عبدالرحيم التدلاوي - المفارقة والتناص في المجموعة القصصية "عش الهدهد" للمبدع اليمني علي أحمد قاسم. *

عن الإهداء، يقول:
إلى كل من له عبارة قصيرة موجزة، ورؤية متسعة الآفاق.
إلى وطني المكلوم الذي كلما اتسعت جراحاته ازددنا محبةً له وولاءً وانتماء.
إلى كل رؤيةٍ ثاقبة ترى ما وراء الظاهر، وتستنطق الخصوبة من اليباس.
الكاتب/ علي أحمد قاسم.
يؤكد الإهداء انتماء عمله للقص الوجيز، صغير الحجم متسع الأفق، كما يؤكد انتماء العمل للواقع العربي، يشرحه وينتقد تناقضاته ويعري سلوكاته الفجة والقبيحة، لا من أجل النقد ولكن من أجل استنهاض الهمم لتجاوز العثراء وبناء مجتمع قوي ومتماسك.. إن العين التي ترى هذا الواقع لا تقف عند قشرته السطحية بل تتجاوزها لأعماقها قصد القبض على الهارب وغير المرئي لفضحه ونقده ومن ثم إصلاحه أو تغييره.
عن المجموعة:
تأتي مجموعة "عش الهدهد" لتغني القصة القصيرة جدا والومضة؛ فهي تتكون من هذين العنصرين. الشق الأول يتضمن القصة القصيرة جدا، والشق الثاني يتضمن الومضة السريعة والخاطفة والمكونة من جملتين، الجزء الثاني يخالف الجزء الأول ويضاده. لكن وقفتي ستكون مع الشق الأول؛ أي مع القصة القصيرة جدا من خلال العناصر التالية:
التناص.
المفارقة والسخرية.
القفلة.
وشبه خاتمة.
وأشير إلى أن العمل القصصي قد تناول العديد من القضايا الاجتماعية منها والتربوية والسياسية، بأسلوب ساخر يعتمد على المفارقة في فضح الممارسات الشاذة، ومعريا التناقض الذي تعيش فيه الشخصيات دون أن تدرك فداحة هذه الازدواجية. وقد استدعت النص الديني بشقيه، القرآن والحديث، لتقوية أبعاد هذه المفارقة، ولإضفاء جمال على النصوص، ولعلنا نجد في عنوان العمل ما يؤكد هذا الاستدعاء؛ فالهدهد هو الحامل للجديد، والعارف بما هو مختلف، وفي قصة سيدنا نوح ما يضفي على هذا الطائر تلك الصفات. وليس غريبا ان نجد حضورا للطوفان في ثنايا العمل القصصي.
التناص:
ومن عناصر القصة القصيرة جدا التناص، بما يوفره لكاتبها من حرية الحركة والتعبير ، والتناص يمد النص القصصي بدلالات وايحاءات لا تتوافر فيه خارج التناص، شريطة ألا يكون مقحماً أو مفتعلا،ً أو مستوحى، على نحو استنساخي ، فيهبط بقيمة النص الأدبية . والتناص، بعد ذلك، عنصر جذب وإغراء للمتلقي، يزيد من شغفه بالنص وإقباله عليه، بربط موضوعه بالدلالات ، التي أوحتها الإشارة التناصية. *
مبادئ
لم يأكلوا الميتة، و لحم الخنزير،
فقد احترموا عقولهم فلم يقتربوا من الخمر، لكنهم.. شربوا دماء بعضهم.
يؤطر النص القصصي النص القرآني، يسير حذوه، ويستنير به، لقد تم استدعاؤه لتبيان المفارقة المتجلية في ابتعاد المسلمين عن أكل لحم الخنزير، وعن شرب الخمر، لكنهم لم يجلوا مقاصد الشريعة في سلوكاتهم، إذ سارعوا إلى أكل بعضهم لحم البعض، وشرب دماء بعضهم دماء البعض. فبدل تحقيق الوحدة والسلام حققوا الفرقة وإراقة دم الاخوة.
إنهم بفعلهم هذا قد مزقوا راية الإسلام التي تظلهم، وانحروا عن سمو مقاصده، فزاغوا وأزاغوا فكانوا كغثاء السيل، ومكنوا عدوهم منهم.
وما ينبغي الإشارة إليه، هو أن المجموعة تتنفس القرآن، وتعتمد عليه كثيرا لإضفاء جو من الروحانية، ولتقيم تواصلا مع القارئ الذي يمتلك الخلفية المعرفية نفسها، فتستثير معرفته لقراءة تلك النصوص انطلاقا من تلك الخلفية نفسها، مستثمرا إياها في تأويل النص والسعي إلى القبض على بعض دلالاته الممكنة.
وإذا كان النص السابق قد انتقد سلوك الفرقة والخصام، فإن النص أسفله قد انتقد فعل النميمة وأكل لحم الغائب، مستحضرا فعل النهي الذي يأمر بتجنب الغيبة والنميمة ويرفعها إلى مقام أكل لحم الأخ. صحيح ان النص القرآني غير ظاهر، لكن دلالة النص تستدعيه.
نهم
أمضت الساعات في الحديث مع صديقتها،
أغلقت الموبايل قائلة:
لم يمكني الوقت من الاستفاضة... سآتيك لنتكلم بأريحية أكثر.
أما النص الموالي:
انبعاث
في الوقت الذي كانت أنفاسه تتلاحق، وعيناه تتسمر بالسقف، ظهرت عليه بفتنة الأميرة( ديانا) ، انتفض من مكانه.. أخذ فسيلة حب وغرسها من جديد.
فإن النص الديني، وهنا، الحديث، يظهر بشكل واضح من خلال غرس الفتيلة، لكن الفتيلة في الحديث هي غير فتيلة القصة؛ ففتيلة الحديث ترتبط بمواجهة الخراب بالحياة، أما في النص فالفتيلة لها ارتباط بحب امرآة، مما يفيد مواجهة الموت بالحب. وقد تم استحضار شخصية معاصرة ذات طابع إشكالي؛ إنها شخصية الأميرة ديانا التي سلبت قلوب الناس، فأحبوها حبا جما لتواضعها وإنسانيتها، لكنها شهدت نهاية مروعة؛ فقد ماتت بفعل حادثة سير تراجيدية.
نص الحديث وهذا النص يتقاطعان في أن كل منهما يسعى إلى مواجهة الموت بالحياة. وهنا يكمن الخيط الرابط بينهما.
وهذا الحضور للنص المقدس بشقيه، القرآن والحديث، نجده في النص الموالي:
زيف
عبر الفضائيات خطبوا لمستقبل ( كأسنان المشط) حان الوقت للتفعيل،
حطموا طاولة الشعب المستديرة؛ فضلوا المستطيلة.
فالمعلن هو تحقيق المساواة باستحضار الحديث النبوي الشريف الذي يقول فيه الرسول صل الله عليه وسلم: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : النَّاسُ سَوَاءٌ كَأَسْنَانِ الْمُشْطِ ، وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُونَ بِالْعَافِيَةِ.
إنهم، في خطبهم عبر الفضائيات يقولون ما لا يفعلون، فقولهم كأسنان المش غير نابع من القلب، لذا سارعوا إلى تحطيم طاولة الشعب المستديرة لصالح طاولة التفاوت المستديرة، والشكل الهندسي للطاولة قد استثمر بفنية لخلق المفارقة الصغير بين الشكلين وما يرمزان له، والمفارقة الكبيرة بين بداية النص ونهايته.
عن الحديث يساوي بين الناس، ولا يفرق بينهم إلا على مستوى الصحة فقط. لكن خطباء النص ساروا بعيدين عن أهداف الرسول، وقاموا بنهج ضده، حيث كرسوا التفاوت المنتج للفرقة التي رسمت في النصوص السابقة، وهي الفرقة التي تقود إلى الانهزام والتبعية.
وسنجد حضور النص المؤسس في هذين النصين التالين:
ذوبان
فاضت عليه بغزير حبها، ركبا السفينة زوجين
استوت على جودي الحياة، رفرفت حمامة العناق ؛فار تنور الحنين.. بدأ الطوفان.
شهية
تأمله ينتقي قطع الثريد من صحن الممتلئ أمامه؛ رأى جبينه يتصبب عرقا.. وهو يأكل بنهم من مائدة لحم أخيه الميت.
المفارقة والسخرية:
كما تعتمد القصة القصيرة جدا على المفارقة المولدة للسخرية التي تتمثل في تقديم الأمور والأشياء على نحو غير مألوف، يخالف المتعارف عليه ، بأسلوب المبالغة، أوعن طريق اختلاف الموقف، والتركيز على جوانب وتفاصيل جزئية ، يقوم القاص بتصويرها ، بشكل كاريكاتيري، قصد التهكم الذي يفضي إلى النقد . وإذ تكون هذه التفاصيل الجزئية ، من جملة ما تعنى به القصة القصيرة جدا، فإن السخرية مناسبة لها، وتحمل دلالاتها قوة إيحاء. ويستعصي فن السخرية على كثير من الأدباء ،لأنه يحتاج إلى عمق في الرؤيا وقوة في البناء، وهو عزيز المنال على كاتب القصة القصيرة جداً ، لأن ضيق حيز الأداء فيها لا يتيح مجالا للإبداع إلا للمتمرسين الذين يمتلكون ناصية اللغة والقدرة على الصوغ المدهش. *
وإذا كانت النصوص السالفة قد استثمرت النص الديني بنقد الممارسات الشاذة التي تسير ضد تعاليم ديننا الإسلامي، وفضحت تصرفات بعض الأشخاص ومنهم الخطباء، وعرت وصوليتهم وانحرافهم؛ فقد اعتمدت على المفارقة المولدة للسخرية والقفلة الصادمة.
فالأول استدعى قصة سيدنا نوح ومسألة الطوفان، ووظفهما في مجال العلاقة بين الرجل والمرأة، أما الثاني فاستثمر نص الغيبة والنميمة بنفس حمولتهما الاجتماعية.
المفارقة:
إضافة إلى استثمار النص الديني، نجد أن نصوص المجموعة غنية بمفارقاتها، فهي تبنى على مشهدين، الثاني منهما يفضح الأول ويبين تهافته، كما في النصين التاليين:
ترقيع
بعد أن أغوتها كلماته المعسولة، استسلمت له، هدم مملكتها
شعرت بنضوب شهده .. اتجهت إلى الدكتورة لإعادة ضبط المصنع.
خلاص
‏رددوا النشيد الوطني بكل حماسة، وفي حصة الرسم طلب منهم المعلم رسم أحلامهم؛ جاءوه بقوارب للهجرة .
فإذا كان النص الأول يرتبط بالعلاقة بين المرأة والرجل، ويخبرنا عن الخيانة، و ينتقد سلوك الغش في ما قامت به المرأة التي سعت إلى إخفاء الجرم ببكارة مصنعة. لا يقوم السارد بانتقاد المرأة، بل ينتقد الرجل الذي باعها ودفعها بعد أن تخلى عنها إلى نهج ذلك السلوك المعيب حفاظا على سمعتها من أن تلوكها الألسن، وحتى تجد عريسا يجنبها الفضيحة.
فإن النص التاثي ينتقد وطنية التلاميذ الزائفة، فالمفارقة تنبع من ترديد النشيد بحماسة فيما قلوبهم وأحلامهم تسير باتجاه الهجرة.
ولا يمكن أن يكون هذا السلوك إلا نتيجة عدم شعور التلاميذ بالانتماء جراء عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية وعلى رأسها فقدان الكرامة والشعور بالتهميش.
السخرية:
وهي من العناصر البانية للعمل ككل وذات الارتباط الوثيق بالمفارقة إذ يأتيان متلازمين، يولد أحدها الثاني، ومن أمثلتها:
حيوانية
زار المدرسة، أعجب بكثرة الطلاب، تفاءل المعلمون لاهتمامه بحصر الأعداد على مستوى الفصل الواحد،
انتظروا مكافآته.
قال: " على رأس ألفين ضريبة"
فالسخرية، هنا، نابعة من تخييب أفق انتظار المعلمين، فالتفاؤل لم يكن في المكان المناسب، وظنهم الخير في الرجل لم يكن في محله، مما أدى إلى ألمهم المرتبطة بالخيبة، فالتوقع كان على الضد مما وقع. والصفعة كانت مدوية، فالجهة المسؤولة لا يهمها التعليم وجودته بقدر ما يعنيها المال الذي تطلب استخلاصه.
وفي نص:
انتماءات
اجتمعوا بمصير مشترك واحد، تشددوا بالتمسك بالحق الشرعي لفلسطين حد أنهم أجمعوا على .. الاعتراف ببني صهيون.
تزداد السخرية سوداوية بفعل الخيانة للقضية الفلسطينية من أبناء جلدتنا الذين يسارعون إلى الاعتراف بالعدو على حساب أصحاب الحق. فقولهم يسير بالضد على فعلهم؛ فهم في اجتماعهم يعلنون دعمهم للفلسطينيين، ولكن في الخفاء هم مع العدو. والغريب أن الأمر اليوم لم يعد يعبر عنه في الخفاء؛ فقد صار في العلن وبجرأة وقحة.
القفلة أو ختمة النص:
أما الخاتمة، فتتمثل وظيفتها في توفير المفارقة، أو المفاجأة ، أو كسر التوقع ، بهدف تحقيق الإدهاش المطلوب، لتفتح للمتلقي باب التحميل والتأويل ، والإجابة عن السئمة التي تثيرها. من هنا نجد أن المفارقة تقوم بدور مهم في صناعة خاتمة ناجحة ، إذ تقوم بوظيفة "نقطة التحول ولحظة التنوير في النماذج المألوفة.... غير أن دورها يتعاظم في النوع الجديد ، إذ تكون سريعة وحاسمة وخاطفة ومفاجئة.
تقاة
يأكلون رواتب موظفيهم لسنوات
ويمنحونهم نصف راتب في سبعة و عشرين رمضان... خير من ألف شهر.
فالقفلة في هذا النص كانت مفاجئة وغير منتظرة، وتزداد قوتها بفعل توظيف النص القرآني كبهار يعمل على تخييب أفق الانتظار. عن النص مليء بفجواته، ويعتمد على القارئ ذي الخلفية المعرفية الدينية والمدرك لمعاني السابع والعشرين من شهر رمضان، إذ بهذا الإدراك يشعر بالخيبة على المستوى الدلالي، وبالخيبة على مستوى البناء وطريقة ختم النص.
حقوق
فرحوا بصك بلفورهم الكاذب .. جهلوا وعد (وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة)
وهذا النص يسير بهذا الاتجاه، إذ القفلة تأتي على غير المتوقع؛ إنها قفلة مدهشة وصادمة في الآن ذاته. والسارد يستثمر النص الديني مرة أخرى لتحقيق هذه الصدمة المخيبة للتوقع.
على سبيل الختم:
إن المجموعة تقوم على نقد كل المجالات التي تعرف اختلالا معينا؛ فهي لا تهادن لا رجل السياسة ولا رجل الدين ولا رجل التعليم ولا التلاميذ ولا الذكور ولا الإناث، فأينما وجد اختلال وجد النص المعري. كل ذلك بلغة بسيطة واضحة معتمدة على المفارقة والقفلة المراوغة، واستثمار النص الديني لإضفاء هالة على النصوص وتبيان فداحة الانحراف عنه. وتتميز تلك النصوص بالدقة والتكثيف والإيجاز والتلميح، مما يضفي عليها جمالا، ويمنح للقارئ فرصة الـتأويل الحر بناء على مؤشرات داخل نصية لا خارجها.
**
*_ شعرية القصة القصيرة جدا في قصص التنفس حلما لحسين مناصرة، مذكرة ضمن متطلبات نيل شهادة الماسرت في اللغة العربية وآدابها، تخصص : أدب حديث ومعاصر، من إنجاز الطالب، قصبة عثمان/ جامعة الشهيد حمه لخضر الوادي، الجزائر، السنة الجامعية 2015.2016

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى