عبدالرحيم التدلاوي - الكتابة موضوعا للكتابة، قراءة ثانية في رواية "فرخة الجنة" للمبدع المغربي جمال الدين حريفي:

جمال الدين حريفي مبدع مغربي متعدد القبعات؛ فهو روائي وقاص وناقد ومسرحي وشاذر، وقد اخترت "غيمة المشاء" المجموعة الثانية من شذراته القيمة حيث يدعو فيها إلى المحبة والسلام، ونبذ العنف من خلال صوت البستاني الذي كان عطارا من قبل وحارس مقبرة وحارس أوهام. كما يدعو إلى الفرح والابتعاد عن مراسي اليأس والأحزان.
ورقتي تعريفية ليس إلا بهذا المبدع وبهذا المؤلف الخصب الذي يمكن للقارئ أن يلجه من أي باب.
**
عنوان الشذريات هو: غيمة المشاء، وتحيل كلمة المشاء على المدرسة الفلسفية التي أنشأها أرسطو أو تلاميذه، وفي تعريف هذه المدرسة يرد في ويكبيديا التالي:
المدرسة المشّائيّة (تسمى أحيانًا: الحكمة المشّائيّة) هي مدرسة فلسفية في اليونان القديمة، استمدوا أفكارهم من مؤسس تلك المدرسة الفيلسوف اليوناني أرسطو، الذي سماه تلاميذه المشّاء. استمدت المدرسة اسمها من كلمة Peripatos، والتي تعني أروقة مدرج الألعاب الرياضية في أثينا، حيث كان أعضاء تلك المدرسة يجتمعون. وهناك كلمة يونانية أخرى مماثلة peripatetikos تشير إلى فعل المشي، والصفة peripatetic التي تعني ”المشّاء“. بعد وفاة أرسطو نشأت أسطورة أنه كان محاضرا ”مشّاء“، فحلت التسمية "Peripatetikos" محل الكلمة الأصلية "Peripatos"..
هذا المضاف يفيد أن الشذريات تستمد بعضا من أبعادها من الفكر الفلسفي، بل هي تفكير فلسفي في شؤون الحياة والإنسان. ثم إن الشذرة حامل فلسفي اعتمده الكثير من الفلاسفة في بناء تصوراتهم وعرض أفكارهم وتوجهاتهم، ومن بينهم نيتشه.
وتعد الشذرة ، في غالبية الأحيان، نصًّا تعبيريًّا يحتوي على أكبر عدد ممكن من الأفكار في أقل عدد ممكن من الألفاظ. وتفيد كما قال الشاعر المغربي راك معروف التشظي والانكسار والتقطع واللااكتمال. كأنها نصوص بلا بداية ولا نهاية.
إنها مذاق مركز جدا، أو نص مضغوط حد الانفجار، وهو ما يجعلها سليلة قولة النفري: ضاقت العبارة واتسع المعنى. وقد تكون الشذرة شعرا أو فلسفة أو تصوفا، وقد تكون جامعة لكل ذلك، وهو ما نلاحظه في مؤلفنا "غيمة المشاء". ذي العبارات المركزة ذات الزخم المعرفي والفكري. لكنها ليست بالضرورة حكما.

1710852021411.png

ويرى محمد منصور أن الرغبة في كتابة الشذرة تطمح نحو كسر النسق التقليدي الصارم لإبداع الفكر، وتقديم الفكرة في شكل برقي مضيء، يثير ويوحي أكثر مما يشرح ويفسر، يفكك ويؤول أكثر مما يؤسس ويدلل. الشذرة غالبًا تطمح إلى أن تختلف لا أن تأتلف، تطمح إلى ما كان يردده نيتشه عن أنه «يرجو أن يقول في عشر جمل ما يقوله غيره في كتاب كامل». ويضيف قائلا:
من خلال قراءة شذرات عدد من الكتاب يتبين لنا أن الشذرة لا تشرح ولا تفسر ولا توضح. إنها تعقد مناقشةً مع قارئها، وإذا امتلك هذا القارئ ما يؤهله إلى استمرار المناقشة، فإنه قد يصل إلى دلالات لا معاني، وإيحاءات لا براهين، لتستمر المناقشة في وعيه الذي سيعتد بنفسه أكثر ليناقش العالم كله في صوره المتناقضة.
نصوص "غيمة المشاء" تدعو إلى المحبة ونبذ العنف. نصوص تدين القتل وسفك الدماء وتدعو إلي السلام والتسامح. إن البستاني قد فقد كل اتصال بالعالم، لماذا؟
لأنه وجده مليئا بالزيف والنفاق؛ ويميل إلي العنف والقتل ويتبنى قيم المخاتلة والخداع.
وشرط دخول حديقة البستاني هو: أن تكون إنسانا يؤمن بالحرية، لأن أزهاري لا تقطف، وعطرها لا يوضع في قفص. ص 33.
وعليه، فالحرية هي أس بناء الإنسان؛ فالعبد لا يحقق السمو، لأن وضاعته تجره إلى الأسفل؛ أي إلى كل ما هو دنيء.
يقول: كل عبد يسعى لأن يكون فارس قبيلة ما، لن يكون حرا أبدا. ص 133.
لهذا أتت النصوص بغاية أساسية وهي السعي إلى إعادة الإنسان إلى إنسانيته بتطهيره من أنانيته وتعطشه للدم. شذرات تمتح من تراثنا المحلي والقومي والإنساني الحامل للقيم الإيجابية.
"ليس ما يحتاجه الإنسان في حياته هو حالة الطمأنينة فقط، ولكنّه يحتاج إلى السَّعى والاجتهاد في سبيل هدفٍ يستحقُّ أن يعيش من أجله."
ولعل من بين أهداف العمل الشذري هو بعث الحياة في الإنسان، أي بإعادة الإنسانية إليه بعد أن فقدها جراء الانغمار في تحقيق مصالحه الخاصة في عالم يسوده الاستهلاك غير العقلاني مما تسبب في الإخلال بالطبيعة والإنسان معا، هذا الاستنزاف يهدد مستقبل البشرية وعلينا تدارك الأمر قبل فوات الأوان. لكن، هيهات هيهات أن يتحقق نبل المقصد ومصانع الحرب شغالة، والأطماع في ازدياد. صار الإنسان، في ظل الرأسمالية، متوحشا، يسعى إلى التهام أخيه، أو محقه.
يقول تولستوي في كتابه "في العلم والأخلاق والسياسة"، مؤكدا هذا الطرح:
لدي قناعة عميقة للغاية أن تلك الحرب هي مجرد نوع من التجارة ولكن على نطاق واسع.
إنها تجارة بسعادة الشعوب من قبل أولئك الذين يتمتعون بطموح كبير وقوة هائلة, يا لحجم الكوارث والبلايا التي نعاني منها من جراء ذلك ! لن أنسى أبدا تلك الفظائع وتلك التأوهات الحزينة التي كانت تخترق عظامي.
أولئك البشر الذين لم يفعلوا شرا لبعضهم البعض يذبحون بعضهم الآن كالوحوش المفترسة, وهذه الأرواح الرقيقة التي شكلها الله الصالح الرازحة تحت نير العبودية تحرض الآن على مثل هذه الأفعال.
يبدو جمال الدين كمصلح في القرن الحادي والعشرين، يحمل هم الإنسانية ويصرخ في وجه القبح متعدد الوجوه والحضور، لا يريد أن يتخلى عن رسالته السامية، بعد أن طغى صوت القنابل، وصمتت الحناجر المنددة والثائرة. يريد أن يعم العالم الطمأنينة والسكينة رغم ما يعترض هذا البرنامج من عوائق صعبة الاجتياز، لكنه التحدي والرهان على من يحمل في قلبه الرحمة، ويصبو إلى الجمال، بحس إنساني رفيع.
هكذا، نراه يوجه خطابه إلى الإنسان القابل للإصلاح بقوله:
قال"البستاني:
الناس نوعان، من يريد عالما أفضل، ومن يسعى لجعله أكثر سوءا.
فلا تجعل العالم أكثر سوءا. ص 19.
والخطاب ليس لفرد بعينه بل هو موجه لنا جميعا، أي الذات الجمعية التي تصبو إلى الجمال، ولا تسعد إلا حين يعم العالم الأمن والطمأنينة والسعادة والهناء.
وهذه الفئة هي التي تحررت فتمكنت من الإنصات لصرخة الكون:
النباتات تحس بك عندما تقترب منها، وكذلك الأحجار. كل حي وكل ميت في هذا الكون يخاطبك، ولكنك لا تصغي إليه. فهيا، تحرر، وأنصت لصرخة الكون. ص 18.
لعل الإنسان بحاجة إلى إزالة كل الحجب التي تعيق اتصاله بالعالم الطبيعي والإنساني، وأن يتحرر من أثقال العبودية متعددة الأبعاد ليتمكن من العودة إلى نبعه الصافي، ويواصل بناء العالم من جديد، عالم منسجم يحقق السعادة والهناء.
يقول الشاذر:
الليل أولى بالمحبين إذا كان النور في قلوبهم.
يحضر التضاد بين الليل والنور إلا أنه تضاد لا يفجر المعنى ولكنه يعمقه لكون الليل لحظة استتار المحبين وابتعادهم عن الأعين المتلصصة لكنه حب عفيف لا يهدف إلى الإشباع الجسدي بل الروحي مادام أن القلب يحمل نورا.
فالنور نقيض الظلام بيد أنه لا يفيد إلا الطهر المسبل على الليل فقد حضنه بأن أخرجه من دلالته المعبرة عن السوء وسار به إلى نعماء الصفاء. وبذا يصير الليل نهارا مبصرا بفضل النور القادم من قلبي المحبين. إنهما يشكلان بؤرة ضوء في تلك الظلماء. يكسران سطوة دلالتها بتحويلها الى دلالة نقيض.
وقوله:
لن يأتي النهار من شمس لا تشرق في القلب. ص 74.
تؤكد ما سبق. فهذه الشذرة جمعت ثلاث كلمات تقوي معنى النور وهي النهار والشمس والإشراق وكلها مرتبطة بالقلب. فإذا كان القلب لا يحمل نورا فلن تشرق الشمس ولن يطلع النهار. وهكذا يتم التأكيد على أن الحب هو القادر على تكسير طوق الليل بالإتيان بضده الذي هو الليل. أو جعله نهارا رغم اسوداده.
إن الشذرات في غالبها مبنية على التضاد حيث المقابلة بين عنصرين متعارضين من مثل اليأس والتفاؤل أو الحب والحرب أو الرجاء والقنوط. ومن أمثلة ذلك قوله:
.. منهم من يبقى على قيد العيش، ليعتني بالأزهار، ومنهم من يبقى على قيد العيش ليزرع الأشواك.
والتقابل يمنح الشذرات جمالا وقوة معنى في الوقت نفسه.
والأمر نفسه نجده في هذا التقابل بين فعل واحد ينتج عنه رد فعلين مختلفين، يقول:
يمكنك أن تعلم الدين للناس، ولكن لا يمكنك أبدا أن تعلمهم الإيمان. ص 102. والبيّن أن الشذرة تستدعي الآية القرآنية، قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان قلوبكم.
والجميل أن القلب يكتسح المجموعة أو لنقل إن له الكلمة العليا في هذا العمل المشرق. وحضوره يستدعي مرادفاته وما يحلق في سماء معناه، من مثل الإيمان، والأمل والرجاء، والحب والمطر والغيث...
وتعتمد الشذريات على الصور الشعرية لخلق التأثير المطلوب في المتلقي من مثل قول الشاذر في ص 132:
النفوس قدور تغلي فوق التنور.
أو قوله ص 113:
يمكن دائما أن تغضب، لأن أجنحة الريح لم ترفرف..
الغيمة التي أطلت ذلك الصباح..
وهذا التوظيف الشعري يمنح القارئ اللذة ويبعد عن الشذريات الجفاف الذي يتميز به الفكر الفلسفي.
يكمن جمال الخطاب في الشذرات بخلق التفاعل الجدلي القائم بين الحياة والموت بصياغة لغوية ذات كثافة وتتميز بالإيجاز والتوهج فبدت كافية، دقيقة ومعبرة، مضغوطة ذات طابع جمالي من جهة ومعرفي وفلسفي من جهة ثانية. إنها ثمرة تفكير عميق في الحياة والناس، ونتيجة الإصغاء للعالم والتأمل في كل مظهر الحياة أصغرها وأدقها تعقيدا.

**

جمال الدين حريفي، غيمة المشاء، شذريات البستاني، التلويحة الثانية 10/2، دار بصمة لصناعة الكتاب، الطلعة الأولى، سنة 2023.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى