عبدالرحيم التدلاوي - جماليات الكتابة في رواية "كافكا في طنجة" للمبدع المعربي محمد سعيد احجيوج

صدر عن دار تبارك للنشر والتوزيع، في القاهرة، سنة 2019 رواية «كافكا في طنجة» للروائي محمد سعيد احجيوج. وتندرج ضمن خانة الرواية القصيرة فحجمها لا يتعدى 80 صفحة، جاءت مركزة ومقطرة ومكثفة.
يستلهم الكاتب رواية فرانز كافكا الشهيرة “التحول” ليبني عليها رواية معاصرة لشاب يستيقظ ذات صباح ويجد نفسه، مثل بطل رواية كافكا، تحول إلى مسخ.
يبدو أن أعباء اجتماعية هي التي تقف وراء هذا الانمساخ، فالإكراهات كيرة والطموح يذبل شيئا فشيئا إلى أن يصير سرابا؛ لكن وراء ضمور حلم الشاب أن يكون ناقدا، وأن يتولى مسؤوليات الأسرة بعد تقاعد الأب ، فعل قوي الصدمة أخرس لسانه وجعل نفسيته تمور، ولا يمكن أن يكون هذا الفعل إلا مرتبطا بزنى المحارم، والمتمثل أساسا في ممارسة الأب الجنس مع زوجته مما أفضى إلى إنجاب فتاة من ذوات الاحتياجات الخاصة.
بلغة أنيقة رشيقة وسرد ينساب كأنه معزوفة موسيقية، تمكن الكاتب من محاكاة قصة كافكا ليقدم لنا رواية قصيرة مكثفة بالغة التشويق لن يمل منها القارئ، ورواية غنية بأحداث متنوعة ومتفرعة تأخذ القارئ منذ السطر الأول وحتى الأخير وتُدخله في لعبة القراءة والتأويل لرواية لاذعة لا تخلو من مواقف مضحكة وخفة ظل غير مباشرة وسخرية مبطنة مما يقع في المجتمعات العربية من نفاق وتناقضات.
تحكي الرواية عن جواد الإدريسي الذي يشتغل معلما في الفترة الصباحية، وبائع خضروات في المساء. تخلى جواد عن دراسته الجامعية وطموحه الشخصي واشتغل ليعيل أسرته بعد أن اعتزل والده العمل واقتعد سجادة الصلاة. وبعد رحلة جادة ومسؤولة في تحمل أعباء الأسرة ومتطلبات الأب، جاءت الصدمة المباغتة واستيقظ ذات صباح ليجد نفسه قد انمسخ. تحول إلى مسخ شيطاني بقوى سحرية لن يعرف عنها جواد شيئا وهو يستيقظ كل صباح لا يتذكر شيئا مما حدث الليلة السابقة. ولعل هذا النسيان كان ضروريا ليستمر جواد في أداء مهامه الليلية، فكل مرة ينجز مهمة مختلفة جميعها ترمي إلى الانتقام. لكن السرد لا يخبرنا إن كان جواد ينجزها فعلا، يترك فجوة لينفذ منها القارئ مؤولا. يفقد جواد نفسه ويفقد وظيفته وتفقد أسرته معيلها، وصار هو نفسه عالة على أسرته. يوم أصبح جواد خيار أسرته الوحيد، ضحى بأحلامه ودراسته ليكون العائل، وحين أمسى عالةً على الأسرة لم يعد أمامه إلا أن يضحي بنفسه ويقدم حياته خلاصا لمعاناة الأسرة ولأسرارها الدفينة التي تدفقت إلى السطح. أليس من صفات الجواد التضحية بالنفس من أجل الآخر؟
وقد كان موته الخلاص الذي تطلبه الأسرة؛ إلا أنه كان خلاصا شكليا، لأن بصمة تحوله ستظل عالقة بأذهان أفارد أسرته، يحملونها معهم أينما حلوا وارتحلوا.
ثم إن هذه الأسرة محكوم عليها بالانقراض، فلا الأب قادر على الإنجاب من جديد، ولا جواد قادر على أن يفعلها لأنه عقيم. إنها لعنة أصابت الأب المنحرف؛ فمنذ طفولته حكم عليه أن يسير بالاتجاه المعاكس للحس السليم. حتى زواجه من فاطمة كان بغاية ان تقوم بتربية ابنه جواد بعد أن طرد زوجته الأولى وأم ولده.
مكان وزمان الرواية:
"يتحدد مكان أو فضاء السرد في "كافكا في طنجة" من خلال اختيار الكاتب مقاربة واقع متأزم لمدينة طنجة المتخيلة والواقعية في الآن نفسه، إذ يعلن السارد للمتلقي بأن طنجة التي سيشهدها كافكا هي غير طنجة التي تبدو في الواجهة، إنها مدينة العنف والدعارة والخيانة، وهو المكان الرئيسي للرواية، يقول:
وتسألون الآن أين تدور هذه الأحداث. يا لفضولكم اللامحدود. هل هذا مهم حقا؟ فليكن المكان هو مدينة طنجة. لكن بالتأكيد ليست مدينة طنجة التي تعرفون. هذه طنجة أخرى تشبهها. طنجة موازية لما تعدونه العالم الواقعي. إلا إن هذا التوازي لا يعني أنها خيالية. لنتفق من البداية على أن ثنائية الواقع والخيال نسبية تماما.
كما أن الرواية تستدعي أمكنة أخرى عبر التذكر والاسترجاع؛ وهي أمكنة ماضية متوازية مع الزمن المستعاد... كما المكان الذي ينحدر منه الأب والأم، والمكان الذي احتمى به بعد فعلته النكراء.. لابد من التوقف عند الفضاء في رواية "كافكا في طنجة" وتجدر الإشارة إلى أن عنوان الرواية قد جمع بين الشخصية والفضاء. هناك أفضية عدة شهدت أحداثا ذات وقع، سواء أكان ذلك في ماضي القص أم في حاضره. لنستعد المنطقة التي قدم منها محمد هاربا من زلته، تستمد مقوماتها الاساس من هامشيتها وأنها شهدت عنف المخزن، قد يكون هذا العنف وراء عنف الأب. لكن فضاء غرفة جواد هو المثير للانتباه كونه فضاء حريته بعد مسخه، ففيه يتحرك بحرية، ويطلق العنان لمخيلته ولأحلامه، ولرغباته، فضاء فر منه الجميع سوى الأخت التي ظلت متشبعة بأخوتها ومعترفة بفضله لكن في النهاية ستشعر بالتعب والنفور. شكل الفضاء فاعلا في النص، وكان العالم الكبير الذي تحرك فيه جواد، وصار ملكه الخاص الذي لا يقربه أحد، وبذا، صار له حيز حميمي لا يفضحه سوى من كان قريبا منه، وأقصد أخته التي طالعت الرواية وقرأت مصيرها من خلالها، أي بدأت تشعر بالتماثل بين احداث الرواية وأحداث أسرتها وهي من ضمنها.
أما زمان الرواية فهو متعدد لأنه يعتمد تقنية الاسترجاع، فيمتد على مسافة زمنية طويلة هي جزء من تاريخ المدينة ومن منطقة الشمال المغربي، وبالتحديد يمتد على مدار ثلاثة أجيال، مبتدئا من عام الجوع بمنطقة الريف الموطن الأصلي لعائلة البطل جواد الإدريسي وانتهاءً بالزمن الحالي في طنجة القرن الواحد والعشرين في وجهها المدرج بالمتناقضات والآلام."
ما سبب/أسباب انمساخ جواد؟
"رغم سلبية البطل، كما نرى في كل تفاصيل حكايته، إلا أنه يمكننا أن ننظر إلى تحوله كفعل واع، كنوع من التمرد على ضغط المسؤوليات التي رزح تحتها. أو هو تحول لا إرادي بسبب الضغط ذاته الذي صار بسببه كأنه عبد يعمل للآخرين فقط ولا يحصل سوى على الفتات. حتى زوجته سنعرف في النهاية أنها لم تكن مخلصة له. منذ البداية لم يربطها به غير المصلحة. اكتشاف تلك الحقيقة ربما هو السبب الذي عجل بتحوله حين طغى عليه صديده الداخلي."
عامل آخر ينضاف إلى مسابق، ويتمثل في قمع الإدارة لجواد في شخص المدير الذي مارس سلطته عليه بشكل مستمر ولم يبد جواد أي رد فعل مضاد حماية لشخصيته من الانهيار، ثم إن هذا المدير السلطوي اقتحم منزل جواد وتحدى الأب ودخل إلى غرفة جواد وشعر بفرحة عارمة لما صار إليه، وسارع إلى قطع الرزق عن هذه العائلة الغريبة بفصله من الوظيفة العمومية بشكل لا رجعة فيه. وما المدير إلا ممثل للدولة المخزنية القامعة التي تواجه الكل بعنف شنيع، وتقمع أي احتجاج، كما فعلت بمنطقة الحسيمة وضواحيها التي ينحدر منها أبوه. وتخزين العنف يدي إما إلى انفجار خارجي على شكل تمرد جماعي وإما إلى انفجار داخلي يقود إلى الموت البطيء. أو هو فعل مازوخي يمنح لذة واستمتاعا بتعذيب الذات.
وقد يكون الانمساخ جراء كل هذه الضغوطات فعل هروب للتخلص منها وترك الأب يواجه صعوبات الحياة كنوع من الانتقام السلبي.
ونرى أن خلف الانمساخ يقف عامل آخر إضافة إلى بقية العوامل المسرودة أعلاه، كيف ذلك؟
لم يمتلك أبو جواد مفتاحا ثانيا؟ الباب مقفل من الداخل، ولا أحد تمكن من فتحه من الخارج بسهولة سوى الأب، ألا يدعو هذا الأمر للريبة؟ فعل الإقفال من الداخل يوحي بعجز جواد وعدم قدرته على الإنجاب، فضلا عن زوجته لا تطيقه، بخلاف الأب الدي يمتل مفتاح الخارج وبه تم فتح زوجة ابنه، مما أفضى إلى ولادة مشوهة. لعل كل الأشياء التي اكتشفها جواد هي التي أثرت فيه فشعر بالخزي وأنه زبالة. صمته جعل داخله يمور غير قادر على ردة فعل تناسب حجم الخيانة التي تعرض لها سواء من أبيه ومن المجهول الذي نفخ بطن زوجته قبله فتسبب له في أزمة ضمير خفضها بالزواج من المرأة اللعوب.
لنضف إلى هذا المشهد ما يوضحه. جميع أفراد الاسرة سعوا إلى اقتحام غرفة جواد بعد سماعهم الصيحة، كل يريد أن يحطم الباب، فلم هذه الرغبة، وعلام تنطوي؟
لتفسير هذا السلوك لابد ان نشير إلى علاقة الأم وابنتها بزوجة الابن؛ إنها علاقة متوترة يطبعها التعالي من الزوجة والرضوخ من الأم وابنتها، مما ولد في نفسيهما كرها دفينا لم يجد الفرصة للتعبير عن نفسه إلا في هذه اللحظة، فهما معا أرادتا تكسير الباب بعنف يوازي العنف الذي يحملانه لزوجة الأخ، وكأنهما يرغبان بتحطيم الباب تحطيم الزوجة النكدة التي ظلت ممقوتة طوال الرواية إلا من طرف الأب الذي حين فتح الباب بمفتاحه سقطت نظراته على صدرها فرأى الثدي النافر. ولعل في تلك النظرة ما يحمل على تأكيد العلاقة غير السوية الجامعة بينهما. أما الأم فلم تحمل لزوجة ابنها بالتبني سوى المقت، وسارعت، لما علمت بتحوله، إلى اتهامها بأنها هي التي تقف وراء انمساخه. وستلتجئ إلى فقيه بغاية رفع هذه اللعنة لكن من دون جدوى، إنها لعنة تراجيدية كتلك اللعنات التي هدت ظهر أبطال الميثولوجيا الإغريق، من أمثل أوديب.
وقد تصاب الأخت بلعنة المسخ هي الأخرى جراء ما تختزنه بداخلها من إحباطات تجعل ردة فعلها غير متوقعة كما في لقطة غرامية عبر فيها عن مكنوناتها حين قامت بمحاولة اشباع رغبتها المكلومة والمدفونة سنين مع زميلها في العمل وقد قدم لمواساتها وف هاربا من الصدمة. هذا المشهد كما لو جاء ليعبر بشكل ما عن الصراع الداخلي لدى الانثى بين نزعة الموت ونزعة الحياة.
السارد الأكبر:
ينغمس السارد الأكبر في اللعبة السردية بصفته مؤطرا، ويتدخل في الأحداث والشخصيات بالرغم من أن لا علاقة له بها، لكنها رغبة البروز بدل التواري، فهو يحب أن يكون حاضرا كباقي الشخصيات حتى وإن لم يكن شخصية مشاركة تحرك الأحداث وتسير بها نحو التأزم والحل، ولا علاقة تربطه بالشخصيات، فهو غريب عنها، لكنها تلك الرغبة الساكنة في النفس، لا تشعر بقيمتها إلا إذا أسمعت صوتها. نعم، يكسر سيرورة الأحداث، ويوقف الحركة من أجل أن يخبر القارئ بأمر ما. وبذلك يحقق هوى النفس بتحسيسها أن له دورا مهما، ومن دونه لا يكون هناك حكي ولا يمكن أن تستقيم الرواية من دونه. إنه بذلك يمنحنا فرصة إدراك أن الكتابة الروائية لعبة تخييلية تعيد بناء الواقع وفق قوانينها؛ وقوانينها متجددة لا تستقر على حال، فكل مرة هناك بناء جديد، وتقنيات جديدة، لكنها لا تفك ارتباطها بالفن الروائي إذ تلتزم بجوهر مقوماته ألا وهو الحكاية، وإن سار بعض المبدعين إلى الإزراء بها بعدم الاهتمام بها لكن هذا الفعل ظل محدودا ولم يجد له أتباعا فبقي حبيس تجربته.
يتلاعب هذا السارد بالشخصيات وبمصائرها، من جهة، ومن جهة أخرى يورط القارئ في لعبة القراءة والتأويل، منذ الصفحة الأولى، ويشركه في صناعة الحدث. كما لا تخلو الرواية من مواقف مضحكة وخفة ظل غير مباشرة وسخرية مبطنة من النفاق المستشري في المجتمعات العربية. *
وتشاركه في تسيير دفة الحكي كل من الأم وابنتها، غير أن ما يميز سرد الأخت هو السرد الكرونولوجي المعتمد على تواريخ محددة بالسنة واليوم، وكأنه سرد يروم الإيهام بواقعيته.
التناص او الإحتذاء:
تتعالق الروايتان، رواية كافكا في طنجة" ورواية كافكا، وهذا التعالق يفسح مساحة لقول إن الواقع ليس بالضرورة ما نعيشه بل ما نقرأه أيضا، فالرواية الكفكاوية هي التي حرضت الكاتب على اقتراف روايته، فكان أن صار جواد مسخا هو الآخر، ولتمتد خيوط الرواية الكفكافوية إلى الأخت التي قد تصاب هي الأخرى بلعنتها وتعاني اللوثة نفسها، الأخت التي تمارس فعل الكتابة رغم ظروف القسوة.. فمن أين جاءت لغنة المسخ؟ من الأب المتفسخ الذي مد شهوته إلى زوجته فكان أن أنجبا وليدة معاقة. وجواد حين اكتشف أنه مصاب بالعقم كتم غيظه، فتسرب الألم إلى داخله ليفعل فعلته، ويحوله مسخا بدل أن يفجر غضبه في هذا الأب القاتل منذ طفولته، والعاشق للنساء.. والمتدين الأجوف، والمسيحي بقليل من التربية. طبعا، سيكتب العمل تشوهات واقعنا المحلي والعربي والعالمي، من خلال جرد عدد من الأحداث ذات الوقع، ومنها أحداث شتنبر التي طالت العالم بأكمله وغيرت تاريخه، ومنها انتفاضة 20 فبراير.. إلخ من الأحداث الجشام.
إن رواية كافكا في طنجة" لا تسير حذو نعل رواية كافكا، بل إنها تستضمرها، وعبق تاريخنا حاضر بها، المعاصر والما قبله.
تقول الأستاذة مريم سليماني، في مقالها عن الرواية بهذا الخصوص: اختيار الكاتب رواية كافكا قناعًا يعني أن روايته القصيرة، "كافكا في طنجة"، ورثت تلقائيا كل حمولة النص الأصلي حتى وإن لم تشر لتلك الثيمات بشكل مباشر، وهذه نقطة قوة منحت للنص الجديد آفاقا للتأويل لا نهائية. يلمح الكاتب إلى هذا القناع بطريقة غير مباشرة بعنوان الفصل الأول عن الحكايات المتشابهة منذ بدايات الحضارة. جاء عنوان الفصل "البطل ذي الألف وجه" تلميحا مباشرا إلى كتاب جوزيف كامبل، البطل بألف وجه، وهو دراسة تقارن ما بين قصص الأساطير القديمة وقصص الثقافة الغربية المعاصرة. يناقش كامبل نظريته عن رحلة البطل النموذجي الموجود في الأساطير العالمية وتشابه أغلب الأحداث التي يواجهها البطل أثناء مغامرته. هذا القناع، أو المحاكاة، هو أحد عناصر رواية ما بعد الحداثة، وقد استخدمها الكاتب في روايته الأولى بحنكة من خلال الاعتماد على راو غير بشري، كائن الحكي الذي أوحى إلى كافكا نفسه كما لكتاب غيره من قبل ومن بعد. المَعلم الآخر من معالم رواية ما بعد الحداثة هو الإشارات المرجعية إلى الروايات الأخرى في عناوين الفصول كما في المتن، وهنا تنفتح الرواية على روايات أخرى متعددة وتتعالق معها لتمنح للنص مستويات تأويل إضافية وللقارئ تمنح متعا لا محدودة للقراءة. كذلك تأتي سلبية البطل، أو البطل النقيض لو شئنا الدقة، مع التشظي في السرد معالم أخرى من رواية ما بعد الحداثة.
ولم يكن ذلك العنوان الروائي هو الوحيد الذي تم اعتماده في فصول الرواية، بل هناك عناوين أخرى تحيل على أعمال غير جديدة
قضية الخرافة:
حين يصبح الناس عاجزين أمام الواقع المعقد ييحتمون بالحلول الغيبية والخرافية التي تمثل بالنسبة لهم قوة خارقة قد تنجح في مقاومة السحر وفتح الاقفال، وتغيير شروط عيشهم، إنها حلول غيبية وتواكلية واستكانية غيبية يغذيها انتشار الفكر الخرافي في كل الطبقات الاجتماعية." ولم تنفلت الأم من هذا التأثير، ولم تخرج عن هذه القاعدة؛ فقد سعت إلى التعامل مع واقعها بمنطق سحري؛ فهي لا ترى في انمساخ ابنها نتيجة وامل خارجية وداخلية أثرت فيه فكان أن صار مسخا، بل ترى أن مسخه جراء عمل شيطاني، لذا التجأت إلى فقيه ليبطله.
هذه الأم تمثل الإيمان الشعبي الذي لا يرى تناقضا بين الدين والخرافة، فالمنطق السحري هو الجامع بينهما في وحدة لا تناقض فيها. فالعالم غامض وفك غموضه لا يكون إلا من طريق السحر:
قضت ليلتها الأولى مستلقية على ظهرها بجانب زوجها النائم، تردد بعض الأدعية التي تحفظ وسور القرآن القصيرات التي حفّظها لها جواد بصبر وأناة لأجل أداء الصلوات. يأتي شخير زوجها ليخرجها من تركيز الأدعية والآيات فتنتقل إلى الدعاء بالسخط وإلقاء اللعنات على جارتهم التي لا شك سحرت ابنها، ثم سرعان ما تتوقف عن التمادي وتستغفر الله عائدة إلى الأدعية والمعوذتين، إلى أن يخرجها شخير زوجها مجددا من تركيزها.
شخصية الأم:
ولدت في حي مرشان، وتعود أصولها إلى قرية بني بوفراح المتاخمة للحسيمة. جاءت عائلتها هربا من المجاعة فاستقرت عاما في تطوان حيث اشتغلت والدتها خادمة لدى عائلة إسبانية، ثم شدت العائلة الرحال مجددا فنزلت بطنجة حيث لم يكن الوضع أفضل. مرت فاطمة بسنوات من المعاناة والفقر والحرمان خلال طفولتها ومراهقتها، لذلك حين جاءها محمد الإدريسي، المنحدر من القرية نفسها، خاطبا لم تتردد ووافقت فورا، رغم أنه جاء وبين ذراعيه رضيعه الذي بالكاد أكمل عاما.
هذا المقطع من الرواية يوضح بساطة الأم وسذاجتها وقبولها الزواج نظرا لظروف أسرتها الصعبة، فالزواج بالنسبة لها ولهم خلاص، وليس غريبا والحالة هذه أن يكون تفكيرها بسيطا وتدينها شعبيا وميلها إلى تفسير الواقع سحريا لا واقعيا.
ملمح الطرافة:
يصور لنا السارد استغراب فاطمة لما طلب منها المشعوذ أجرا كبيرا مترحمة على الأيام الخوالي حيث كان الفقهاء قنوعين، كما يصور لنا فعل الفقيه حين مدته زبونته بالورقة الزرقاء، تصوير يحمل الكثير من النقد وفي الوقت نفسه يولد لدى القارئ ضحكا من جشاعة مثل هؤلاء الفقهاء:
قامت الأم ووضعت عشرين درهما في يد الفقيه، فزعق الفقيه ورماها كأنها جمرة مشتعلة، ثم صرخ بصوت مرتفع مستعيذا بالله من الشيطان وقال إن سحر ابنها سحر صعب تطلب منه جهدا جهيدا، والجن الأزرق الذي يخدمه لا يقبل إلا أزرقا. استدارت الأم وأخرجت من صدرها محفظتها وأخرجت منها الورقة النقدية الزرقاء وتحسرت على الأيام الخوالي التي كان فيها الفقهاء يقنعون بخمسة دراهم. الآن يطلبون مئتي درهم. اختطف الفقيه ورقة المئتي درهم من يدها وابتسم لها كاشفا عن أسنانه النخرة. ”إنه الغلاء سيدتي. حتى أسيادنا الجن يعانون من الغلاء.“
ويقوم السارد، أيضا ، برصد نوع من الوعي الجنيني من سخافة الشعوذة لدى فاطمة سرعان ما يخبو؛ فقد علمت أن الحجاب لم يقدم الحل المطلوب، فعزت له قدرات الإتيان بفعل معاكس؛ أي أنها لم تخرج من دائرة الشعوذة المغلق:
ستتحسر المسكينة فاطمة قريبا على ذلك المبلغ الفادح حين تجد أن الحجاب الشافي جاء بأثر عكسي. فقد رأت، بعينيها اللتين سيأكلهما الدود، كما حكت لاحقا لامرأة عند فقيه آخر، بأنها ما إن تسللت عصرا إلى غرفة ابنها، وقد حمدت الله أنه كان نائما مجددا، ووضعت الحجاب تحت مخدته حتى رأت حاجبيه ينموان بشكل مخيف. تجمدت برهة مصدومة مرتعبة، ثم مر الخاطر برأسها فجربت أن تخرج الحجاب من تحت المخدة ورأت، لعجبها، أن شعر الحاجبين عاد لحجمه. وضعت الحجاب مجددا، وهذه المرة رأت اللحية تطول وتطول حتى تدلت على الفراش. قاومت بصعوبة ألا تسقط فاقدة الوعي وسحبت الحجاب مجددا، فعادت اللحية تقصر كما كانت من قبل. قررت أن تحرق الحجاب وتبحث عن فقيه آخر. وهو أمر سيتكرر من فقيه إلى آخر طيلة شهرين، قبل أن تقرر في الختام الاستسلام لقضاء الله وقدره.
شخصية جواد محور العمل الروائي:
اسمه جواد الإدريسي ا يشتغل معلمًا في الفترة الصباحية، وبائع خضراوات في المساء. تخلى كعادة الابن البكر في الأسر العربية التقليدية، عن دراسته الجامعية وطموحه الشخصي إلى أن يتخرج ناقدًا أدبيًّا، واشتغل ليعيل أمه وأخته، بعد أن اعتزل والده العمل واقتعد سجادة الصلاة متفرغًا للعبادة والاستغفار عن سنوات عاشها بصخب.
لكن بعد خمس سنوات من الإخلاص المستسلم للواجب الأسري، وبعد أن تعود جواد ونسي أحلامه الشخصية، سيجد نفسه قد صار مسخا. ومن هذا الحدث الأكبر ستتولد أحداث وتستعاد أخرى. تحول جواد مسخا شيطاني بقوى سحرية لن يعرف عنها جواد شيئًا وهو يستيقظ كل صباح لا يتذكر شيئًا مما حدث الليلة السابقة. الآن يفقد جواد نفسه ويفقد وظيفته وتفقد أسرته معيلها. لقد صار الآن هو ذاته عالة على أسرته، ولم يعد أمامه إلا أن يُضحي بنفسه ويقدم حياته خلاصًا لمعاناة الأسرة وأسرارها الدفينة التي برزت إلى السطح.
قضية السلبية:
لم يكن جواد الوحيد في الرواية الذي يتمتع بخصلة السلبية، بل المجتمع بأكمله يعيش تحت سقف هذا النمط من السلوك، إنه يهرب من مواجهة واقعه بما يلزم من الجدية والمسؤولية، إلى الصمت والتغاضي، كما في هذا المشهد حيث يتم التغاضي عن حقيقة ما وقع بتبرير مريح، تقول الرواية:
صفق القرد في النافذة بمرح وحك إبطه باستمتاع [...] ثم صوب نظره أقصى اليمين، عند نهاية البوليفار، حيث صرخت كوابح سيارة رياضية مستنكرة التوقف المفاجئ. خرجت من الباب المجاور للسائق شابة تلبس تنورة قصيرة بالكاد تغطي استدارة ردفيها، وقميصا فوق سرتها بالكاد يغطي السواد المحيط بالحلمتين. صفقت الباب بقوة وشتمت السائق الذي خرج وصرخ فيها بوصف العاهرة. توقفت واستدارت إليه لترد وصف العهر لأمه. انحنى داخل السيارة وخرج بمسدس في يده. صوبه إلى صدرها. تجمدت المرأة في مكانها واعترى الرعب حامل المسدس الذي بدا أنه يصارع قوة خارجية تتحكم في يده. أراد أن يرخي قبضته على المسدس لكن أصابعه ضغطت الزناد. ارتخت يده أخيرا وسقط المسدس. دخل سيارته وهرب كأن الشياطين تطارده. خرقت الرصاصة سكون الليل فبدأت بعض الأنوار تظهر من النوافذ وبعض الرؤوس تطل باحثة عن مصدر الصوت الغريب. رأى بعضهم جثة فتاة الليل المكومة على الرصيف [...] فحسبوها مجرد متشرد نائم هناك كعادة المتشردين في ظلمة هذه المدينة [...] عادت الأنوار لتغمض عينيها وتستكين تحت جناح الليل، وبدأ القرد ينزلق عبر نوافذ المبنى نازلا إلى الشارع قاصدا مهمة، لن يعرف عنها بطلنا شيئا رغم أنه حين سيستيقظ صباحا سيجد يديه ملطختين بدم غريب ولن يعرف كيف أتت تلك الدماء إلى يديه.
والمقطع نفسه، يمنح للمسخ فسحة ممارسة أنشطته الليلية المريبة، ويعدو إلى الغرفة ناسيا كل ما جنته يداه الملطختين بالدم؛ إنها غيبوبة الفرد وغيبوبة المجتمع التي تشجع على ارتكاب الفظائع من طرف الأفراد كما من طرف الدولة المخزنية.
الأب وقناعه:
ظل الأب متخفيا وراء أقنعته، فلا أحد علم بجريمته التي ارتكبها، وبقي يمارس في الظل انشطته الغرامية، وحتى حين جاء لخطبة فاطمة ادعى كذبا أن أم ولده قد توفيت:
أخبرهم الخاطب أنه أرمل توفيت زوجته وتركت له الرضيع جواد. في ذلك الزمن لم يكن بالإمكان التحقق بسهولة من ذلك. وستعرف فاطمة، بعد سنوات، أنه كذب. لم يكن أرملا. تخلى عن زوجته في تطوان وجاء حاملا ابنهما، تاركا المرأة المسكينة تجوب الشوارع، تفترش الأرصفة، وتسأل المارة إن رأوا وليدها جوادا. بقيت مشردة أشهرا إلى أن صادفتها إحدى الراهبات الإسبانيات فأخذتها واعتنت بها.
أب متسلط يمارس عنفه على المحيطين به، بدءا من زوج أمه ووصولا إلى ابنته التي فرض عليها الشغل لتعيله بهد أن فقد جواد مصدر رزقهم، ولم تسلم لا زوجته الأولى ولا زوجته الثانية من تسلطه وعنفه المادي والمعنوي، كما أن جواد وجد نفسه مضطرا للتخلي عن أحلامه ليتولى مسؤوليات المنزل بعد تقاعد هذا الأب.
الاكتشاف الصادم:
ستكتشف فاطمة حقيقة زوجها بعد سنوات:
بعد سنوات ستعرف أم جواد طريقها إلى بيت فاطمة، وسترفض فاطمة، التي ستعاني من العقم لسنوات قبل أن تحبل بهند، أن تعيد لها ابنها. لسببين، أولا هي اعتنت بالطفل لثلاث سنوات وما عاد بالإمكان فصله عنها، إنه ولدها الآن شاء من شاء وأبى من أبى. وثانيا هي لن تسلم طفلا مسلما لامرأة غيرت دينها وتحولت إلى المسيحية. أول ما فعله الأب عند عودته هو جر زوجته الأولى من شعر رأسها ورميها خارج البيت حافية. لم تتقبل فاطمة ذلك العنف من زوجها تجاه زوجته الأولى، التي ما تزال في ذمته، إلا أنها بقيت خرساء صامتة. كانت خائفة من مثل ما فعل بزوجته الأولى ويأخذ منها جوادا. بعد ذلك بأيام قليلة حملوا أثاث بيتهم القليل وارتحلوا للاختفاء في الحي الشعبي بئر الشعيري.
الأخت:
هند طالبة مجدة ومجتهدة ولامعة في دراستها وذات طموح، تعترف بدور أخيها في تفوقها بيد أن تحوله قضى على أحلامها لتجد نفسها تنقطع عن دراستها قصد العمل من اجل إعالة أسرتها تحت ضعط الأب الذي لم يكون يرى دراستها بعين الرضى؛ ولعل سعيه في إيقاف مسيرتها والقضاء على حلمها رغبة دفينة في قمع نوم أي وعي لدى المرأة؛ لأن ذلك يشكل خطرا على مصالحه، وضمنا على مصالح المجتمع.
ستعمل نادلة في مقهى يعود لصديق أبيها، وستمارس عملها بفتور، وستتعرض لتحرشات الزبائن الأمر الذي أغاظ جواد وفكر في الانتقام من المتحرشين، ولربما غزواته الليلية تدخل في هذا المجال.
تعاملت هند بحنو مع أخيها المسخ، لكنها مع توالي الأيام ستحمله مسؤولية وضعيتها، وتتراخى في تعاملها معه.
بفضول، وهي عاشقة الأدب، وممارسة له، ستمد يدها إلى الكتاب الذي كان يقرأه أخوها، وستقرأ من خلاله واقعها المستقبلي:
أخرجني من خواطري صوت التنبيه من الهاتف فقرأت رسالة أيمن يسألني عن سر الغياب وإذا كان بإمكاننا اللقاء. تأملت في رسالته عميقا وفكرت في قصة كافكا الغريبة التي تكاد تتحقق بحذافيرها على أسرتي.
ساهمت بصوتها في سرد أحداث الرواية وأخذت نصيبها منه، وتميز سردها بالتسلسل الكرونولوجي ، سرد يقترب من اليوميات إن لم يكن هو نفسه يوميات.

.
.
بلغة متينة ذات تركيبات جزلة وكلمات سهلة الفهم في متناول كل القراء. وبسرد مشوق، وقدرة بارعة على الحكي المتنوع، صيغت الرواية، وتضمنت أحداثا مشوقة، وصادمة، تلك التوابل تحثك على تناولها في جلسة واحدة ولا تفلتها من يدك إلا بعد إتمامها.*
تميزت الرواية بالتكثيف والدقة في السرد بعيدا عن الإطالة والترهل، وهي على رغم قصرها، متعددة مستويات التأويل ومزدحمة بأحداث مثيرة تشبه روافد نهر يصب آخر الأمر في بحر الرواية التي تستمر منذ السطر الأول وحتى السطر الأخير في الشد والجذب من شخصية إلى أخرى ومن زمن إلى آخر متنقلة إلى الأمام حينا وإلى الوراء تعود حينا آخر..
اتبعت الرواية نمط السرد الخيالي والغرائبي متجاوزا الحدود الزمنية والمكانية بل والمنطقية أيضا ليعبر عن واقع هو أكثر إيغالا في التيه والعبث. واعتمدت تقنية التشظي للتعبير عن تشظي واقعنا المغربي والعربي من خلال تشظي الشخصيات وتمزقها.


**

* من قراءة للناقدة مريم زرهون.


1713614364605.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى