هبة رجب شرف الدين - الهوية السيكولوجية للمدينة في السرد الروائي عند محمد نصر

يحاول محمد نصرأن يتماسى مع ذلك السرد الروائي المسمى بسيرة المدن في عدد من صفحات روايته-الرَّق- وهو سرد روائي قائم على تقديم ملامح الهوية المكانية والتاريخية للمدينة محل السرد؛ وقد"سمّى بعض الباحثين هذه الروايات بسيرة المدن؛ لأنها تتوخی وصف المدن وذكر سيرتها وأحداثها ووقائعها وكل ما يرتبط بها، ويهيمن عنصر المدينة أو المكان في السرد الكولاجي، فهو شرح للمدن بدل من أن يكون وصفًا لشخصيات والأبطال والجماعات"( )، لكن محمد نصر يتخطى هذه المادية إلى البعد المعنوي؛ فهو يقدم الهوية السيكولوجية المرتبطة بالمدينة؛ فيجد المتلقي نفسه أمامبانُوراماسيكولوجية؛ لذلك يسمى سرده بالهوية السيكولوجية للمدنية، ولكن أي مدينة؟ هناك مدينة مادية إسقاطية على وطنه، ومدينة روحانية حسب مساره الصوفي المبتغى.
ففي شأن الأولى يتناول محمد نصر أثر المكان المنتمي إليه على ذاته؛ فيقول عبر الرمزية في الجزء المعنون بالسدرة: "لم يقف عليها إلا الغربان . موجودة من بداية الخلق لا يجلس تحتها إلا الفقراء . لا تسقط إلا ثمارا مرارتها مرارة العلقم . لا تمنع أوراقها حر الشمس ولا برودة الشتاء . لم تستر عورة من يجلس تحتها يوما. تعطيهم القليل, وتسلب كل ما فيهم, ومع ذلك يحبونها .. نحبها"( )
يأخذ الوصف المتلقي إلى أبعاد سياسية واجتماعية وفكرية، كما يوقظ الروائي في خلجات المتلقي عبر الصور البصرية والنفسية شعور القهر والذلة حينا، والانتماء والحب حينا.
يشعر المتلقي في السدرة أن الوطن فاعل ومفعول به، فهو الفاعل في وقوع البطل في ثنائية الحضور والغياب، ومن ناحية أخرى يماثل المكان البطل فهو أيضا مفعولًا به من قبل الآخر
ويؤكد الروائي هذه الصورة في وحدة سردية أخري قائلا:
"يصعد عليها آلاف الآلاف من الجراد . لم تحاول يوما منعهم . تتمايل أغصانها فرحا بهم؛ تملكهم نفسها كي يفضون بكارتها . هو عرس الجراد وشجرة التوت . شجرة التوت يرويها ماء النهر . ماء النهر لونه لون الدم . ما أصعب البكاء الآن . مخيلتي لم ترسمني يوما إحدى الجرادات ولا أحد الغربان التي يعلوها قبعات من الريش كقبعات الأجانب , ولم تترك لي إلا أن أكون أحد الفقراء كي انتظر الساقطة من أعلى"( )
يقابل المتلقي ومضات متلاحقة من الصور مثل (هو عرس الجراد وشجرة التوت . شجرة التوت يرويها ماء النهر . ماء النهر لونه لون الدم . ما أصعب البكاء الآن) إن سرعة انتقال الراوي من صورة إلى صورة أخرى، عبر نقل الدال اللغوي الختامي للصورة إلى دال تبدأ به صورة أخرى، يعطي مثل هذا النهجالأسلوبي نوعًامنالترابط، لكن لكل صورة خطابها المكاني عبر الرموز المستخدمة في صناعة المعادل الرمزي المُشكِّل لإحالات الشجرة الوطن، الشجرة الهوية، الشجرة السلطة، الشجرة التحالفات والمعاهدات، الشجرة القضية، الشجرة السبب، الشجرة النتيجة، ثم يأتي بكاء البطل على حال هذا المكان؛ كي يوقف استمرارية رصد الصور.
في المكان الآخر الذي يرتقي إليه البطل يضحى المكان مركز الوصف في عدة صفحات يتماسى فيها مع ماهية المعراج؛ مما يهدم مادية المكان والزمن، يقول البطل:
"الوقوف عن الطيران لم يجعلني أدرك أننا أمام هذا الحائط الفضي ذي الأبواب التي لم أر لها مثيلا . ينظر لي الرجل كأنما يأمرني بطرق أحد الأبواب ؛ فأطرقه ثلاثا . حركة الباب عند فتحه سمحت بمرور تلك النسمة العطرة التي ملأت صدري , وكشفت عن رجال ذوى أجنحة يقفون خلف الباب . أنظر إلى خادم ورقة الذي رفع طرف جناحه ووكزني به ؛ فتذكرت ما علىَّ من قول تجاههم .
- سلام عليكم . كنت فيكم وأنا منكم .
- مرحبا بمن كان فينا وهو منا . ادخل واقترب ولا تبدل ما فيها كائن .
هذه سمائي الأولى إذن . القدم مشدودة بعظم الرؤى , العقل يريد أن يجمع كل ما فيها ليضعها داخله . كل الأشياء يغطيها الجمال . الأرض متسع أخضر .. رياض وأنهار .. تلال وجبال تظهر على البعد . الخضرة بدرجاتها تغطى الأرض , ولا آثار لبيوت أو بشر . كل الأشياء تبدو كنغم منتظم يألفه القلب سوى هذه الأشياء الممددة باتساع الأرض والتي تبدو كيرقات كبيرة"( )
يتناول الوصف ههنا هيئة الشخصيات، وملامح المكان، ويخصص المكان/السماء بياء المتكلم، ويحمل هذا الوصف رؤية صوفية يستكملها في وصف باقي السماوات.
في الجزء المعنون بالمكان يقول الراوي "البلد الأول كالثانى كالثالث . كل البلاد متجاورة متشابهة . رجال ونساء , أطفال وشيوخ , مجانين وحكماء , قصور فارهة وبيوت طينية يأنف أصحابها العيش فيها , شوارع وأزقة يمر فيها أناس يرفعون أياديهم اليسرى كمرآة , ويمشطون وجوههم حتى تسقط قطرات الدم على الأرض . كل المدن .. كل القرى يحيطها سلكان شائكان . يفصل بينهما عدة أمتار , ومزروع فيها ألغام كثيرة من عهد فات"( )
يتعالق الوصف-رمزًا- مع الرؤية الواقعية من جهة، والرؤية الصوفية من جهة أخرى، والسرد الوصفي"منأهم مؤشرات الكولاجي وأبرزها وأكثرها ظهورًا في النص السردي، حيث يسعی الروائي إلى أن يصنع صورًا من المواد التي يحكيها. الروائي في الدرجة الأولی يهتم بتشكيل الصور ورسم الأشياء والأشكال، ثم يبني سرده على أساس الملصقات والصور والمشاهد الساكنة والملونة والمتقطعة، لا على أساس الأحداث والوقائع المتتالية والمتتابعة"( )، وهذا النهج سار عليه محمد نصر في روايته بشكل عام، وقد تجلى بشكل خاص في فصل المكان،لكونه يلتقط صور حياتية يصادفها في الواقع، ويربط بين الفعل الكاشف عن هذه الصور وبين رؤيته الصوفية؛ فيجعل من الصور رمزًا معبقًا بالدلالات، فعبر المزج"يستعمل محمد نصر في هذا الفصل عدة صور رمزية في التعبير عن حال المجاهدة كفعل ناتج من إرادة البطل، وعن حال المجاهدة كفعل يطلبه المربي من البطل، وتراوحت هذه الصور بين المرآة، والأسلاك، وفضاء الألغام"( )، وهي دوال لغويةمتباينة الحقول؛ وقدشكل منها صورة عجائبية؛كي يدلل بموجبها عن وضعية المجاهدة.
لقد ساهمت ممارسة الكاتب للمواقف الحياتية والتجارب الروحانية المتعلقة بالمكان-عبر الكتابة- في تعميق الرؤية الفكرية والسيكولوجية تجاه الموقف من جهة، وتنويرالوعي السيكولوجي عند المتلقي بماهية المكان من جهة أخرى.


1- شهرام دلشاد، السرد الكولاجيّ وخصائصه في رواية" إسكندريتي" لإدوارد الخراط، مجلة دراسات في اللغة العربية وآدابها، ع33، ربيع وصيف، 2021م، ص73
2- محمد محمد نصر، الرَّق، كتاب إفاقة الأدبي، 2008م، ص17،18
3- المرجع السابق، ص18
4- المرجع السابق، ص27
5- المرجع السابق، ص88
6- شهرام دلشاد، السرد الكولاجيّ وخصائصه في رواية" إسكندريتي" لإدوارد الخراط، ص74
7- هبة رجب محمود عمر شرف الدين، رواية التجلي في الأدب المصري في الألفية الثالية، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة قناة السويس، 2021م، ص215

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى