باسل علي الخطيب - ما بين اليبرق والاندومي...

لطالما كانت عندي قناعة أن بعض الطعام وطن، و أن بعضه حضن....
تحتاج طبخة ورق العنب (اليبرق) الكثير من الجهد و الوقت، و الاهم من ذلك الكثير من الحب و الحنان حتى تصير جاهزة، و هكذا طبخة لا تكون لذيذة طبعاً إلا والعائلة كلها مجتمعة.....
لدينا في المقابل (الإندومي)، بعض الماء الساخن و وعاء ماء، و خلال أقل من دقيقة تصير جاهزة، و تأكلها لوحدك....
و إن كانت طبخة اليبرق و شبيهاتها بعض وطن كما قلنا، فكأن الإندومي بتلك المعايير بعض غربة.....
لم يكن الطعام يوماً طعاماً فحسب، إنما ثقافة و طريقة حياة، و عندما نتحدث عن اليبرق و الإندومي، فنحن لانقصد الطعام طبعاً، إنما نتحدث عن ثقافتين، ثقافتان متناقضتان بالمطلق، أحدهما تضمحل هي ثقافة اليبرق، و الأخرى تتمدد و تتسيد هي ثقافة الاندومي...
خذوا علماً أيها السادة، نحن في عصر ثقافة الاندومي، حيث تطفو على السطح و تتسيد المشهد السفاهة و التفاهة و المكونات الضارة و الاعشاب الخبيثة و الطحالب و القشور.....
لم يعد أحد يطيق أن يقرأ كتاباً او حتى مقالاً لا يتعدى الخمسة أسطر، ومع هذا تراه يناقش في كل شيء تطاله أذناه أو عيناه، يؤمن و يعتقد أنه يكفيه أن يقرأ اقتباساً من هنا، أو جملة من هناك، أو بضعة كلمات عن احدهم، و قد صار مثقفاً لا يشق له غبار، يحلل لنفسه أن يفتي في كل شيء.....
في ثقافة الاندومي ما عاد هناك من اعتراف بمقام علمي أو رتبة معرفية، كل الصغار الذين حفظوا جملتين صاروا محللين و علماء و مفكرين في أي أمر كان، يفتون و يحكمون في أمور السياسة و الاقتصاد والعلوم واللغات والدين وغيرها، ولايقيمون رأياً لصاحب فكر ومعرفة وخبرة.....
في ثقافة الاندومي كم كبير من المعلومات، فحيثما أدرت وجهك تستطيع الحصول على الكثير من المعلومات، ولكن و هنا تكمن المفارقة العجيبة هذا يتناسب عكسياً مع مقدار المعرفة المكتسبة، لانه في هذه الثقافة ارتاحت الناس للاختصارات و الاختزالات و الاقتباسات، واعتبرت أنها تغنيها عن اكتساب المعارف و العلوم على أصولها، لأن ذلك يحتاج وقتاً وجهداً و صبراً وعقلاً، و صارت تلوك الجمل التي حفظتها و كأنها كل العلم أو المعرفة في موضوع ما.....
في ثقافة الاندومي الكل يكتب، و لكن قلة قليلة جداً و جداً و جداً تقرأ، قلة قليلة و من تلك القلة تتدبر أو تفهم ما تقرأ، يحدثونك عن الصين وتايوان، وهم لايعرفون أين تقع تايوان، تقيس تلك الرعاع كل تلك القضايا المعقدة على قياس تلك الخليتين اللتين يستعملهما في مخه لمحاكمة الأمور،...
يقدم البعض نفسه محللاً سياسياً يقيم الحرب في أوكرانيا، وهو لايعرف الفرق بين روسيا و روسيا البيضاء، بعضهم لاتكاد ثقافته أو معرفته تصل إلى ركبتي مصطفى لطفي المنفلوطي ولكن يناقش في نظرية النسبية، أحدهم يضع صورة لتشي غيفارا ويظنه مغني راب ما....
بعضهن يكون أقصى ما قرأنه هي قصة ليلى والذئب، وبضعة ابيات شعر لنزار قباني، وصاروا شاعرات وأديبات وكاتبات تصدر لهن الدوواين...
على فكرة هذا هذا النمط ياتيك دائما مع الكعب العالي والشفاه المنتفخة....
في ثقافة الاندومي يحشر رجل الدين أنفه في كل شيء، وكأنه بتلك الكلمتين اللتين حفظهما قد ملك علوم الأولين والآخرين، يجله الناس ويتحسسون جلبابه ويقبلون يده بركةً وطاعةً، يتقدم المجالس وله صدرها، أياً كانت المجالس، وهو بالكاد يركب جملة مفيدة، أو لديه دراية خارج حدود تلك الآيتين اللتان حفظهما، والأنكى من ذلك أنه لا يكاد يتوقف عن هجاء ذاك الغرب أو الشرق الكافرين، وكل مايلبسه أو يحمله أو يركبه هو نتاجهم، ليقول لك إن حشرته بسؤال لئيم " سبحان من سخر لنا هذا".....
في ثقافة الاندومي تخرج هذه وتخرج تلك ليحدثننا عن الأبراج، ليصير لقبهن لاحقاً عالمات فلك....
نعم، في ثقافة الاندومي تم استرخاص الألقاب، تصدر احداهن أغنية و صار اسمها الفنانة النجمة، يكتب أحدهم كلمتين، وصار يلقب بالمفكر، تخربش احداهن بضعة كلمات مبهمة، وكل كلمة تأخذ حيز سطر، وصار لقبها الشاعرة، يسرق أحدهم مقالاً، ولايجيد سرقته حتى، صار اسمه عالماً، يلقي أحدهم خطبة الجمعة عن عذاب القبر، صار اسمه علامة.....
نعم، تتناسل تلك الألقاب ويتم توزيعها بالمجان...
الخبير الاستراتيجي، الجهبذ التكتيكي، الفطحل الاقتصادي، النجم، النجمة، العالم، المفكر، العارف، العلامة، الاستاذ، الاديب، الدكتور، ابو الفقراء، سفير الانسانية، وزير الاحسان.....
ويسالونك أين هي البضاعة الجيدة؟؟...
ايها السادة، لقد طردتها البضاعة الرديئة. ...
أهلاً وسهلاً بكم إلى عالم الاندومي والأندوميين......

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى