
حلب
الجنّة الأولى للعرب.*
إسطنبول
* لو أنكِ تأتين..
لو أنّكِ تأتينَ
سيحتفي بكِ الهواء
وتتفتّح مسامات النّهار
ويرفل الضّوء بضحكته
وتنبثق أهازيج الأرض
يستقبلك الفراش بالرّقصِ
وينحني الورد لطيبك
ترفرف السّماء بفرحتها
ويتعالى شهيق الوقت
سيؤذن النّدى صلاة الحبّ
وتقرع أجراس الرّوح
ينمو الياسمين على أطراف الغبطة
وتثمر أشجار اليباس
تلوّح لكِ الأماني الباكيات
يزغرد الحزن مرّة في العمر
وتمحى تجاعيد الحنين
يلثم الشّوق أنفاسكِ الرؤوم
وستبرأ دمعتي من أوجاعها
يتنشق قلبي
سحاب أنوثتكِ
لو أنكِ تأتينَ.*
إسطنبول
* الملاذ..
سأهدي للموت أسراري
وصرة ذكرياتي الخاصة
وسأدله على مخابىء أحلامي
وأعطيه حفنة من القبلات
هو وحده من سينتشلني من محنتي
ويتفهم ما معنى أن يعيش العاشق
بعيداً عن بلده
الموت ذو قلب رحيم
سيخفف عني عذاباتي
وسيطوف بروحي في أرجاء المدينة
التي طالما كتبت عنها
أعطاني وعداً أن أقف
على باب قلعتها
أصافح كل من جاء لاحتضانها
الموت صديقي الوحيد
أثق بشهامته
وأسلمه أنفاسي دون خوف
سيزيل عني غبار الدنيا
ويمضي بي إلى صحبة أبي وأجدادي
لن يأخذ أجراً على حملي
سيحميني من كلّ سوء
يبعد عني الأوجاع
وينزع الغصة من حناياي
لن يعكر صفو رقادي
سأطعم الموت من بسمتي
وأغني له المواويل
والقدود الحلبية
هذا الموت أنا اخترته
ملاذي الأخير في الغربة
لولاه..
كم عليّ أن أبكي على بلادي؟!
التي طحنها الدمار
وصارت مرتعاً للغرباء الطامعين
قتلوا مالا يحصى من شهداء
عاثوا فساداً بالندى
هتكوا ستر الكرامة
نهبوا سنابل التاريخ
وأغرقوا النسائم بالدم
الموت أعطاني موعداً
وقال لي:
- تأهب
وأنا أحترم المواعيد
لا سيما مع من أحب
سأذكر الدنيا بألم جمّ
وألعن الأخوة الأعداء
الذين أمعنوا بالاقتتال
طاب لهم مذاق الفناء
وراقت لهم الفوضى
رفعوا راية الكراهية
فوق كلّ قلب.*
إسطنبول
* في بلادي..
في بلادي
يحصدُ الفقراءُ
غلالَ الدّمِ
وتقطفُ النّساءُ
سِلالَ الدّمعِ
ويرضعُ الأطفالُ
ُحليبَ الانفجاراتِ
وتتزيّنُ الفتياتُ
بالشّحوبِ والارتجافِ
ويحملُ الرّجالُ على أكتافِهِمْ
جثَّةَ الخرابِ
في بلادي
ترسلُ الشَّمسُ أشعَةَ الهلاكِ
وتتمترسُ الجبالُ
خلفَ المدافعِ
وتأوي العصافيرُ
إلى حجرِ النّارِ
في بلادي
ننصبُ فخاً للقمرِ
نعلّقُهُ على عَمودِ الحقدِ
ونسلخُ عنهُ الضّوءَ
في بلادي
يذبحُ الأخُ أخاهُ
بتهمةِ الخيانةِ
وتكونُ سكّينُهُ
يدَ الغريبِ
في بلادي
صارَتِ الأشجارُ تورِقُ جثثاً
وصارَ النّهارُ يُطِلُّ
على الفاجعةِ
وغدا النّدى
قطرانَ السّرابِ
في بلادي
تفحَّمَ الهواءُ
وصارَ السّلامُ
رماداً
وعمَّ الانهيارُ
وتراكمَ السّخطُ
في صدرِ الغمامِ
في بلادي
جفَّتْ خطواتُنا
وتحوَّلَ نبضُنا يباساً.*
إسطنبول
* طلب بسيط..
أكنس أيامي الساقطة
من أرض أحلامي
وأتفقد أوراق العمر
أعد ما تبقى على أصابع الروح
يضيعني يباسها
واصفرار أنفاسها
أجلس دمعتي الشائبة
على كرسي الشحوب لأسألها
عن عمر الموت
كم علينا أن ننتظر رحيله؟!
لنحيا موتنا وقت ما نريد!
لا نريد موتاً جلفاً
غليظ الأصابع يغدرنا
يأتينا وقت انشغالنا عنه
أنا..
لم ألتقِ حبيبتي بعد
وعدتني بالمجيء ذات وقت نجهله
وبقبلة..
لم أذق طعمها بعد
لا أريد الموت الآن انتظر
عليّ أن أجري اتصالاتي
وأحلق ذقني
وأكتب قصيدتي الأخيرة
سأخبر من أحب عن مدى حبي
لم أسرف بدقة من دقات قلبي
إلآ من أجلها
وسأخبرها..
لو لم يأتني الموت كنت انتظرت
ألف عام آخر
سأبقى أتطلع نحو قلعتك الأثيرة
أحمل بيدي وردة لا تذبل
سقيتها من ندى الابتهال
وفي جيبي قصيدة لا تنطفىء
كتبتها بحبر الاشتهاء
سأترك وردتي في مزهرية التنهيدة
وقصيدتي على طاولة الرّجاء
أموت وبي شوق لعينيكِ
وإلى احتضان هالة الروح فيكِ
فقط..
أمهلني يا موت.. قليلا
لا وقت لي للموت
لست جاهزا ياموت
هل أعرض عليكَ الرشوة؟
أم أدعو لك بطول العمر؟!
وبعروس تفتن قلبك القاسي
تعلمكَ الحب والسكينة
علكَ تتغير وتترك مهمتك
وتعكف على زرع الورد
تصادق الندى الأبيض
وربما..
تتحول لكتابة الشعر
عن نجواكَ
وخوفكَ من الهلاك
وقلق من موت أحبتك
آهٍ ياموت..
من علمك قبض أرواحنا؟!
وكيف لك الجرأة
تغيّر تمرّد أهرب
أعطنا فرصة خبراً
إعلن عن قدومك
لنسامحكَ..
ونذكرك بالخير
كلّما أحببنا.*
إسطنبول
* وصيّة..
سيضحك الدّرب أخيراً
حين تتلقّفه خطواتي
سيجنّ غبار اشتياقي
وتتنفّس أحجار الطّريق
بعد انتظار خانق
شابت منه النْسمات
وأوجع قلب السّراب
ستستقبلني التْعرجات بالشّذى
وتهمس لي المنعطفات
تعرب عن ترحاب العشب
الأرض تذرف حنينها
وتبتلّ غصّة الأشجار بالنّدى
وسينزاح الهمّ عن السّماء
حيث الشّمس تغتسل
بعد كربة من احتقان
وستحملني العصافير
تهب لي أجنحتها
لتسابق قلبي الفراشات
ويكون الهواء موسيقا
وتتبادل السّحب البيضاء
التّهنئة..
تزغرد أوجاع الأفق
وأنا أحتضن التّراب
سأبكي عند البوّابة
وأصافح دبيب الحياة
مدينة أنفاسي..
سأعود
وإن كان دمي مسجّى
وإن كانت روحي تالفة
نخرها الاشتياق
لو كنت حفنة رماد
أوصيكم أن تذروني
من ذروة قلعتكِ
ِيا حلب.*
إسطنبول
* الدّنيا..
يلتهمني غيابكِ
فأصحو لا أجد نفسي
أبحثُ عنّي
في أخباركِ
قلبي دائماً على بابكِ
وروحي عندكِ أسيرة
ليس عندي إلَّا أضلعي
تتوجّع من الحنين
كلّي مرهون تحت أمركِ
افتحي لقلبي الطّريق
جاء يطمئنّ عليكِ
صرتِ أنتِ في حياتي
حياتي
يهمّني أمرك
أعيش على أساس
أنّي أحبّكِ
والحبُّ عندي له قداسته
من أوّل شروطهِ
أن أفديكِ بعمري
وأكتب عنكِ ما استطعت
من قصائدٍ
حبيبتي أنتِ
وكلّ الدّنيا لا تعنيني
إلَّا لأنكِ موجودة فيها
كلّ الورود لا أكترث لها
إلَّا لأنها تتشبَه بكِ
كلّ السّموات لم ألقِ لها بالاً
لولا استظلّت بنوركِ
أحبّ الليل يشبه عينيكِ
أحبّ النّهار يذكّرني بوجهكِ
أحبّ النّاس
لأنكِ تهتمّين بشؤونهم
أحبّ البحر
يتمدّد عند قدميكِ
المطر إذ يذكّرني بعطائكِ
والدْفء الذي أنتِ مصدره
حتى سنابل القمح أحبها
لأنّ يديكِ داعبتها
والعطر لولا أنتِ
ما كان له أثر أو وجود
الدّنيا كلّها مرتبطة بوجودكِ
فما قيمتها لولاكِ؟!
سأجعل من حبّك فضائي
ومن اسمكِ قمري
أنتِ الوجود كلّه
سأعيش على هذا الأساس
فلولا أنتِ ..
تصحّرت بحار حياتي.*
إسطنبول
* خارطة..
ألوذ بغصتي
أنام على صدر أوجاعي
وأفتح دفاتر دمعتي
أقرأ سطور دمي
على رعشة ناري
يحاصرني أفق من اختناق
وهواء يابس كالقش
وتمدّ العتمة يدها
تحاول اختطاف بصيص الضوء
من شباك روحي
تعاندني الأرض وتسقط
من تحت دهشتي
أركن إلى ظلّ الهواجس
أتعلق بقشرة السراب
وأهيم فوق سطوح السديم
أبحث عن جرعة صمت
وأصابع الانهمار
في بئر تجاعيد الأمان
يتملقني الجوع
يريد يأكل لهاثي
وأنا أمتدّ..
بين سحابة عاقر
وقمر عقيم عجوز
يتهافت عليه تراب الدروب
أشقّ ثوب الفجر
أتمدد تحت الشفيف
عند حائط الندى العالي
لأستريح من عناء
العمر
وآخذ من أوراق السدى
ما يستر عورة الرؤى
وأسقي شبق الموت
عناقيداً
من نبض الاشتهاء
الموت ماضينا..
وحاضرنا
بيده الجافة.. يحمل
خارطة الشرق.*
إسطنبول
* أبناء جلدتنا..
في لهفتي تحتشدُ النّارُ
وتتراكمُ في دمي الأسئلةُ
ويعتلي حيرتي بكاءٌ
على لقاءٍ تشظّى
في مهبِّ السّرابِ
لا أراكِ
حتّى في الحُلُمِ تختفينَ!!
كلُّ ما أشاهدُهُ يدمي النّظرَ
وطنٌ عبّأَهُ الموتُ
في كيسِ خيشٍ متّسخ
والدّمُ يقطرُ من عيونِ النّدى
الأفقُ أسودُ
والضّوءُ مذبوحُ الفؤادِ
آهٍ على بلدي
أطاحَ بضحكتِها القهرُ
بكم بعتم البلاد؟!
ياأعداءَ الكبرياءِ والكرامةِ
كم شمعةٍ أطفأتم؟!
وكم وردةٍ أزهقتم؟!
وكم مأوى هدّمتم؟!
طائراتٌ تقصفُ السّنابلَ
وبراميلُ موتٍ تتهاوى
على رعشاتِ العصافيرِ
سيتوقّفُ التّاريخُ عندَكُم
حينَ الموتُ ينشرُ مذكّراتِهِ
والشّمسُ ستذكركم
رصدَتْ أفعالَكُم بوضوحٍ
والهواءُ الذي تلطّخَ بالدّمِ
لن يصمتَ عن جرائمِكُمْ
حتّى الترابُ
أقسمَ
لن يغفرَ لكم أفعالَكم
ياأبناء جلدتِنا!!*
إسطنبول
* لا تتركيني..
لا تبتعدي..
أخاف من وحشة الموت
كيف أواجه قلبي من دونكِ؟!
وروحي ماذا أفعل بها؟!
الحياة من غيركِ
عبء ثقيل عليّ..
لا أحتمله
من يوقظ شمس حقولي
إن غبتِ؟!
والسماء قد تتهالك
فوق اختناقي
الدروب تغلق أحضانها
بدونكِ
والهواء تضيق عليه أنفاسه
ستنكراني يدايّ
إن لم أصافحكِ
وسيلعنني الليل
ويقذفني بأطواب الظلام
الماء يصبح جمراً
وقصيدتي ترميني بحذائها
وتهجرني
لو علمت بأنكِ تخليتي عني
لا شيء يبقى لي
أو معي..
إن أنتِ تركتني
فلا توصدي عليّ النّدى
أو تغلقي أبواب المدى
رفيقة روحي تمهّلي
سينكرني نحيبي
وتتآمر عليّ أوردتي
ستهاجمني البحار
والأشجار ستنصب لي شباكها
الأرض من تحتي تغور
وأقدامي تتملص مني.. بصفاقة
لا أحد في الدّنيا
من غيركِ يتعرف عليّ
عمري سيتبرأ مني
قبري سينبذني
وبيتي سيعضّ قهري
حتى الموت
سيتأفف من الاقتراب مني
أين أذهب
إن لم تكوني برفقتي؟!
وأنا أتوه
في تلقف الأكسجين
وأضيع
في سراديب وحدتي
ظلّي معي
وأعطيكِ ضعفي
الذي لا أملك غيره
الدنيا كلها بأمرتكِ
فكيف لي أن أغريكِ؟!
عندي هزائم ودموع
وقلباً جريحاً..
بالكاد ينبض
وحلم يتعكز على رضاكِ
ماعندي سوى لغة
تعلمتها من حبّكِ
أعرض عليكِ روحي بالمجان
وأصابعي الرّاعشات
تمسح دمعكِ
لو مرة أردت البكاء
وحضني الدّافىء
إن داهمكِ البرد
لا تتركيني..
أنت ضوء عيوني
وطني أنتِ بالله عليكِ
يا حلب ارحميني.*
إسطنبول
* طيور أبابيل..
لا أفق لأجنحة الهزيمة
ولا ماء في بحر الاحتراق
نبع موت لا يرتوي
من تراب بلادي
دمار طال همس الضّحى
رحى الحرب تعصف
في دمع الدْروب
كلّ بسمة..
كلٌ نسمة..
كلّ رسمة..
محكومة بالقتل.. المتعمد
يتعمدون اقتلاع البحر
من جذوره
واحراق النْدى من ضفائره
يريدون سحل القلاع
وسبي المآذن العاثرة
دمروا واجهة السْماء
وصار المطر حبال مشانق
نتصافح بالقذائف والسّكاكين
ونأكل أحشاء رعبنا
يا بلد الضّوء المخضب بالأحلام
كلّ الأمم تشتهي نحرك
يا شمعة الأنبياء
في كهوف التّاريخ
عناكب الكراهية تسعى
والطّواغيت
فتحت لهم الأبواب
لكنّ الأرض تمقتهم
وجدران التّراث العظيم
ستدكْ مشاربهم
وعشب البلاد سيطاردهم
وفراشاتنا..
تتحول إلى طيور
أبابيل.*
إسطنبول
* حضن النّدى..
أتراني أعود
إلى حضن الندى
وأشرب من همس ضفائرها؟!
وأغسل روحي في بحر ضحكتها؟!
أتراني أعود؟!
لأبنيّ من أنفاسها قبري
يطلّ على سبع سماوات
وأكوان من القُبَل
تسكنه شتائل الغيم الشّفيف
وتتزاحم فيه شموس النّسائم
أريد قبري
تحت صخرة من ضوء
يتظلّل بأسماء أصدقائي
على جوانبه مقاعد للفراشات
تحتاطه أشجار العصافير
منقوش عليه خارطة الوطن
قبر يحوي كلٌ ذكرياتي
ولوازم الإقامة الدائمة
سأغني هناك
في قبري الزاخر بالحياة
النّشيد الوطني الجديد
يا شهداء سوريا تسامحوا
قاتلكم واحد متوحد
وإن تعدّدت الدّول
واختلفت فيما بينها!*
إسطنبول
* موسيقا النّدى..
أنا من دونكِ أجدُ
لا لزمةَ لحالي
ولا طعمةً لهذا الوجودِ
ما عسايَ أفعلُ بقلبي
أو بأنفاسي؟!
كلُّ ما هو كائنٌ لا يهمُّني
من دونكِ..
تبقى السماءُ مجردَ فضاءٍ أبلهٍ
والأرضُ مخلوقاً مقيتاً
لا عطراً أحبُّ شكلَهُ
لا فراشةٌ يُغريني صوتُها
ولا مطرٌ يثيرُ اهتمامي
من دونِك لا أحتملُ
غلاظةَ الدّنيا..
أنتِ..
مَن يُعطي للكونِ النّكهةَ
ومَن يُسدي ليَ الوجودَ
لولاكِ كانتِ الشّمسُ سوداءَ
والورودُ عقاربَ
وكانَ الهواءُ ثقيلاً
يعلقُ في الرئتينِ
ولتحولَ البحرَ إلى كثبانِ ملحٍ
أنتِ موسيقا النّدى
وسوسنةُ القصيدةِ
أشهدُ.. أن لا جمالَ
إلآ روحُكِ
وأنْ لا جنةَ إلآ ضحكتُكِ
وأنْ لا ضوءَ إلآ صوتُكِ
يا منتهى الهمسِ الظليلِ
وسدرةَ الحبِّ البهِيِّ
لولاكِ..
ما اجتمعت أحرفُ اللغاتِ
ولا رفرفت في القلبِ أجنحةٌ
سبحانَ مَن زودَكِ بالسِّحرِ
وقلَّدَكِ بالعطرِ
والعظمةِ يا حلب.*
إسطنبول
* الشّفير..
أستند على حائط الأوجاع
ألملم انكسارات الرّؤى
أهدّهد دموع خيبتي الثّكلى
ودهشتي فاغرة الأنين والارتباك
وسماء جرحي تعصف بالاختناق
أكلّما شيدت ضحكة من دمي
هتكتها أحقاد صديق؟!
كان يحبو فوق نضارة مودتي
ويشرب من ندى اهتمامي
كنت أرعاه بشغف المطر
أدثره بشمسي حين يرتعش
أطعمته من بركان أشجاري
وسلمت إليه مفاتيح قواي
وأجنحة المدى لسنابل لغتي
وكان يزحف على أرض خواء
يتلعثم في حضرة ظلّه
علمته..
أن بكفّ عن الإنحناء
ويشمخ بما عنده من كرامة
صيرته ذا غيم ودروب
وحين استوى على الكلام
رماني بأحجار الظلام
ودكّ أسوار ضوئي
هاجمني بسيل الجفاء
وراح ينصب مكائد لطيوري
يتصيد أقمار صمتي
ويدسّ بين أضلع أحرفي
المخبرين..
يتابعون مايورق في شراييني
من قصائد لم تلد بعد
اقتادوا ماعندي من أحلام
إلى أقبية ترفل بالاستغاثات
وبانتزاع صكوك الخيانة
للوطن البائس..
وأنا على شفير الانهيار
صديقي..
من خلف شباك الذّكريات
يرسل لي بسمته
الطّافحة بالتّشفّي.*
إسطنبول
* حين..
حينَ ينفضُّ عنكِ النّدى
ويذبل عطر العمر
وتداهم التّجاعيد بسمتكِ
وتخور قوى الكبرياء
والشّيب يغزو ضفائر روحكِ
ويتعكز قلبك على ذكرياتهِ
يسكن البرد أصابعك المترفة
ويتحول الليل لسجانٍ ظالمٍ
وأحلامكِ ينتابها سعالٌ أصفرٌ
وينبثقُ
من صدركِ خوف مترهّل
وتحاصركِ الهواجس
من كلّ صوبٍ وناحية
وفي مقلتيكِ تشرئبُّ الظّنون
حيث لن يقوى صوتكِ
على مناداتي
ستندمينَ
وتعرفينَ أيّ قلب خسرتِ
وقتَ لا ينفع اعتذار
لانّي..
شفيتُ منكِ
لن أكترث لمناداتكِ
أنتِ من صوّب إلى قلبي
رصاصة الرّحمة
ما كانَ حبّهُ يشفعُ لهُ
ما كانتْ قصائدي
تحرّك بقلبكِ حجراً.*
إسطنبول
* فتنة القلب..
هو القلبً يتأبّط نبضه
ويمضي على عجل دون استئذان
وكأنّي لست سيده!
فاعذريني
لو جاء يعاتبكِ
ما أنا علمته أو طلبت منه
محرج منكِ أنا
و متفهم لموقفكِ
لا أحبّ الإلحاح ولا الغلاظة
الحبّ لا يكون بالعتاب
أو الرجاء
ولا أقبل أن تشفقي عليه
ولا أرضى لنفسي الإساءة
فأنا رجل عندي كبرياء وكرامة
لكنه قلبي العنيد
من يوم أن أحبك أتعبني
وأربكني سهرني الليل
وأبكاني مرات ومرات
ومهما ناقشته وشرحت له
لا يفهمني لأنه ثقيل الدّم
عنيد بطبعه عنيد بحبه
قولي لي:
- ما بمقدوري أن أفعل معه
قسماً لو سبب لك الإزعاج
سأعاقبه وأكويه بالنْار
وأعرف أنه لن يتوب
فكم من مرة عاقبته بسببك
هو يحبك ومتيم بهواك
يرسم صورك على جدرانه
وفي كل مكان يطاله نبضه
لستِ ملزمة بمسايرة قلبي
ازجريه، عنّفيه، اطرديه
من حقك أن تقدمي به شكوى
وسأقف معك أشهد ضده
سأقولُ عنه عاق متمرد
يحب دون إذن منّي
يتحدّى إرادتي يوقعني بالمشاكل
ويسبب لي الإحراج
سأطالب القاضي بإسصدار قرار
بستأصاله
لا أريده
لأني أفهمه جيدا سيبقى يحبّكِ
ويؤلّب روحي عليّ
ودمي صار يشاكسني
ما عدت قادرا عليه
يرغمني على كتابة القصائد عنك
قلّل من شهيتي على الطّعام
ويمنعني من النّوم
هو من يدفعني للتدخين أكثر
واحتساء القهوة بشراسة
سيودي بي إلى الجنون
إن ظلّ يعشقكِ
دلّيني على طريقة تبعده عنكِ
ينساكِ أو يكرهكِ
لا تتركي عينيكِ تسحرانه
ولا شعركِ يأخذ بلبّه
وعلى وجهكِ أن يكفّ عن مناداته
واطلبي من أصابعك أن لا تذبحه
ومن عنقكِ أن لا يشنقه
ومن قوامكِ وساقيكِ
وكلّ ما فيكِ من خلايا وضوء
الرّفق به
عليكِ أن تكوني غير أنتِ
تتخلصينَ منه
فهو لا يهوى إلَّا أنتِ
لست بقادر على قلبي لأمنعه
أنتِ مسؤولة عمّا به من جنون
قد كان ذات يوماً وديعاً
يخفق بهدوء ورصانة
سلي عنه كلّ الصّبايا الفاتنات
هل تحرش بواحدة منهنَ؟
وهل لاحق احداهنّ
كان لا يغادر صدري أبداً
ولا يعير هتماماً للحبِّ
أنتِ من أغواه ومن ناداه
لماذا تملكينَ كلّ هذا السّحر؟!
من أعطى الحقّ لفتنتكِ لتجهز عليه
لن أسايركِ بعد اليوم
لن أبقى محايداً
سأقول الحقّ مهما عتبتِ عليّ
أنتِ ظالمة حبيبتي.*
إسطنبول
*حبال الضّوء..
أراكَ وحدكَ
تطلّ من شرفةِ المدى
تلوح للأفق القميء
بيدكَ غيمة تطلقها
ترفرف في دهاليز الشفق
وكأنكَ تبحث عن نجمة
رحلتْ في سهوبِ الكونِ
وخلّفتْ بوجهها زوبعة
من أسئلةٍ..
صعدتَ درج السّماء
فتّشتَ جيوب البرق
وحقائب السّديم الأزرق
وعند اللانهاية وقفتَ
ورحتَ تراقب العابرين
وتحدق في موتهم..
تستحلف الأصداء
وتناشد الأنداء
تحقق مع كل مايثير ارتيابك
لا سلّم عندك
لتصعد ظهر هذه النّسمة
تدور من تحتك المسافات
تتباعد أنت عن ظلك
وأنت تحاول أن تتمسك
بحبال الضّوء
عمّن تبحث في باطن الأرجاء
ولا أشرعة تحمل عليها نبضك
ستطوف بلاد الماء قاطبة
ولن تجد.. ماضاع منك
أنت من أفلت هديل الأمنيات
من ضيع أصداء الحنين
وشرد الندى من سطورك
ستبقى وحدك
تعد رمال الشوق
وتمشي في صحراء الحلم
تتكىء على جدار أوجاعك
هربت منك قصيدتك فاتبعها
لملم حروف الرْوح
دع الوجع مبراة لقلم هواك
واجعل من دفترك قبرك
مت بين الكلمات العاثرة
وامش على ريح أسطرك
تنغسل الدمعة حين تعانقك
ويأكل الحنين منك ساعات نومك
هل يغفو الرّحيل في عينيك
هل بلّل العطش شفتيه
من دمع تنهيدة الاحتضار
شيّد فوقَ حلمكَ صرحاً للذكريات
خبئ قهرك في كنفِ جرحك
احمل زوادة الموتى
في ظلّ ماضيك
ماذا تريد من سرابٍ حاصرك
ومن موت كان ينمو
على أطراف صخبك
جلّ وقتكَ ضاعَ
في سراديب الانتظار
لنبضك أمد بعيد
من عشق خرافي الشكل
متوحش بالاصداء
لا يرتبك في انهياره
الصاعد..
حد الإختناق.*
إسطنبول
* غنّي، غنّي، يا حلب..
من دون رحمة
ينهش بقلبي الانتظار
ويزيد بأوجاعي كلما طال
ويمتد على مساحة الساعات
من غير أيّ أمل
الرجا احترقت أجنحته
والدرب يلوب على نفسه
حجارة الدرب أناهيد
مرصوف بالدمع والأشواق
لا فيء يظلل الغصة
قهر يمتد على مسافة الاكتواء
ياربي من أين أتجه؟!
الغيم صفيح من الاختناق
الشمس بلهاء ضاع منها الضوء
صار المدى كمشة موت!
صار الوقت سكاكين
يمشي بي الارتماء
وينحني فوق إعصار السخط
تتقدمني الفواجع العمياء
وتطاردني دهاليز الاحتراق
ياموج الموت الصاخب
اغسل لي لهفتي الرقطاء
عجل لأخوض غمار السراب
تعوي الفرحة بوجه نافذتي
وأنا أستقرأ احتضار الفؤاد
ضاعت بلاد كنت مواطناً فيها
تطل على عرش الله
ترابها من حلم وعنبر
لها نوافذ تلوح للفرج
حيطانها من ألفة وندى
أبراجها من أغاني الطرب
ولها قلعة تشبه سدرة المنتهى
لها أسواق..
بضائعها من جنة عدن
فيها أمشاط لجدائل النور
ومدارس للعصافير
ضاعت منا البلاد
استقدموا على الياسمين
الحرباء والجراد
اغتصبوا طهر بسمتها
ورفرفت رايات الغرباء
فوق عويل قلعتها
سرقوا منا حتى خانات الاقامة
كل من لم يقتل شردوه
والذي تشرد كان مقتولا
خطفوا الدروب التي تودي إليها
زرعوا على الطرقات
مقابر للعائدين..
وتركونا خلف أسلاك الهلاك
نلوح للذكريات
بأياد مبتورة
ودموع مقهورة
غنّي، غنّي، يا حلب
من بعدك أنت
لا قيمة لأمة العرب
أمة فرطت بالشرف
عليها استحقت
لعنة الله والغضب.*
إسطنبول
*وطنُ الشّمس..
يا وجعَ الرّوحِ مهلاً
يا شرخَ الحُلُمِ اليابسِ
يا رمقَ الفتنةِ
وإعصارَ الخيبةِ
أتنفّسُ صليلَ الآهِ
المزمنِ بالموجِ الخانِقِ
أتلهّفُ لموتٍ أبيضَ
ولثقوبِ العتمةِ
أجادلُ سكّينَ الدّمعِ
والبسمةُ تُسلَخُ كالشّاةِ
ومضٌ في شجرِ النّدى
يحتطبُ الوقتُ خبزاً
يمشّطُ جدائلَ الخوفِ
والأرضُ تمشي على صدري
تنهمرُ أحلامُ الجّوعِ
الدّربُ يلوّحُ بالغربةِ
مناديلُ الجنازةِ تتهادى
في حضنِ الشّفقِ النّائحِ
والرّيحُ تعوي خلفَ
تواشيحِ الابتهالِ
الدّمعةُ تسرقُ ضحكتَنا
الشّجرُ يثمرُ غربتَنا
والزّمنُ الشّائبُ أرعنُ بالوقتِ
حجرٌ في فمِ اللّهفةِ
ترابٌ في عيونِ الشّهدِ
ماءٌ يغتسلُ بالدّمِ
وَجَفَّت شفاهُ الأنداءِ
حينَ الصّبحُ يزأرُ بالعطشِ
يعضُّ الحنينُ عنقَ الرُّؤى
يتسامقُ ملحُ الرّغبةِ
هوجاءُ صحارى المدى
يحفرُ السّديمُ قبرَهُ
في جوفِ البرقِ
والنَّسمة تتعكَّزُ على نبضي
يا سفحَ الوَلُهُ العاثرِ
يا نسغَ الصّمتِ الهائجِ
ووهجَ الأسى
سندقُّ في الغيمِ الأبيضِ
مساميرَ الانتظارِ
ونشربُ من ظمأِ الغربةِ
ضوءَ الرّعدِ الآتي
من وطنِ الجّرحِ النَّازفِ شمساً
والمشبعِ بالموتِ.*
إسطنبول
* هسيس الهواجس..
أراهن على فجر سيبزغ
من سحيق الأوجاع
ومن برق كان
حبيس الاختناق
ومن نتف الدم المخثر كالثلج
أراهن على إشتعال الدمع
في مآقي الصبر
وعلى فرحة ذبحت
على مرآى البنفسج المتعب
وعلى نسمة تكسر رفيفها
فوق ارتجاف الندى القاني
وعلى شهقة حفيف الغياب
سيجيء الفجر من عتمة الصمت
سينشر على الأرض الساجية
لون الصهيل الحاذق بالوله
المحمل بتباشير الهوى النابت
يصطفق الحنين
في سدرة الاكتواء
وتمطر الروح
أحماض العذوبة والاشتهاء
وتلوّح على موتنا الأسن
رغبة ظمآى بالنهوض الواثب
ستورق أصابعنا الساخطة بالحنين
و تندمل أجنحة الخيبة الرعناء
تثمر مراجيح هتافات الوقت
تنساب الأماني الوارفات من صدر الليل
ويعتمر الليل الأصلع .قمره المشاكس
يتوشّى بالنجوم الناهدات بالحلم
فوق صخب السكينة العاثرة
وعلى عنق الهديل النابض بالخوف
تمر غمامات الفتنة المشرئبة
تغسل أوصال البوح الناحل
ليصير الورد شاهداً راجحاً
على بداية التكوين الأولى للخلق
ويصير الشوق يعمر الهسيس الطافح
حيث تهفو عليه القصيدة برغبتها
ستخبئ الأحرف الضوء في أحراشها
وتكتنز بسهوب الأغنيات الحائرات
شاعراً أمّي الهوى
يكتب قصيدته بقلم الروح الأسود
دفتره أنفاسه اللاهبة
يأخذ معانيه من سقسقة الدمع
يعمر من نجواه الجليلة
سماء من تنهدات سقيمة
ويفتح في جدار الرؤى الحجري
طاقة على فضاء الدهشة اللائبة
ينداح السقوط من أوتار قلبه
محض دروب متعرجة
وجهات جديدة عابثة بملامحها
يسكنها الحب الشفيف
منذ أن تولى على عرش الحلم
الموت يضل طريقه إن تقدم
في زحمة فراش الجنون
لا وقت للوقت كي يضبط توقيته
لا أقدام للموت كي يتبعنا بجلافة
ولا أجنحة للشحوب ليمتطي الغبار
الفجر
بوابة لرحيل الروح
سترحل عن موت ملّت منه
سئمت من حضنه الخشن
أربك فيها أهازيج العشق الهائمة
موت اختمرت رائحته
وتسربت من شقوق الانتظار
تتجزأ حبة العلقم
في كحل الهواجس العمياء
فلا تبصر من الفجر إلآ لهاثه
وأحجار التعثر الهوجاء
ستخور قوى الموت المرابض
وتتقطع عنده الأنفاس
ولن يجد للحب سبيلا
أو لخيبته المريرة بديلا.*
إسطنبول
* هَلوَسَة..
هذا المكانُ لا أعرفهُ
ولا أريدُهُ
يختلفُ عمَّا تعوَّدتُهُ
هواؤهُ دبقٌ
وليلُهُ ذو ظلمةٍ خشنةٍ
هدوؤهُ موتٌ
ووقتُهُ مزوّدٌ بالأنيابِ
لا أحدَ يطرقُ عليَّ البابَ
سوى الحزن والوحشة
طعامي بضعُ لُقَيماتٍ
من الوجعِ الخانقِ
أغصُّ في التّنَفُّسِ
وأتحشرجُ بالضّوءِ
غربتي تقشّرُ عمري
وترمي بأيّامي في سلّةِ المهملاتِ
لا شيءَ يؤنسُ سجائري الصّاهلةَ
ولا قهوتي التي تشعرُ بالبردِ
يا وطني
كيفَ تخلّيتَ عنِّي؟!
طردْتَني
وأخذْتَ وسادتي
وظَلَّتْ عندكَ هناكَ
روحي
خبأْتُها في ثُقبِ
البابِ
وتسلَّقَ قلبي شجرةَ
الزّيزفونِ
تركْتُ خلفي حتّى
ابتسامتي
وأصابعي تتمسَّكُ بجذعِ التّرابِ
علَّقْتُ أحلامي بسقفِ السَّماءِ
ودَسَسْتُ قصيدتي
في جيبِ الغيمِ
حتَّى قلمي خبَّأتُهُ
في حائطِ النَّدى
بمفردي هربْتُ
مِنْ موتٍ كانَ يتعقّبُنِي
تركْتُ الجبالَ كلّها
لَمْ أحملْ معي ولا جبلاً واحداً
وظلَّ البحرُ في موضعهِ
لَمْ استقدمْ
ولا موجةً واحدةً
والقلعةُ
الشَّاهقةُ بالحبِّ
بَقِيَتْ تحرسُ ذُكرياتي
وترسلُ لي أخبارَ من ظلّوا
هذا المكانُ ليسَ لي
ضَوْؤُهُ لا يفهمُ لُغَتِي
وأنا لا أبصرُ بهذا الضّوءِ
أشجارُهُ لا تظلّلُنِي
وأنا لا أستلقي تحتَ أغصانِها
جدرانُ الغرفةِ لا تمنحُنِي الأمانَ
أُحِسُّ بالصَّمتِ
وكأنَّهُ يهمُّ بالانقضاضِ عليَّ
أقعدُ فوقَ التَّبعثرِ
أستندُ على حائطِ القلقِ
أتمسَّكُ بحزمةِ الخواءِ
انتظرُ
شارةَ الأمانِ
لأعودَ إليكِ يا أمِّي
حلب.*
إسطنبول
* لن تغفر الأرض..
لهذا الدمِ النّازفِ
لهذا الموتِ الجماعيّ
وهذا الوجعِ اللامنتهي
واللامتناهي
وهذا القهرِ المترامي بغصّتِهِ
وهذا الصّراخِ المنبعثِ
من غضاضةِ الأحلامِ
وهذا الرُّعبُ الذي تئنُّ بهِ الأرضُ
والاحتراقُ الذي أدمى السّماءَ
وهذا النشيجِ نشيدِ الاختناقِ
لهذا الرّكامِ الغائمِ
والبلاءِ الجّاثمِ فوق الآهاتِ
وهذا السّخطِ الماردِ
هستيريا الذّبحِ والدّمار
وجنونِ الانتقامِ
لهذا الكُرهِ الصّفيقِ
والصباحِ القاتمِ كوجهِ القاتلِ
واللّيلِ المكفهرِّ كدهشةِ القتيلِ
لهذا الموتِ الذي سوَّرَنا
الذي تغلغلَ بحنايا الحبِّ
لهذا المدى المفجوعِ بالانفجاراتِ
وهذا الدّمعِ المسربلِ بالتّشرّدِ
وهذا الغبارِ الطّالعِ من جلودِنا
وهذا الرّغيفِ الخائرِ من جوعِهِ
والشّجرِ المورقِ بالفناءِ
لهذا الانهيارِ
الذي ألمّ بالوطنِ
الباحثِ عن الخلاصِ
للمناديلِ التي أنهكها التّلويحُ
للأيدي العالقةِ بالدّعاءِ
لهزيعِ الرؤى الخائراتِ
أسألُ
عن بصيصِ نسمةٍ
وظلِّ همسةٍ
وإشراقةِ روحٍ
لأرضٍ لن تغفرَ.*
إسطنبول
* لوم العاشق..
أصبحتَ رخيصاً في حبّكَ
لا قيمةَ لمشاعرِكَ
ولا اعتبارَ لأوجاعِكَ
لن يُفتَحَ لكَ بابُ الهوى
مهما دموعُكَ طرقتهُ
وتعالى صوتُ اختناقِكَ
أضرَّ بِكَ صدقكَ
وتفتّحَت أزهارُ لهفتِكَ
ما كانَ عليكَ
أن توقدَ نبضكَ في العَتمةِ
وأن تتركَ قلبَكَ في البردِ
يتصعلكُ خارجَ أسوارِكَ
زيّنتَ لها أشواقكَ
فاغترَّت
وراحت تهزأُ بوجدانِكَ
عليكَ اللّعنةُ يا قلبي
أنتَ من ورّطَ أحلامي
ما كنتُ عن امرأةٍ أسأل
بل كانت أحضاني تتهرَّبُ
مِن أن تتمسّحَ بدفئي قطّة
تموءُ عندَ سريري
ولا أصحو
كانت في دربي
تعترضني القبلاتُ
فتعلو السّخريةُ على شفتيكِ
واليومَ
صارت تُشفقُ عليَّ النّسمةُ
ويواسيني الصمتُ
لا وردةَ تزيّنُ شُرفتَها
لا ضوءَ ينيرُ وحشتَها
لا أملَ
يهفو لانتظارك.*
إسطنبول
* حبيبتي..
ها أنا أعلن استسلامي
وما كان عندي أسلحة
لأرميها
أعترف أنّي حاولت
أن أقاوم
أعترف..
أنّي نصحت قلبي
وبذلتُ ما بوسعي
حتى أكسب روحي
إلى جانبي
وتلكأت بأحرفي طويلاً
وتهربت من قصيدتي
تعمدت تضليلها عني
كان قلبي أعزلاً من الأسلحة
وعيناي تستتران بالدمع
وصوتي متلعثم في صمته
شننت حرباً ضروساً
على فتنتكِ
قلت لاحتراقي:
- جمالها كثير عليّ
أنا لا أريد ضعفاً
في حضرتها
تتحكم بي عيناها
أريد بعضاً من هذا السحر
أكتفي بجزء ضئيل من ضوئها
لو كانت أقلّ من هذا الجمال
كنتُ فرضت شروطي عليها
لكنني الآن..
أذعن لأصبع واحد
منكِ إن شاور لي
لخصلة شعر
أو ضفيرة
لطيف ابتسامة
لشيء بسيط من عطركِ
لدفء من يديكِ
لنسمة هائمة من صوبكِ
لظلّ قمرٍ يستنير بكِ
لفراشة لثمت جيدكِ
لعصفورٍ غرد عند نافذتكِ
لشجرةٍ كانت تنعم بظلك
هزمتُ..
بلا قيدٍ أو شرطٍ
سأدور في فلك بهائكِ
لن أعصي لكِ وقتاً
أسقي أصص فرحتكِ
أغسل ندى بوحكِ
أزرع لكِ شتائل همسٍ
أرشّ في دربكِ النسمات
أسيج غفوتكِ بحناني
أنتِ أميرة البهجة
صفصافة أجنحتي
موسيقا الأوردة
وسام على صدر السعادة
أموت..
كي تهنئي
أحترق
لأجل أن تتدفئي
أضحي
في سبيل أن تبقين
أمدّ لكِ خشوعي
وأتبرأ من يدي
إن مستكِ بسوء
ومن قدميّ
إن تلكأت عن المجيء إليكِ
أنتِ وله الدّم فيّ
جنون الحب الأبدي
يا أطهر حبيبة في الأرض
ملكة أنتِ على الأمجاد
يا صلاة السموات والشمس
يا شرف الوضاءة
وهسيس الوداعة
أمّ الشهداء
دار الأنبياء
حلب الشهباء
حبيبتي.*
إسطنبول
* شهوة التّراب..
أحسُّ بشهوة التراب إليَّ
وأصابع العتمة تحبو نحوي
يناديني السكون بصوته الأجش
وتكشف لي الأعماق عن فتنتها
شفاه الضوء تودع نبضي
وكصديق حميم أفارقه
يحتضنني الهواء..
وغصته مكتظة بالبكاء
ومن على بعد
تلوّح لي الشمس بمنديلها
والسماء المحنية الظهر
التي لا تقوى على حمل شحوبها
ترمقني بأسى
تتلفت الأرض..
تستعجل جثتي
تمدُّ الغيوم أياديها
لتشارك بجنازتي
أجلس على حافة قبري
أنتظر مجيء الموت
ومن طول الانتظار
يتأفف المشيعون
والموت مشغول عني
بإبادة مدينة حلب.*
إسطنبول
* حطام الانتظار..
ألملمُ حطامَ انتظاري
من حضنِ الآهةِ المشتعلةِ
وأقبضُ على ارتجافي
حينَ يعتلي أنفاسي
يطلقُ قلبي عليَّ شهيقَهُ
بركانَ شوقٍ وخوفٍ
آهٍ مِن بَوحِ الاختناقِ
كم على الرّوحِ أن تموتَ
في أحراشِ هذا القلقِ
ينتظرُني الجّنونُ
عندَ شفاهِ الاكتواءِ
وأحسَبُ أنّي دُفِنتُ
في خندقِ العدمِ
أنا دمعةُ الانهيارِ
وصرخةُ المسافاتِ القاتمةِ
عمَّن أبحثُ في ركامِ الفاجعةِ
وعليَّ أن أسألَ التّيهَ
عن خطايَ
ضاعَت منّي دروبي
كُنتُ خبَّأتُها في المدى
حاصرَني السّقوطُ
وأنا أعتلي انهزامي
وأحرقُ بوَّابةَ الخيبةِ
أريدُ اعترافاً بموتي
لأمضي خارجَ أوجاعي
لكنَّ الأرضَ تمشي فوقَ جذوعي
وتقطفُ من ثمارِ نزيفي
يأكلُني الأنينُ الضّاري
وتسحلُني دهشتي البكماءُ
جرحي فاغرٌ فَمَهُ
يلتقطُ نبضي الهاربَ
يصلبُني على حائطِ الغربةِ
لا شيءَ يرفرفُ في السّماءِ
إلّا صراخي
ولهفتي محشوَّةٌ بالصّدى
ماتَ الفضاءُ في حُلُمي
وظلّت رايةُ اليباسِ تخفقُ
فوقَ أخاديدِ الرّؤى
والسّرابُ يقشّرُ حنينَ النّدى
آهٍ مِنِ اشتعالِ النّهايةِ
في وريدي
ما كنتُ أنتمي لهذِهِ الحربِ
لكنّها طالَت قلبي
أحرقَت قصيدتي
واقتلعَتني من بلدي.*
إسطنبول
* انتماء..
ينمو في داخلي موتٌ
أجملُ من كلِّ الآلامِ
أحلى من وجعٍ لا يلينُ
موتٌ بهزجُ لقلبي
أغاني الصّفاءِ
سيحضنُ عذاباتِ الرّؤى
يهدهدُ جراحَ أنفاسي
يخبو على انهيارِ الخُطا
يحلّقُ بي في أفقِ السّكينةِ
كم كنتُ أشتهيهِ
في مطافِ غربتي؟!
سيفتحُ لروحي الحدودَ
يحملُني على أحنحةِ الهلاكِ
ياموتُ ما أجملكَ!!!
في زمنِ الخياناتِ
وتفاقمِ البغضِ والكراهيةِ
هدّت قوى صوتي
تكسّرَت غُصّتي
وأنا أنادي على يدٍ
تنتشلُ اختناقي
كانَ الصّدى خراباً
خذ عنّي - يا موتُ - لوعتي
وسكاكينَ قصيدتي
تمزّقَت تربةُ ابتسامتي
وانحنَت قامةُ الأمنياتِ
سأنثرُ في قبري ذكرياتي
علَّها تزهرُ سلاماً
وأعمّرُ من تربتي أفقاً
يطلُّ على الأحبابِ
هناكَ أوزّعُ عليهم
تباشيرَ النّدى
أعلنُ انتمائي
لأمّة ضاربةِ الجّذورِ.*
إسطنبول
* اعتكاف..
ذنبي أنّي أحبّكِ
بعمقٍ.. وصدقٍ
وبلا أيّ منازع
سلمتُ إليكِ قلبي
من دونِ تحفظٍ
أو احتجاج
وباركت لي فرحتي .. فرحتي
وقالت قصيدتي:
- بؤسَ ما اخترتَ
فحبيبتكَ كطهرِ النّدى
خطاويها بيضاء بلونِ الياسمين
وربّتَ على قلبي السّلام
تضاحكت الأرض
ورفرفت بأجنحتها السّماء
الشّمس تهمسُ يالهُ من محظوظٍ
والقمر أرسل إليّ الورود
كلّ الدنيا.. كانت ترقصُ
وهلّلت لي الدّروب
صارَ الماء يَشرَب من راحتيّ
صارَ الضّوء يتونّس برفقتي
وانتعشَ صدر الهواء
الحبّ ينمو على الجدران
والأشجار تثمر فاكهة السّعادة
لكنّكِ..
وبطرفةِ عينٍ
أحرقتِ شواطئ الأمل
وسرقتِ أشرعة الهناء
حينَ .. عنّي ابتعدتِ
وتلبّسكِ ثوب الغرور
وزيّنَ لكِ شيطان الشّقاء
أنٌكِ تستحقّينَ الاعتكاف
كلّل لسانكِ بالصّمتِ
ويبّسَ لكِ خطواتكِ
فاهربي منّي قدرَ ماتشائينَ
وابتعدي عنّي مااستطعتِ
فليسَ أمامكِ
غير حبّي.*
إسطنبول
* زفاف..
حتّى..
إن كنتِ لا تأبهينَ بي
ولا تشعرينَ بنيرانِ حبّي
مازالَ في هذا العالمِ
ما يغريني على البقاءِ
وجودُكِ فيهِ
أنتِ
تعطيني أسبابَ كثيرةً
أهمُّها الأملُ
علَّكِ تُشفقينَ عليَّ ذاتَ يومٍ
وتبتسمينَ في وجهي
هذا ما أريدُهُ على الأقلِّ
لأغادرَ الدّنيا منتصراً
زوَّادتي في قبري
ابتسامتُكِ
سأنتشي بها طوالَ موتي
وقد ينتابُني الغرورُ والتّكبّرُ
وأنا في المقبرةِ
وأحدّثُ الأنواتَ عنكِ
بكلِّ فخرٍ واعتزازٍ
ويومَ القيامةِ
بسببِ ابتسامتِكِ
سَتُفتَحُ لي
أبوابُ الجّنّةِ
وهناكَ سيباركُ اللهُ
حبّي لكِ..
وتكونينَ حوريّتي الوحيدةَ
حيثُ نتلقّى التّهاني
مِنَ الملائكةِ حينَ تزفُّنا
في السّماءِ السّابعةِ
مكانَ عرسِنا الأبديِّ.*

مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول


الفهرس:
=======================01 - سيرة موتي
02 - عطر النبض
03 - لو أنك تأتين
04 - الملاذ
05 - في بلادي
06 - طلب بسيط
07 - وصيّة
08 - الدنيا
09 - خارطة
10 - أبناء جلدتنا
11 - لا تتركيني
12 - طيور أبابيل
13 - حضن الندى
14 - موسيقا النّدى
15 - الشفير
16 - حين
17 - فتنة القلب
18 - حبال الضوء
19 - غني، غني، يا حلب
20 - وطن الشمسِ
21 - هسيس الهواجس
22 - هلوسة
23 - لن تغفر الأرض
24 - لوم العاشق
25 - حبيبتي
26 - شهوة التراب
27 - حطام الانتظار
28 - انتماء
29 - إعتكاف
30 - زفاف

--------------------------------------------
مصطفى الحاج حسين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى