عبدالرحيم التدلاوي - العودة إلى النبع، قراءة في رواية "المرجئة" للكاتب المغربي عبد الله باعلي سيتم إغناؤها بالإحالات.

رواية "المرجئة" لعبد الله باعلي صدرت في طبعتها الأولى عن دار كلمات للنشر والطباعة والتوزيع، سنة 2012.
وقد صدّرت بنص باللغة الفرنسية ل Erasme الفيلسوف الهولندي، بالصفحة 5.
و "المرجئة" هم فرقة كلامية تنتسب إلى الإسلام، خالفوا رأي الخوارج وكذلك أهل السنة في مرتكب الكبيرة وغيرها من الأمور العقدية، وقالوا بأن كل من آمن بوحدانية الله . وسموا لدى البعض بيهود القبلة.
والمرجئة من فعل أرجأ أي أخر وأجل، فأي المعاني التي تحملها الرواية في عنوانها ومتنها؟
الكاتب لم يسبق لي معرفته ولا سبق لي قراءة بعض أعماله رغم أنه أصدر إضافة إلى "المرجئة"، مجموعتين قصصيتين وهما: "هزائم آشيل" و"حلاق جيفارا" وألحقهما بمجموعة ثالثة "كوشمار" ورواية "مغنيزيوم".
ولولا أخي كريم ما كنت لأعرف كتاباته.
**
ينتمي هذا العمل للرواية القصيرة كونه يتكون من 62 صفحة ويتشكل من أربعة فصول متفاوتة الحجم وعدد المقاطع. فإذا قمنا بجمع المقاطع جميعها سنحصل على 16 مقطعا، حصل الفصل الأول والثاني على أربعة، و الثالث أخذ ثلاثة، أما الرابع فقد استحوذ على خمسة. وبإعادة النظر في الفقرات سنجدها متناسبة، فالذي فقده الثالث كان من نصيب الرابع.
هذا التشكيل يحيل على لعبة كرة القدم، رغم أن عدد مقاطع "لاعبي" الرواية أكبر من لاعبي كرة القدم، لكن التشكيل يمنح هذا الانطباع؛ فكأننا أمام خطة هجومية ودفاعية، فالدفاع من أربع مقاطع، والهجوم من خمسة، فيما جاء وسط الميدان مشكلا من ثلاث. وهذا الوسط يدعم الدفاع والهجوم معا. وما يدفع إلى استدعاء هذا البناء من طرف القارئ كون الهجوم المشكل من خمسة سينتهي بقراءة السارد جلال لماضيه ولعلاقته بأبيه، ويسعى إلى خلق مصالحة معه، بكسر تلك النظرة الأبوية التي حملها لابنه والتي لم تكن، بحسب الأم، إلا قسوة ظاهرية فالأب يكن لابنه حبا عميقا، لكن جلال سعى إلى استعادة توازنه بتمنيه الحصول على نظرة حنون من الأب إلا أنها رغبة جاءت في غير موعدها؛ فقد تأخر في طلبها، فالأب قد غادر الدنيا تاركا جلالا يلتمسها من حبيبته فاطمة التي وجه إليها رسالة في آخر النص.
طيب، من جلال؟
جلال هو سارد هذه الرواية من البداية حتى النهاية دون أن يشاركه هذه الدفة أحد. هو شاب يشتغل في مكتب للترجمة، ويعلم أنه عمل لا يوفر له ظروف العيش الكريم، وكان قد اشتغل بعد حصوله على الاجازة في إحدى شركات الاتصالات لكنه فصل منها بدعوى تحريضه للعمال. يعيش حالة من البوهيمية بعد أن فقد الثقة في كل شيء: العمل والأسرة والحزب والسياسة والزواج. يعمل تحت إمرة مدير لا يكن بعضهما البعض مشاعر الأخوة والتضامن، فما يجمع بينهما هو المصلحة المشتركة، إذ يوفر جلال من عمله الروتيني بعض المال يبقيه على قيد العيش، والمدير يربح كثيرا من جهد جلال الذي يزاول مهنة الترجمة بكل صبر وتفان، رغم أنه يتغيب من دون سبب كما فعل حين ذهب إلى تطوان وطنجة رفقة زملائه الإسبان. وحكايته مع بابلو الذي شرب حتى فقد وعيه وكان يرقص بجنون إلى أن سقط أرضا فسال من رأسه الدم، فتم استنطاق السارد الوحيد والأوحد. وكانت له علاقة شبقية مع كارمن، كما كانت له علاقة عابرة بفتاة التقى بها في مقهى ومارس معها على الشاطئ ثم انسل تاركا إياها وحيدة. كما عاشر فتاة كان قد جلبها صديقه البشير إلى بيته صحبة صديقته في الحزب. الفتاة الوحيدة التي سكنت وجدانه هي فاطمة المكناسية التي كانت تسكن قرب خالته الأرملة التي احتضنته حتى اشتد عوده لكنه طرد من منزلها لما توفيت من طرف الورثة خوفا على نصيبهم من الإرث.
عاش بوهيميا لا يرتبط لا بحزب ولا نقابة ولا جميعية، فقد فقد إيمانه بكل شيء سوى بالطعام والخمر والجنس. وكان يحتقر ذاته وكثيرا ما لامها معتبرا نفسه حمارا؛ ذلك الحمار الذي كان يعيش بمنزل أسرته حين كان صغيرا.
اعتمدت الرواية على الاسترجاع لإضاءة بعض الفجوات وملئها من ذلك علاقته بأبيه، في البداية كانت عادية يذهب صحبته إلى الحمام لينعش جسده ويزيل أوساخه، وكانت مناسبة للتطرق لهذا الفضاء الذي تطرق له الكثيرون بكثير من الدقة والإفاضة المعبرة، أما ساردنا فقد كان وصفه للحمام عاديا وسريعا، وحين اقتربت الرواية من نهايتها، هي شحيحة الأحداث، جاءه خبر المجيء إلى منزل الأسرة لمساعدة الأب الذي يمر بوعكة صحية حرجة، وهو الذي كان يعامل معاملة الضيف الذي يجب أن يغادر المكان بمجرد انقضاء مدة الضيافة. في هذه المرحلة الأخيرة من أنفاس الرواية والأب، يبسط جلال علاقته بأبيه وما كان ينتظر منه ليقف على أرض صلبة لا كالرخوة التي يسير عليها طوال حياته.
تنفتح الرواية بلغتها البسيطة والعادية على تعدد لغوي كبير، حيث استثمرت الدارجة في بعدها العاري والجارح، كما وظفت اللغة الإسبانية والفرنسية المدرجة والأصلية فضلا عن اللغة الأمازيغية التي منحته فرصة الافتخار بالانتماء إليها؛ وقد مارس تحليلا معنويا لبعض مفرداتها كنوع من التمرين على هذا الانتماء.
وإذ تطرقت لموضوعة الأمازيغية فقد تطرقت لموضوع فساد الساسة والسياسيين، وفساد النخبة الحاكمة، ووجه نقدا لاذعا للأحزاب سواء المشاركة في تسيير شؤون البلاد أو تلك التي تقف خارج دائرة الحكم. كما انفتحت على قضية النجاة التي راح ضحيتها الكثير من الشباب دون أن يصدر حكم لصالحهم.
تبقى الرواية شبيهة بالبوح كونها اعتمدت على سارد واحد وهو ما يدخلها ضمن الرواية المونولوجية التي تنظر إلى الواقع من زاوية واحدة هي زاوية نظر ساردها.
أما غلافها فهو لوحة من لوحات سالفادور دالي السريالية حيث سيولة الزمن وانسيابيته كما انساب سريعا في الرواية، فتم استعادته تخييليا.، كنوع من المحاسبة للذات بغاية تصفيتها من الشوائب لتستعيد نغمة حياتها الطبيعية، وهو ما ظهر في ختامها باعتماد جنس الرسالة في مخاطبة حبيبته الأولى والأخيرة "فاطمة":
اليوم، فقط، أحس بارتياح كبير وبغباوة شديدة تحوم حولي. الآن فقط أود الرجوع للعتبات التي شهدت حبنا، كي أقبل فرحة اللقاء الأول. كي أقبل كلماتك، كي أقبل نبواتك، وكي أوبخ لساني البابلي. واقول: أحبك، وأقول تبا للأبجدية التي علمتني كيف أكون إنسانا، ولم تعلمني كيف أرسو على هذه الأرض. ص 62.
فهل لغة الحب هي اللغة الأساس التي فرط فيها حين لم ينتصر لحبه؟ هل قسوة الأب وراء ضياعه؟ هل كان على الأب أن يكون صارما ومحبا لكي يربي أبناءه تربية افتخار بالانتماء بدل التشرد والضياع؟ هل لسانه البابلي المتبلبل بفعل تعدد الألسن هو سبب ضياعه؟ ومن ثم كان انتقامه من تلك اللغات بتغيير فونيتكاتها أو تمطيطها والتلاعب بها حين توظيفها في مقامات العري والانحطاط الاخلاقي، مقابل تمجيد الأمازيغية عبر الوقوف عند معاني ودلالات بعض مفرداتها..لعل في تشبيه نفسه بالسلمون دلالة على العودة إلى النبع، إلى مسقط الرأس لصنع بداية جديدة غير تلك التي عاشها بوهيميا من دون انتماء..والعودة اقترنت بموت الأب، فهل كان ضروريا قتل الأب ولو رمزيا لتحقيق الذات؟ ص 37.
تجدر الإشارة أن جلال، كما ظهر في بداية العمل، رجل لا يحب التكرار، إنه بمجرد شعوره بالروتين، يسعى إلى تغيير الأمكنة وحتى الناس. يقول: عندما صار المكان أليفا جدا، وأحسست بأني أعرفه كثيرا، قررت الرحيل، لأن طعم البدايات قد ضاع مع ابتسامة النادل المتكررة، وكلام التلفزيون، وسعار السياسيين على صفحات الجرائد. ص 10.
لم تصب السخرية اللغة بل امتدت إلى ذاته حين يصفها بالحمار في مثل قوله: أذهب إلى الحمام، آخذ دوشا باردا فيهاجمني الحمار بمطرقته الثقيلة..ص 37.
أو قوله: وعندما أختلي بنفسي أطرد الجرذ الذي لبسني، وأكنس صغاري، وأصرخ في وجهي: أيها الجبان الغبي، كيف تنصاع للجرذ الماكر..تفو على ...؟ فيضحك مني الحمار، وينسحب. ص 38.
ولعل هذه السخرية ولوم الذات لعجزها عن اتخاذ قرارها الحاسم الذي يقطع مع حياة الجبن والخوف والتردد، تقزيم الذات نابع بالأساس من غياب الانتماء.
ونجد جلال يوجه سخريته للسياسة والسياسيين ولكل الأحزاب حين جعل البار مكان نقاش حاد بين الرفاق حول اهمية حزبهم الذي يقف خارج دائرة الحكم يراقب سقوط الرفاق ويرسم خططه لمواجهة الظلاميين، وفيه يتم الإعلان عن مشروع زواج البشير من السكريتيرة التي كان يسخر منها قبلا. ص 49.
فالسخرية كانت في اختيار المكان لمناقشة أمور السياسة، وتضاعف حين تم الجمع بين مبادئ الحزب اليساري واللغة الدينية في سلة واحدة دون الشعور بالتناقض.
ولأن حياة جلال عابثة تتمحور بالأساس حول الشرب والطعام والجنس فقد جاءت رتيبة كرتابة السرد الذي بدا ضيقا يدور في حلقة مفرغة لن يتم تكسيرها ولو بشكل بسيط إلا حين عاد إلى أصله. ولعب الاسترجاع دورا مهما في إلقاء الضوء على طفولته وبخاصة حين دفع دفعا إلى مكناس للتعلم والعيش في حضن الخالة لا الأم رغم أنها على قيد الحياة.
لم يكون جلال هو الشخصية الوحيدة في الرواية بل شاركه فيها البشير بشكل أساس، وزملاؤه الإسبان، بابلو، وكارمن، ثم بشكل أقل رفاق البشير في الحزب، والنادل، والفتاة العابرة، والأخ والأم والأب، والخالة إلخ.
تبقى الرواية منفتحة على قراءات أخرى، هي التي لم تنل ما تستحقه من عناية رغم ما شابها من تعثر البدايات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى