عبد الله كنون الحسني - المتنبي في ديوانه بمناسبة ذكراه الألفية.. -2-

وقال المتنبي:

يَترَشفنَ من فمي رشفاتٍ ... هنَّ فيه أحلى من التوحيد

فقالوا: لو كان يجد للإيمان في قلبه حلاوة لما جعل رشفاتهن من فمه أحلى من التوحيد. ونقول: إن البيت قد روى هكذا: هن فيه حلاوة التوحيد، وهي نسختنا أيضاً. وقد قيل إن أفعل غير مراد به التفضيل؛ وقيل أيضاً إن التوحيد نوع من التمر! وعلى الرواية الثانية يكون شبه الترشيف بحلاوة التوحيد ولا حرج في ذلك، ومثله مستساغ في مذهب الشعراء. هذه ثلاثة أبيات ليس في شعر المتنبي أكثر غلواً منها، ومع ذلك فهي لا ترد علينا كما رأيت. أما مذاهب عقليته فنشير إليها حيث يقتضي المقام ذلك؛ وليس هناك ما يدل على أنها من ذات نفسه ومضمر قلبه أصلاً؛ وأما مبالغاته في المدح فيصل بها إلى حد المقارنة بين نفسه وممدوحيه من الأنبياء

والأمر الأول لا شك لا يؤاخذ عليه لأنه حتى على فرض كونه مما يؤثر في صحة الإيمان فمن أين لنا أنه كان يعتقده؟ وإلا فحاكى الكفر ليس بكافر، وعلى أنه اعتقده فمن أين لنا أنه استمر على اعتقاده إلى أن مات؟ وعلى كل حال فالحكم على المتنبي بضعف العقيدة لبعض أفكار فلسفية تضمنها شعره يجعلنا لا نقبل في حظيرة الإسلام أكثر علماء الإسلام من الذين لهم مذاهب فلسفية وأفكار حكمية. على أنه ما من قول موهم في شعر المتنبي إلا وقد وجد في شعر غيره ما هو أكثر إيهاماً منه، فلماذا لم تحكموا على غيره من الشعراء بذلك الحكم الجائر؟ ولولا ضيق المجال لعقدنا مناظرة بين أقواله وأقوال غيره من الشعراء في هذا الموضوع حتى يرى القارئ أن المتنبي لا يزيد على غيره إن لم يقصر في ذلك. وإليك قوله مثلا في كافور:

ألا فتى يُورِدُ الهندي هامته ... كيما تزول شكوك الناس والتهم

فأنه حجة يوذي القلوبَ بها ... مَن دينه الدهر والتعطيل والعدم

فأنه هو عين قول أبن الرومي لصاحب لحية طويلة في صورة أخرى من السخرية: أرْع فيها الموسَى فأنك منها ... - يشهد الله - في أثام كبير

أيُّما كوَسج يراها فَيلقى ... رَبَّه بعدها صَحيحَ الضميرِ

هو أحرى بأن يشكًّ ويغرَى ... باتهام الحكيم في التقديرِ

فلماذا أخذ قول المتنبي دليلا على ميله للتعجيل دون قول أبن الرومي الذي منه استعار المتنبي ذلك المعنى؟

كذلك الأمر الثاني، لم يكن المتنبي بارعا فيه ولا بأول ولا آخر؛ فما زال الشعراء يشبهون ممدوحيهم بالأنبياء بل يجاوزون التشبيه إلى ما هو فوقه، وذلك معروف من مذهبهم قديماً وحديثاً، ولا نعني أنه لا بأس به شرعاً، ولكنا نريد أن نقول إن المتنبي لم ينفرد به ولم يطعن أحد بمثله على غيره من الشعراء في عقيدته؛ وقد وجد ذلك في صدر الإسلام ووسطه ويوجد الآن في هذا العصر، فمن قول جرير بمدح عمر بن عبد العزيز:

أتى الخلافة أو كانت له قدرا ... كما أتى ربه موسى على قدر

ومن قول أبي نواس في الأمين:

سخر الله للأمين مطايا ... لم تسخر لصاحب المحراب

ومن قول أمير الشعراء المرحوم أحمد شوقي بك يذكر طائرات فرنسا:

لسليمان بساط (واحد) ... ولكم ألف بساط في الفضاء

فهل هؤلاء الشعراء لا يضربون مع المتنبي على وتر واحد في هذه النغمة؟

والخلاصة أن المتنبي كغيره من الشعراء صدرت عنه أقوال ظاهرها الاستخفاف بأمر الدين ولكن لا نحكم بمقتضاها أنه فاسد العقيدة حتى نحكم على غيره من الشعراء بله العلماء أنهم كذلك، فأن بعضهم أسوة بعض في هذا الأمر

وأما أخلاقه فلسنا بحاجة إلى التنويه بما كان عليه من علو الهمة والشجاعة والصدق والوفاء، فإن شعره مملوء بشواهد ذلك حتى لقد بلغ من علو الهمة أن عابه خصومه بهذا الخلق، فمنهم من لقبه بالمتنبي لتشبيهه نفسه بالأنبياء، ومنهم من جعل ذلك مرضا نفسيا أشبه ما يكون بالجنون. والواقع أن المتنبي كان يسرف في التعظم وإن كان له سلف في ذلك، فانظر إلى قوله:

أي محل أرتقي ... أي عظيم أتقي وكل ما قد خلق الله ... وما لم يخلق

محتقر في همتي ... كشعرة في مفرقي

فأنك لا تجده يختلف عن قول هبة الله بن سناء الملك:

وفرطُ احتقاري للأنام لأنني ... أرى كل عار من حلي سودَدِي سدى

أرى الخلق دوني إذ أراني فوقهم ... ذكاءً وعلماً واعتلاء وسؤددا

وبلغ من شجاعته أن لاقى الموت المحقق فراراً من الغدر. وبلغ من صدقه أن قال عنه بن حمزة إنه ما كذب قط، وقال هو:

ومِن هوى الصدق في قولي وعادته ... رغبتُ عن شَعرٍ في الرأس مكذوب

وبلغ من وفائه أنه برغم ما عامله به سيف الدولة من سوء العشرة، لم يبح ذاكراً له متشوقا إليه؛ وقد كان يمدح كافورا فيصدر بمدحه ويكثر التأسف على فراقه. ومن شدة وفائه أنه وفى للشيب فلم يقدر على مفارقته إلا حزينا باكيا كما قال:

خلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكياً

هذه أخلاق المتنبي ليس مغمز لأحد؛ وقد وصف به نفسه في شعره، وجاءت سيرته دليلا على صدقه في هذا الوصف. إلا أن الطاعنين عليه لم يعدموا ما يلمزون به أخلاقه أيضاً فقالوا: إنه كان بخيلا، وبخيلا جداً، واستدلوا على ذلك بحكايات ملفقة تشتم منها رائحة الوضع كما يقول المحدثون، وبأبيات من شعره إن لم نقل إنها محرفة عن موضعها فلا أقل من أن نقول إنها لا دلالة فيها على ما زعموه أصلا. فأما تلك الحكايات فقد كفانا الأستاذ المازني أمرها إذ بين ما فيها من زور وما تحتويه من بهتان؛ وأما أبيات الشعر فأنا ناقلون مما هو نص من شعره في نفي هذه التهمة عنه ثم مقارنون بينه وبينها ليظهر خطأ الاستدلال بها واضحاً لا خفاء فيه

قال المتنبي يستنجز كافورا ما وعده به من الولاية:

أبا المسْك هل في الكأس فضل أناله ... فإني أُغَنى مُنذُ حين وتَشرَبُ

إذا لم تُنط بي ضيعةً أو ولاية ... فجودك يكسوني وشغلك يسلب

وقال فيه أيضاً:

وهل نافِعي أن تُرفَعَ الحُجْب بينَنا ... ودون الذي أمَّلتُ منْك حِجابُ فهذا المتنبي يقول إن بغيته في فضلة من الكأس الذي يشرب بها كافور (يعني الولاية) لا المال. وإن كل ما وصل من عطاء كافور لم يرفع الحجب بينه وبين ما أمله منه، ولا شك أن ذلك شيء غير المال. ومن كانت هذه منزلة المال عنده، لا يحفل به ولا يجعله شيئاً مما أمله، فكيف يوصف بالبخل ويتهم بالحرص لو كان هناك إنصاف؟ وقد صرح به أخذ ضمناً من الأبيات في قوله

وما رغبتي في عسجد أستفيدُه ... ولكنها في مَفخر أستَجدُّه

وقال في شكره لمن وهب له هبة:

وما شكرتُ لأن المال فرحني ... سيّان عندي إكثار وإقلال

لكن رأيت قبيحاً أن يُجادَ لنا ... وإننا بقضاء الحق بُخَّال

وفي مطلعها ما يشير إلى صدق قوله (فجودك يكسوني وشغلك يسلب) وهذا هو المطلع:

لا خيل عندي أهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم تسعد الحال

ثم هل بقى من تقبيح البخل أكثر من جعله من مبطلات الصلاة كما قال:

فتى لا يُرجِّى أن تَتَّم طهارةٌ ... لمن لم يطهر راحتيه من البخل

فهذه الأبيات وسواها كثير مما هو نص في المراد، كيف يصح إغفالها والتمسك بمثل قوله دليلا على بخله:

فلا مجدَ في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا قل لمن مجده

فهل هو إلا مقرر لحقيقة واقعية، وهي أن المجد مهما كان رفيعاً لا اعتبار له إلا بالمال، وقد أجمع الناس على ذلك فما يحترمون إلا صاحب المال ولو كان دنيئاً؟ ولكن ألا تراه مع ذلك قد عقب بأن المال وحده لا اعتبار له عند العقلاء ولا بد من خصال المجد التي هي أساس الاعتبار؟

وأغرب من ذلك الاستشهاد على بخله بمثل قوله:

من يطلب المجد فليكن كعليَّ ... م يَهبُ الألفَ وهو يَبتسم

وقوله:

تهللَ قبل تَسليمي عليه ... وألقى مالهُ قبلَ الوسَاد

وهذا لو صح دليلاً على بخل الشاعر لعددنا كل شعراء العربية بخالا، فأنه لكثرة ما تدوول هذا المعنى، صار لا يخلو منه ديوان شاعر

وإننا لا ننفي أن المتنبي كان جماعة للمال، ولكنه لم يكن يفعل ذلك إلا للاستعانة به على مقاصده كما يصرح هو بذلك في شعره لا سيما وهو يعلم من أحوال عصره أن الاعتبار كله إنما هو لأهل المال خاصة. وانظر إلى حكاية البطيخة التي أعطى صاحبها خمسة دراهم فلم يبيعها له وباعها بثلاثة لمن يملك مائة ألف دينار لمجرد كونه يملك مائة ألف دينار! فانصرف وقد علم أنه لا يتم اعتبار الناس له إلا إذا جمع مائة ألف دينار؛ وقد كان كذلك، وكل ما صدر عنه في هذا الصدد إنما هو من قبيل المثل الفرنسي , وكم بين من يطلب المال ليستعين به على قضاء حقوقه - وأي حقوق هي! إنها لتزري بحقوق الطغرائي التي يقول فيها:

أريد بسطة كف أستعين بها ... على قضاء حقوق للعلا قِبلي

وبين من يطلبه لمجرد الحرص عليه وشهوته التي هي مرض من الأمراض، فإن هذا هو البخيل حقاً لا ذاك!

والواقع أننا وجدنا المتنبي صادقاً في كل ما وصف به نفسه من خلال المجد، فلا يصح أن يكذب في هذا الأمر لمجرد حكايات الله أعلم بحالها وحال من نحله إياه! كذلك وجدنا شعره طافحا بمدح الكرم وذم البخل في أبيات صريحة لا غبار عليها فلا يجوز أن نغض الطرف عن ذلك ونلجأ إلى الفرض والتخمين محملين بعض ألفاظه ما لا دلالة لها عليه لنصحح تهمة أنه كان بخيلا!

وإذا فرغنا من الكلام في النقط الثلاث التي عنينا به هنا، فلنتساءل ماذا كان مطلب المتنبي في الحياة ما دام لم يكن يطلب المال لذاته؟

والجواب أن المتنبي كان طالب دولة ولا شك، وكان لا أعدي إليه من أصحاب الدول في عصره، فهو لو تمكن منهم لما رحمهم، بل نرحم شبابه من أن يرحمهم على حد تعبيره هو:

لا يخدعنك من عدُوٍّ دمعُه ... وارحم شبابك من عَدُو ترحمُ

وقد كان يرى المجد في ضرب أعناق الملوك:

ولا تحسبنَّ المجد زقاً وقَينةً ... فما المجد إلا السيف والفتكةُ البكر

وتضريبُ أعناق الملوك وإن تُرى ... لك الهبواتُ الكثر والعسكر المجر فلو أن الفلك جرى بموافقة سعيه لعصف بدول عصره جميعا ولو دولة الخلافة، وأقام على أنقاضها دولة متنبية من الطراز الذي يقول فيه أبو الطيب:

أعلى الممالكَ ما يبنى على الأسلِ

وما أصدق ذلك الذي قاله على لسان كافور وقد صوّر أنه سئل لماذا لم يُنلْ المتنبي ما طلب منه من الولاية: (يا قوم! من أدعى النبوّة بعد محمد صلى الله عليه وسلم كيف لا يدعى الملك بعد كافور؟)

وحينئذ فماذا كان يصير لو نجح المتنبي في مطلبه؟

إن الدولة العربية كانت قد شاخت في زمنه وتمكن الضعف منها فصارت هامة اليوم أو الغد، وقد رأى هو أن العرب أصبحت تدين للعجم بالطاعة وذلك أمر ليس من صالحهم في شيء:

وإنما الناس بالملوك وما ... تَصلح عُرْبٌ ملوكها عجمُ

وإن المسلمين أصبحوا في كل جهة عبيد العصا يسوقهم المتغلب أمامه كما يسوق الراعي قطعان الماشية:

ساداتُ كلٍ أُناس من نفوسهمُ ... وسَادَةُ المسلمين إلا عبدُ القزُمُ

وقد صار أمرهم مع المشركين بين العجز عنهم والرهب منهم:

أرى المسلمين مع المشركين ... إما لعجز وإمَّا رهُبْ

فإذا قلنا إنه لو نجح في مطلبه لكان ذلك من الخير للعرب والإسلام. لم يكن في قولنا هذا شيء من المبالغة لأن الرجل كان قوة هائلة لا تقف عند حد ولا ترجع عن قصد، فكان ينفخ من روحه في جسم الدولة المتهالك ويهيب بالأمة إلى حياة المجد والعظمة فما يكون بأسرع منها إلى الاستجابة له والإقبال عليه صادعة بأمره صادرة عن قوله:

لا افتخارٌ إلاَّ لِمن لا يُضامُ ... مُدركٌ أو محاربٌ لا يَنامُ

ليس عزماً ما عرَّض المرءُ فيه ... ليس همّاً ما عاقَ عنه الظلامُ

واحتمالُ الأذى ورؤْية جانِ ... يه غِذاءٌ تضوي به الأجسامُ

ذلَّ من يغبط الذليل بعيشٍ ... رُبَّ عيشٍ أخفُّ منه الحمامُ

(طنجة) عبد الله كنون الحسني


مجلة الرسالة - العدد 130
بتاريخ: 30 - 12 - 1935

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى