محمود تيمور - فن كتابة القصة

يجمل بي قبل الشروع في الموضوع أن أشيرَ إلى أن الكتابةَ القصصية يجب أن يتوافرَ فيها ركنان: الأولُ: الموهِبة، والآخر: جريُ القصة على قواعدَ وأساليبَ متعارَفة. شأنها في ذلك شأنُ الشعر، لابد من توافر ركنين فيه: الشاعرِية، وصحةِ النظم

ومما لا جدالَ فيه أننا قد نجد الشاعر الموهوب، أعنى من يَلْهم المعانيَ الشعرية، فيفيض بها وجدانه من غير تعمّل، فإذا حاول النظمَ لم تستقم له الأبيات، لقلة بِضاعته من قواعد العَروض، وحداثة عهده بصوغ الشعر. ومثلُ هذا لا يُعد شاعراً تاماً حتى يُكمل ما نقصه بالتعّلم والمرانة

وكذلك الشأن في القاصِّ، فقد نجد من أوتى الموهبة، أعنى الذي يُلهم فكرةً أو موضوعاً قصصياً له قيمة؛ ولكنه ناقصُ القدرة على معالجة موضوعه أو فكرته بالأساليب المقبولة عند أهل الفن في نَسْق القصة. وفي مثل هذه الحالة لا يسعنا أن نعتبر ذلك الموهوبَ قاصّاً مكتملَ النضج

وإذن يجب أن يتوافر للقاص الكامل هذان الركنان معاً؛ فأما الأول، وهو الموهبةُ، ومَعِينها الخيالُ المنسرح، والذهنُ المتوقد، والعاطفةُ المشبوبة، فلا كلام لأحد فيه، إذا هو شئ طبيعي، فإن وُجد في الكاتب تهيأ ليكون قاصّاً في المرحلة الأولى. وأما الركن الآخر، وهو الاستئناس بالأساليب المتعارفة، فذلك الذي نخصه بالكلام، لأنه صناعة، مرجعُ الأمر في امتلاك ناصيتها للتمرين والاكتساب

وقد يتوهم البعض - ونحن نذكر القواعد التي يجب على الكاتب القصصي مراعاتها - أننا إنما نطغى على حقه في اتخاذ طريقة خاصة تلائم هواه، ونحدُّ من حريته في اتباع المذهب الذي يراه. والواقع الذي لا يمكن التغافل عنه أن هناك قوانينَ عامةً مرعية الجانب في التأليف القصصي، على اختلاف المذاهب والأهواء، وأنه إذا خلت القصة من مطابقة هذه القوانين العامة، شعرَ الناقد لأول وهلة بأن هنا اختلالاً ظاهراً، وأن هنا شيئاً يجب أن يُبدَل به شيء، لا دَخْل في ذلك للطريقة الخاصة، ولا للمذهب الخاص

وهل ينكر أحد أن كل شأن في الحياة يسير - في جوهره ولُبابه - وفَق نظام وقانون؟ تلكم هي السيارة، فربما اختلفت أصنافها وأشكالها وعُددها أيّما اختلاف؛ بيد أنها - مع هذا كله - يجب أن تكتمل فيها أدوات عامة مشتركة، إذا فقدت واحدة منها تعطلت السيارة على الفور. وما القصة إلا عمل فنّي من نتاج الفكر، يسير كأمثاله من الأعمال الفكرية على نظام دقيق، خاضع للناموس العام المعترف به في جميع ألوان الأدب

كذلك قد يعترض علينا معترض فيما نلزم الأخذ به من هذه الأصول والقوانين، فيرى أن الفنان العبقريّ يصدر عنه العمل الفنيّ المشهود له دون تعلم ودراسة، ودون تدّرج وتدريب. وجواب ذلك أن كبار الفنانين العباقرة، إنما يفهمون هذه الأصول والقوانين بالفطرة الفذّة، ويهتدون إليها بالسليقة النيرة؛ فهم يخرجون أعمالهم الفنية بوحي من قرائحهم الممتازة التي يكمن فيها النبوغ. وليس أدلَّ على ذلك من أننا لو سألنا أحدهم عما صنعه في تأليف هذه القطعة أو تلك، وماذا لاحظ، لم يُحرْ جواباً. لأن ما أنتجه صدر عن غير وعي منه

وقصارى ما نقرره، أن هذه الأصول والقواعد التي نلخصها في العُجالة التالية، ليست إلا أقيسةً وموازين استخلصت لتكون أساساً تُبنى عليه الأحكام في تقدير القصص الفني؛ فأن حرمت أن تكون عادلة كل العدل، لم تحرَمْ أن تكون أدنى إلى الصدق وأحق بالاعتبار

ثم إن هذه الأصول والقواعد، تبِّصر القَصصي إلى حد ما بصناعة الكتابة في هذا النوع من الأدب، وترشده إلى الخطوط الرئيسية في القصة، وتَقِفُه على المميزات الأولى بين الخطأ والصواب في النسق. وما أشبهها في هذه الحالة بعلم البيان والمعاني والبديع، فعلى الرغم من أن الكلمة الأولى والأخيرة في البلاغة للذوق السليم، وخضوع الكلام لمقتضى الحال - وضع العلماء قواعد وأصولاً تتوضح بها أركان البلاغات، فقالوا: هذه كلمة فصيحة، وهذه جملة بليغة، لتُميُّزها بكيتَ وكيتَ، وخلوِّها من كذا وكذا. ومعلوم أن هذه القواعد لم توضع أولاً، ثم طلب من الكتاب والمنشئين أن يَجْروا عليها؛ وإنما كانت هذه القواعد نتائج مستخلصة من أمثلة بليغة، أقر أهل البلاغة بسموها، واتفقوا على جودتها، فاستخرجوا منها الأسباب التي رفعتها إلى هذه الدرجة، وسرعان ما تحولت هذه الأسباب إلى قواعد.

وذلك هو صنيعنا نحن الآن في القواعد والأصول التي نعالج بسطها، ونقول إن القصة الجيدة تتميز بها

وأَمَا وقد بدأنا نمسّ جوهرَ موضوعنا، فلنتذكر أولاً أن القصة هي عرضٌ لفكرة مرت بخاطر الكاتب. أو تسجيلٌ لصورة تأثرت بها مخِّيلَته، أو بسطٌ لعاطفة اختلجت في صدره فأراد أن يعبر عنها بالكلام، ليصل بها إلى أذهان القراء، محاولاً أن يكون أثرُها في نفوسهم مثل أثرها في نفسه، وهي تتألف عادة من ثلاثة عناصِرَ رئيسية، هي: الموضوع، والشخصيات، والحوار. وهذا العنصر الثالث ليس من المقوِّمات المحتومة دائماً، ولكنه لازم في أغلب الأحيان. فتبدأ القصة بالتمهيد للفكرة، ثم تتطرق إلى ظهور العقدة، ثم تتوصل إلى حل هذه العقدة أو ما يشبه الحل، وهذا هو الهيكل المألوف في بناء القصة على وجه عام.

فمن القواعد في كتابة القصة، ما نذكره فيما يلي:

أولاً: أن تكون للقصة وَحدةٌ فنية. وبهذه الوحدة تتوافر فنية القصة. وما الوحدة الفنية إلا أن يجعل الكاتب همه مقصوراً على إبراز الفكرة الأساسية، مجتنباً جُهدَ الطاقة أن يتطرقَ إلى أفاق أخرى. وإيضاحُ ذلك أن يُراعِىَ الكاتب حصر عمله في جوهر الموضوع، خالصاً من طغيان الزخرف، فلا تَطمسُ التفاصيل الثانوية ذلك الجوهرَ الجدير بالعناية والإيثار. والقدرةُ الكتابية تظهر في التملك لزمام الصميم من الموضوع، كالفارس القابض على زمام جواده لا يدعه يجمحُ به ما طاب له الجموح.

فواجب إذن أن يُخضعَ الكاتب جراِت قلمه لموضوعه، ولا يدع الموضوع خاضعاً لقلمه يجرّه حيث شاء. فإن استطاع أن يخلص لموضوعه هذا الإخلاص ظهرت أفكار القصة متعاشقة، وخرجت القصة بنياناً متراصاً لا حجر فيه لغير معنى.

ثانياً: أن يُراعى في عرض الموضوع جانب التلميح ما أمكن وأن يُحذَرَ جانب التصريح. فلا يشرحُ الكاتب الموضوع ويحلل الشخصيات في شكل مهلهل، بحيث لا يترك شيئاً لفطنة القارئ وذكائه. فإذا لم يعن الكاتب بهذا الجانب كان مُتهماً قارئه بالغفلة وجمود الذهن إذ يوضح له ما ليس بحاجة إلى توضيح؛ وإذن تخرج القصة مكشوفة لا يجد فيها قارئها لذة التعرف بنفسه ولا يشعر بشوق إلى ما يجئ منها بعد. فلا بد أن يدع الكاتب للقارئ فرجة يستطيع بها أن ينتهي إلى التصريح من التلميح، وأن يُشيدَ الكبير من الصغير، وأن يشقِ بمخيلتهِ - فيما يقرأ - آفاقاً من التصور والتفكير. وكما أننا نشير بضرورة أخذ الكاتب بالتلميح، نشير كذلك بألا يجنح إلى الإغراق فيه، مخافة التورط في الغموض والإبهام، فيضل القارئ في فَيافٍ لا يقر له فيها قرار

ثالثاً: أن يعني الكاتب برسم شخصياته، وأن يجعلها تصدر في أقوالها وأعمالها من منطق الحياة التي أراد لها المؤلف أن تعيشها بواعيتها الظاهرة، وواعيتها الخفية أيضاً؛ حتى إذا مضى القارئ في تفهم هذه الشخصيات، وتصور ما يقع من أمثالها، لم يجد نفسه مصطدماً بشيءٍ غيرِ مألوف يأباه المنطق أو الذوق. وما أجدر أن يلقيَ الكاتب كلَّ باله إلى هذا الجانب من البراعة في التحليل النفسي، فإنه يتوقف عليه شطر عظيم من فنية القصة.

رابعاً: ألا تكون الشخصيات بوقاً ينقل ما يلقى إليه المؤلف من الكلام، فيكون المتكلم هو المؤلف نفسه على لسان هذه الشخصيات الببغاوية. والواجب أن يكون للشخصيات كيانها المستقل، وأن تكون حية في حركاتها وسكناتها، وأن يُحس القارئ من أعمالها حرارة هذه الحياة، ويتعرف من فِعالها ما تتميز به من شمائل وحقائق. فلا تتكلم هذه الشخصيات إلا بالأسلوب الطبيعي الذي يلائم نفسيتها، ولا تعمل إلا وفق الحوادث على منهجها المرسوم لها. وبناء على هذه القاعدة، لا يجوز أن يدلنا الكاتب على شخصية بائسة، بأن يجعلها تقول: أنا بائسة. ولكن يعالج أن تُفصح الحوادث نفسها عن بؤس هذه الشخصية. وهذا إلا إذا كان الموقف بطبيعته يستدعي أن تتكلم الشخصية بلسانها، لتفصح عن حالها

خامساً: حتم أن يكون لكل قصة معنى، وإلا كانت القصة لغواً لا جدوى له. والقاص - ككل فنان آخر - مصور للحياة في مختلف ألوانها، مترجم عما يعتلج في رأسه وما يجيش في صدره من معان ومشاعر؛ فهو إذا كتب فإنما يكتب لتصوير هذه المعاني وإيضاح هذه المشاعر. ويصح أن نشير في هذا الصدد إلى أن معاني القاص في الغالب، إما مستمدة من الواقع الذي هو ملء مسموعه ومشهوده، وما هو في نطاق الجو المحليّ الذي يعيش فيه. وإما أن تكون هذه المعاني مستخرجة من صميم النفس البشري، تلك النفس الثابتة بميولها، الخالدة بغرائزها. إلا أن المجد الأدبي لا يكون من نصيب القصة التي يحذق كاتبها رد أصولها ومعانيها إلى أوصال الإنسانية الباقية بتلك الميول والغرائز. فرغبتنا إلى القصاص ألا يعنوا كثيراً بالموضوعات العابرة التي تتغير معالمها بتغير الزمان، وللناس حولها في كل يوم شعور خاص، وحل خاص؛ فإنه إذا تبدل الوقت أصبحت هذه الموضوعات نسياً منسياً، وذهبت قيمتها الاجتماعية والمحلية

سادساً: يجب ألا تكون الفكرة التي يعالجها الكاتب في قصصه مصوغة في قالب موعظة أو حكمة، وألا يظهر فيها تحبيذ شيء أو النهي عن شيء. بل يجب أن تكون الحكمة أو الموعظة مطوية في غضون الحوادث، خالصة إلى القارئ دون معونة ظاهرة من المؤلف؛ وأن يكون التحبيذ أو النهي كامناً في أعطاف السرد، غير ملموس بالكلام المكشوف.

وذلك هو الفرق بين القصة والمقالة، فالقصة ليست منبراً للخطابة وإلقاء المواعظ، بل هي معرض للتصوير والتحليل، يوحي برموزه وظلاله وإشاراته إلى القارئ بالغرض الذي رمى إليه الكاتب القصصي.

سابعاً: يحسن ألا تخلو القصة من عنصر التشويق، وأعني به أن تستحوذ على القارئ في أثناء قراءته نشوة وروعة تدفعانه إلى متابعة القراءة في نشاط وانتباه. ونلفت النظر إلى أننا لا نبغي بعنصر التشويق أن ينقلب الكاتب مهرِّجاً يفتعل الحوادث افتعالا ليصل إلى هذا الغرض، حاسباً أن ذلك هو الذي يبعث الشوق، فإنه حينئذ يقع في أشياء سخيفة مفضوحة يبدو عليها التكلف والاجتلاب. فلابد من الحذق واليقظة في هذه الناحية بحيث يكون فن الكاتب قادراً على أن يجعل مظاهر التشويق جزءاً طبيعياً من سياق القصة، فإنه بذلك يضمن انتباه القارئ ونشاطه، ويوفر له وسائل اللذة والاستمتاع.

ثامناً: ما يجب أن يجري عليه الكاتب في تحري قصته من وجهة اللغة. ونقدم لذلك بأن اللغة العربية في ذاتها لغة موسيقية، لألفاظها وأساليبها رنين وإيقاع. وقد أرف كتاب العصور المتأخرة في استغلال هذه الموسيقية بالمغالاة في الاستعارة، والإكثار من الترادف، والتزام السجع والطباق وما إليه. فبلغت الصناعة اللفظية مبلغاً كان فيه القالب أكبر من المعنى وأوسع مجالاً. ثم جاء العصر الحديث يزخر بموضوعاته العلمية، وبحوثه الاجتماعية والفنية، مما لا يحتمل البرشقة والزخرف. فأريدت اللغة على أن تكون القوالب على قدود المعاني، في غير إهمال لما تقتضيه خصائص اللغة من الموسيقية الأخاذة. فيجب أن يُعنى الكاتب إذن بلغة قصته، فلا يبالغ في التحاسين البيانية من نحو الاستعارة والتشبيه والترادف، بل يجعل الألفاظ على أقدار المعاني جهد المستطاع. ولا ينسينا هذا أن بلاغة الكتابة تكون بمراعاة المقام، فالإطناب مستحب في مواقف الإطناب، والإيجاز مطلوب في مواقف الإيجاز. بيد أن هناك شيئاً تجب مراعاته على كل حال، وهو تجنب الأسلوب المبتذل، ونعنى بالابتذال في الأسلوب استعمال الألفاظ الشائعة شيوعاً يفقدها الرونق والرواء، والوقوف عند التراكيب الركيكة التي لا تستبين بها قدرة اللغة على التصرف في الأداء والتعبير. وإذا كان على القصصي أن يعرف للمعنى حدوده في الأداء، فإنه باعتباره أديباً عليه أن يتخير اللفظ الرشيق والتركيب الشريف.

وبعد فليست هذه كل القواعد التي يجب أن تبنى عليها القصة. وإنما هي معالم رئيسية اجتهدنا في استخراجها، ونرى وجوب اكتمالها في القصص الفني.

ونختم كلمتنا مصرحين بأن هذه القواعد نفسها لا تهدي القاص الناشئ، قدر ما يهديه اكتسابه للملكة التي يستفيدها من موفور إطلاعه على الآثار الفنية المعترف بها، وحسن تفطُّنه إلى ما فيها من أسرار الجودة والإبداع.

محمود تيمور



مجلة الرسالة - العدد 339
بتاريخ: 01 - 01 - 1940

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى